لو كنا سمعنا في المرحلة السابقة على اتفاق اوسلو ان وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية سي آي إي ستتسلم دوراً رئيسياً في الضفة الغربيةوغزة لما صدقنا الخبر. أما الآن بعد قمة "مزرعة واي" فقد اعطيت الوكالة هذه المهمة، وهو ما يتيح لنا القاء نظرة على بعض متضمنات هذا القرار الغريب. كان من الأفضل للولايات المتحدة، كما أرى، الغاء "سي آي أي" قبل عقود، تماما مثلما الغت بريطانيا "ادارة العمليات الخاصة" بعد الحرب العالمية الثانية. ذلك ان منظمات سرية من هذا النوع، مع كل فوائدها اثناء الحرب، تشكل خطرا في مرحلة السلام. كما اعتقد ان سجل "سي آي إي" يدعو الى التساؤل، خصوصاً انها بدت احيانا تعمل ما يحلو لها من دون سيطرة سياسية تذكر، ومن دون اهتمام بالقانون الدولي. هل عززت "سي آي أي" صورة أميركا في الخارج؟ الجواب بالتأكيد هو النفي. "سي آي إي"، مثل بقية اجهزة الاستخبارات الأخرى، تواصل البحث عن دور جديد بعد نهاية الحرب الباردة. ولا بد ان الكثيرين من كبار مسؤوليها يعتبرون ان مطاردة المتشددين الاسلاميين تشكل بديلا مناسباً تماماً لدورها السابق ضد الكتلة السوفياتية. لكن الكثير من المراقبين خارج الولاياتالمتحدة يشكك في صلاحية الوكالة لهذه المهمة، لأنها لم تبرهن بعد على قدراتها في الشرق الأوسط، خصوصاً بعدما واجهت اخيرا كارثة حقيقية عندما طردها الرئيس صدام حسين من شمال العراق. وتعتمد الوكالة الى حد كبير على اجهزة الاستخبارات الاسرائيلية الثلاثة، "آمان" و"موساد" و"شين بيت". وسمعة "موساد" حالياً في الحضيض بعد سلسلة الاخطاء والتجاوزات التي ارتكبها في الآونة الأخيرة. كان ل"سي آي أي" بعض العلاقة بالضفة الغربيةوغزة قبل "اتفاق واي"، لكن الوكالة اعطيت بموجب الاتفاق موقعاً اكثر اهمية بكثير. ولا شك في ان الأميركيين يعتبرون ذلك تطوراً منطقياً للوضع السابق، لكن هذا بالتأكيد لن يكون موقف "حماس"! فلماذا لم تحدد الأطراف الثلاثة في اجتماعات واي فريقاً امنياً دولياً تساهم فيه "سي آي إي"؟ ولا بد ان الكثير من الفلسطينيين يتساءل الآن عما اذا كان هدف الوكالة الآن السيطرة على ياسر عرفات أم مساعدته على ضبط الوضع الأمني؟ مهمة مدير "سي آي أي" جورج تينيت ومساعديه صوغ خطة لمكافحة الارهاب وتقديمها الى السلطة الفلسطينية. كما ان للوكالة مهمة اضافية هي ابقاء ارهابيي "حماس" في سجونهم الفلسطينية المظلمة بدل الوضع السابق عندما كانوا يعتقلون ثم يطلقون دورياً. في 30 من الشهر الماضي طرحت صحيفة "انترناشنال هيرالد تربيون" اسئلة تثير القلق في الأوساط البرلمانية البريطانية، مثل: "هل يجب على الولاياتالمتحدة، في تشجيعها الفلسطينيين على شن الحرب على الارهاب، دعم الاجراءات القضائية السريعة لكن الوحشية التي تقوم بها المحاكم الأمنية الفلسطينية، بالمحاكمات العاجلة التي تعقد في احيان كثيرة بعد منتصف الليل ومن دون محام للمتهم؟ هل عليها اثارة قضية التعذيب في السجون الفلسطينية، حيث لاقى عشرون فلسطينياً حتفهم في السنوات الأخيرة؟". ستجد "سي آي إي" نفسها في وضع صعب في المواجهة الحالية بين "حماس" والسلطة الفلسطينية. وسيعتبر الفلسطينيون منفذي تعليمات الوكالة عملاء لها، فيما سيعتبرون مسؤوليها انفسهم عملاء ل "شين بيت". وستجد الوكالة نفسها في مأزق لا مهرب منه. فكلما تزايدت فاعليتها في مطاردة "حماس" تزايد تأييد الفلسطينيين في معسكرات غزة ومدن وقرى الضفة الغربية للمنظمة. كما اعتقد بصحة رأي باسم عيد، مدير منظمة حقوق الانسان الفلسطينية، عندما قال ان "اشتداد الملاحقات ل"حماس" سيؤدي الى تكثيف سعيها للانتقام من الاسرائيليين، لأنهم حماس يرون ان الضغوط الاسرائيلية تحاول تفجير صراع داخلي في المجتمع الفلسطيني". شخصياً، لا اعتقد ان السلطة الفلسطينية ستتمكن بمساعدة "سي آي إي" من السيطرة على "حماس". وبيَّن استطلاع للرأي في الضفة الغربية الشهر الماضي ان 51 في المئة من الفلسطينيين يؤيدون "الكفاح المسلح"، أي بزيادة 30 في المئة منذ بداية السنة. هكذا فإن الرياح، كما يبدو، تسير كما تشتهي "حماس" وربانها الشيخ أحمد ياسين، بفعل سقطات قيادة ياسر عرفات وفشلها والتقارير عن الفساد على اعلى المستويات. وهناك موافقة شعبية واسعة على اتهام "حماس" الرئيس عرفات بالافراط في التنازل امام أميركا واسرائيل في "مزرعة واي"، وتأكيدها ان اسرائيل ستنشئ المزيد من المستوطنات. كما لاحظ الفلسطينيون ان الاتفاق لا يحدد جدولا زمنيا لاطلاق سراح ما يزيد على ثلاثة الاف فلسطيني يقبعون في سجون اسرائيل. ولا شك في ان من السخف الاعتقاد ان تكثيف حضور ودور وكالة الاستخبارات المركزية سيكفي للتغلب على عقود طويلة من التعنت الاسرائيلي والعجز السياسي الأميركي. * سياسي بريطاني، نائب سابق من المحافظين