الاعتراف الذي أدلى به العديد من المسؤولين العسكريين والسياسيين الإسرائيليين، وآخرهم رئيس «الشاباك» (جهاز الاستخبارات العامة)، يوفال ديسكن، بفشل إسرائيل في ملف الجندي الأسير في غزة، جلعاد شاليط، جاء ليزيد من الضغط الشعبي الذي يتعرض له رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو، من الإسرائيليين مع التفاف الآلاف منهم حول عائلة الجندي ومشاركتهم في مسيرتها، التي انطلقت من بيتها في الشمال حتى تصل الى القدس، مقابل منزل رئيس الحكومة للاعتصام هناك تحت شعار «لن نعود من دون شاليط». والحديث عن الفشل غير مفاجئ للإسرائيليين لكنه يعكس حقيقة مناقضة للأجواء والتصريحات التي حرص القادة على الترويج لها منذ اربع سنوات على الأقل: مع انتهاء حرب تموز (يوليو) عام 2006، أي بعد شهرين من أسر شاليط وصولاً الى حرب غزة بعد ثلاث سنوات، وحتى هذه الأيام التي يتغنى بها الإسرائيليون في قوة ردعهم ونجاح أجهزتهم الاستخبارية، سواء في لبنان أو غزة. فمرور أربع سنوات من دون أن تتمكن إسرائيل من إعادة جندي محتجز في منطقة تبعد بضعة كيلومترات عن حدودها الجنوبية، يعكس ضعفاً وعجزاً واضحين لدى مختلف أجهزة الأمن. وإذا كان ديسكن قد اكتفى في الاجتماعات الداخلية بالاعتراف بالفشل فان مسؤولين أمنيين سابقين يعترفون بأن هذا الاعتراف هو الفشل بعينه. ولم يتردد أحدهم، رفض الكشف عن هويته، في خلال إحدى المقابلات معه حول النشاط الاستخباري لإسرائيل، بأن يقول إن وجود شاليط لدى «حماس» أربع سنوات انما يشكل إهانة ومساً في هيبة أجهزة الاستخبارات. وبرأيه أن الرد على ذلك يكون عبر التدريب على عملية لإنقاذ شاليط وتنفيذها حتى وإن كانت تشكل خطراً على حياة الجندي. وأضاف: «أنا أرى أن بقاء شاليط في الأسر فترة أطول هو أمر غير مقبول ومهين لإسرائيل. يجب بذل كل جهد لإمساك طرف خيط يوصلنا الى مكانه ثم تنفيذ عملية مهما كان ثمنها... نعم وإن أدت الى مقتل شاليط». وليس صدفة أن يرفض هذا المسؤول الأمني الكشف عن هويته، فهذا الحديث يعكس مختلف الاحتمالات المطروحة على طاولة المفاوضات الداخلية الإسرائيلية لجهة كيفية التعامل مع ملف شاليط. وهو أيضاً يضع علامات سؤال أمام نتانياهو في وضعه استراتيجية للتعامل مع ملف الأسير. وفي الوقت نفسه فإن تصريح هذا المسؤول لا يتناسب مع تصريحات لوزير الدفاع ايهود باراك أو لرئيس الأركان غابي اشكنازي ولمسؤولين عسكريين وسياسيين آخرين، أعلنوا فيها حرصهم على إعادة شاليط حياً والقيام بواجبهم في حماية الجنود عندما يرسلون في مهمة. وبحسب ما شدد وزير الدفاع الأسبق، شاؤول موفاز، فان على القيادة بذل كل جهد حتى لا يشعر الجندي أن الدولة تخلت عنه. وقال: «نحن ننظر إلى جنودنا وفي أعينهم، ونقول لهم أنه في حال وقعتم في الأسر فإننا سنعيدكم. أن دولة تتخلى عن أحد أبنائها، أبناؤها سيتخلون عنها». استراتيجية التعامل مع الملف الإصرار الذي أبداه نتانياهو منذ اليوم الأول من انطلاق مسيرة العائلة زاد من الانقسام الداخلي في إسرائيل حول هذا الملف ومن القلق لدى عائلة الجندي والداعمين لموقفها في الإفراج عنه. وقد رفعوا صور الطيار الإسرائيلي رون آراد، الذي سقطت طائرته في لبنان وألقي عليه القبض حياً ثم اختفى وما زال مفقوداً، وفي هذه الخطوة تظهر العائلة قلقاً حقيقياً على مصير شاليط. فما كشفه أحد المواقع الإسرائيلية المقربة من أجهزة الاستخبارات، يؤكد أن «موساد» وأجهزة الاستخبارات يبحثون عن بدائل لشروط «حماس» في الإفراج عن أسرى أمنيين باختطاف شخصيات كبيرة من حماس وجعلها ورقة مساومة للإفراج عن الجندي. والإسرائيليون يدركون أن مثل هذه التجربة فشلت في السابق في ملف آراد عندما تم اختطاف مصطفي الديراني والشيخ عبد الكريم عبيد من لبنان، بعد أن بثت صور للطيار آراد وهو على قيد الحياة، على أمل استخدامهما ورقة مساومة لإعادة الطيار. التفاصيل التي نشرها الموقع الإسرائيلي نقلاً عن مصادر أميركية، استحوذت اهتماماً إسرائيلياً على رغم محاولة بعض الجهات، عبر الإذاعة الإسرائيلية، التقليل من أهميتها وتم نشر الخبر في إطار بث إشاعات وتصريحات لا أساس لها من الصحة. ولكن في الحقيقة فان التفاصيل جاءت لترد على أسئلة عدة مطروحة منذ فترة: - على ماذا تعتمد الحكومة الإسرائيلية في رفضها شروط حماس لإعادة الجندي، على رغم أنها سبق وأن أفرجت عن أسرى أدرجوا في قائمة «الملطخة أيديهم بالدماء» وقد تم استبدالهم بجثث إسرائيلية وليس مع جندي لدى إسرائيل الأدلة انه على قيد الحياة؟ - ما هي الاستراتيجية التي تحدث عنها نتانياهو ويلمح لها باراك الذي طلب المزيد من الصبر وطمأنة عائلة الجندي بأن «هناك آفاقاً أخرى تعمل عليها حكومته لإعادة شاليط» وأن جميع الجهات ذات الصلة حريصة على إعادته؟ - لماذا تراجعت إسرائيل عن قبول القرار الذي اتخذ قبل أشهر طويلة في المجلس الأمني المصغر لحكومة نتانياهو، بالموافقة على الإفراج عن أسرى «ثقيلي العيار»، كما يصفهم الإسرائيليون؟ - وسؤال آخر لا يقل أهمية يتعلق بالادعاء بأن إسرائيل لا تريد اطلاق سراح 40 أسيراً قام كل منهم بقتل أكثر من عشرة إسرائيليين وترفض إطلاق مئة أسير آخر من سكان الضفة الغربية إلا إذا وافقوا على الرحيل الى غزة أو تركيا أو أي مكان آخر؟ فهل يعقل أن تعلن أجهزة استخبارات انها تملك قوة ردع وقدرة استخبارية متميزة ومتفوقة في المنطقة، وهي عاجزة عن مراقبة أربعين أسيراً في مدن الضفة الغربية، يشكلون اليوم عقبة أساسية في صفقة الإفراج؟ الأسئلة كثيرة وهي زادت مع كشف ما يخطط له «موساد» من استراتيجية التعامل في هذا الملف. وبحسب ما نقل عن المصدر الأميركي عبر الموقع الإسرائيلي فان «موساد» خطط لاختطاف القيادي في «حماس» محمود المبحوح، لاستخدامه ورقة مساومة للضغط على الحركة والإفراج عن شاليط. وبحسب هذه المصادر، فإن التخطيط لاختطاف المبحوح جاء ضمن خطة شاملة يتم بموجبها اختطاف أكثر من مسؤول في «حماس» في الخارج وشملهم في صفقة شاليط من دون الإفراج عن أسرى فلسطينيين في السجون الإسرائيلية والرضوخ لشروط «حماس». وذكر أن الفشل كان في كمية المخدر التي حقن بها المبحوح، بحيث أفقدته وعيه، ثم وفاته، بدل أن تفقده إرادته، إذ أن التخطيط كان بحقنه بكمية قليلة تجعله قادراً على التحرك، لكنه لا يعي ما يدور من حوله، وبالتالي إخراجه من الفندق ضمن المجموعة التي نفذت العملية، ونقله الى يخت ينتظره في ميناء دبي، ومن ثم إلى بارجة حربية إسرائيلية في البحر الأحمر توصله إلى ميناء ايلات. وذكرت المصادر الأميركية أن المبحوح توفي في وقت كانت المجموعة التي نفذت العملية داخل الغرفة، عندها لم تعد لديها إمكانية لنقل الجثة، فتلقت الأوامر بترك الجثة ومغادرة دبي على الفور، مشيرة إلى أن مشاركة العدد الكبير من منفذي العملية كانت بهدف مواصلة تنفيذ الخطة الشاملة ل «الموساد» بالوصول إلى دول أخرى، حيث يتواجد قياديون من حركة «حماس»، لاختطافهم، وبأن الموساد كان يعد لأن تكون هذه أكبر عملية اختطاف ينفذها في تاريخ الدولة العبرية. هذه التفاصيل زادت من مخاوف الإسرائيليين من أن حكومة نتانياهو تضع اليوم التفاوض حول شروط «حماس» في الدرجة الثانية وتبحث في بدائل أخرى... ربما يكون بعضها مغامرة في مستقبل شاليط. تغيير معايير الإفراج ودعم العائلة لا شك في أن المسيرة التي أطلقتها عائلة شاليط، ستبقي هذا الملف موضوع خلاف داخلي قد يزداد عند وصولها الى خيمة الاعتصام في القدس والإصرار على موقفها في عدم مغادرتها من دون شاليط. نتانياهو من جهته يبدي إصراراً على موقفه ويحظى بدعم رئيسي ال «شاباك» يوكال ديسكن، و «موساد» مئير دغان. فهو يعتمد سياسة التخويف والترهيب التي اعتاد عليها الإسرائيليون منذ أربع سنوات على الأقل، وإثارة الحديث عن الخطر الأمني على إسرائيل. وتحاول الجهات التي ترفض الرضوخ استخدام هذه السياسة وتروج تقارير استخبارية تقول إن إطلاق سراح ناشطي «حماس» سوف يزيد عدد العمليات التفجيرية ضد إسرائيل. وتقول انها ترفض الإفراج عن أربعين أسيراً أدينوا بقتل عشرات الإسرائيليين وتعتبرهم خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه، وبأنها ترفض أيضاً إعادة مئة أسير إلى الضفة، ممن تطالب «حماس» بالإفراج عنهم، بذريعة خطر مساهمتهم في بناء «البنى التحتية للإرهاب»، على حد قول إسرائيل. وتتضمن التقارير مخاوف من تكرار تجارب سابقة من صفقات الأسرى مشيرة الى أن عدداً كبيراً من الأسرى قاموا بعد إطلاق سراحهم بوضع بنى تحتية لخلايا مقاومة في الضفة الغربية، وأن 38 في المئة من أسرى حركة «فتح» و63 في المئة من أسرى «حماس» و67 في المئة من أسرى «الجهاد الإسلامي» ممن شملتهم الصفقات، عادوا إلى مقاومة إسرائيل. على هذه التقارير رد دوف فايسغلاس، الذي شغل منصب المستشار الأول لرئيس الحكومة الأسبق ارييل شارون، بعدة تساؤلات قال فيها إن نتانياهو «كاذب ومخادع»، فيما قال جد الأسير شاليط إن عملية تضليل تجرى للتهرب من واجب إعادته. ويقول فايسغلاس: «أين هم الأسرى الذين عادوا الى العمل الإرهابي؟ وعن أية عمليات تتحدثون ومتى نفذت»؟ ويضيف: «في السنوات الأخيرة، يكاد لا يكون هناك إرهاب، لا في داخل المنطقة ولا خارجها، لا من الضفة ولا من القدس. فها هي التجمعات السكانية الكثيفة في مركز إسرائيل وفي الريف تعيش آمنة منذ سنوات عدة. أين هم الذين خرجوا في عهد الانتفاضة الثانية. أين هم؟ أين يعمل السجناء المحررون»؟ ويتابع: «يمكن الافتراض أن المفرج عنهم في صفقة شاليط، سينقسمون الى ثلاثة أقسام: أولئك الذين سيرسلون الى الحرية في الضفة وهناك من سيتوجه الى غزة والذين سيبعدون الى الخارج وهؤلاء بالتأكيد لا يشكلون خطراً أمنياً حقيقياً على إسرائيل وذلك لأنه لا يمكنهم أن يدخلوا الى أراضيها». ويقترح حلاً للتعامل مع الأسرى الذين سيبقون في الضفة وتدعي أجهزة الاستخبارات انهم سيعودون الى بناء البنى التحتية للإرهاب وبأنهم سيكونون قريبين من إسرائيل لتنفيذ عمليات، قائلاً: «طالما أن المحررين الى الضفة هم الخطر الأكبر فلماذا لا تتحاور الحكومة مع السلطة الفلسطينية وتصل معها الى ترتيبات رقابة مناسبة عليهم؟ فليس للسلطة الفلسطينية، بقيادتها الحالية، أي مصلحة في وجود مئات «الإرهابيين» النشطاء على أراضيها، على حد تعبيره. ومع الانتباه الى الجهود العظيمة التي استثمرتها السلطة حتى الآن في بناء قوات أمن «متجددة»، في تهدئة المنطقة، في استقرار الحياة وفي التحسن الكبير في الاقتصاد الفلسطيني، لا ينبغي بحسبه الافتراض بأن السلطة ستعرض للخطر كل هذا بسبب عودة المحررين الى العمل المسلح. ولا ينبغي الافتراض بأن الأسرة الدولية التي استثمرت مئات الملايين في إعادة بناء الأمن في السلطة، ستسمح لها بأن تستأنف القتال ضد إسرائيل والإسرائيليين، يقول فايسغلاس.