كلما تعود أمي من القرية، تخضع لجلسة استجواب يديرها أبي الذي أبعدته قوات الاحتلال الإسرائيلي ومنعته من العودة مرة ثانية الى القرية... يسأل ولا يمل من سماع الأجوبة نفسها: "العريشة، هل كبرت؟ وشجرة الخوخ؟ كيف صارت الساحة؟ البركة، هل بلطوها؟ بيتنا... هل نظفته؟ عندما نعود، سأبني له قرميداً... و...". يقطع كلام منال، صوت نهى متهدجاً: "كفى، لا تقولي المزيد... البارحة سمعت والدي يقول لأصدقائه: غداً عندما نعود الى القرية سأدعوكم الى نهر الحاصباني... كما أنا بينكم اليوم على ضفاف نهر العاصي...". ثم تكمل بصوت مختنق: "أخاف أن يموت أبي قبل أن يرى القرية". حتى الطفل الصغير مازن، الذي لا يجد له مكاناً للعب في الحي الذي يسكن فيه يقول: "أخبرتني جدتي عن وجود ملعب رملي في القرية، غداً عندما يتحرر الجنوب سألعب هناك...". غداً... عندما نعود! هي الجملة التي يمسح فيها الجنوبي عرق نهاره الذي يقضيه بعيداً عن أحلامه الوردية. فحلم العودة لم يؤجل الحياة ولم يوقفها وان جعلها تقتصر على القناعة بأي شيء، فيقول أبو علي من قرية الهبارية: "لولا أملنا في العودة، ما كنا نتحمل الحياة في هذا الحي...". يسكن أبو علي في حي الهبارية، الواقع في الجهة الشرقية من حي السلم في الضاحية الجنوبيةلبيروت، التي تضم النسبة الأكبر من مهجري جنوبلبنان المحتل. وحي الهبارية، كغيره من الأحياء التي نشأت وتكاثرت على أطراف العاصمة بيروت، كان حتى عشرين عاماً، تاريخ الاجتياح الإسرائيلي الأول لجنوبلبنان 1978، عبارة عن كروم زيتون... وهو اليوم. بيوت مكتظة بالسكان، متراصة عشوائياً، مشكلة فيما بينها متاهات لا تبدو لها نهاية. "عندما حصل الاجتياح الإسرائيلي الأول لم نفكر إلا باللجوء الى ابن قريتنا حسن سليمان عيسى، الذي كان يسكن في بيروت منذ العام 1967...". يحكي عيسى، وهو أول من سكن حي الهبارية، قصة نشوء الحي: "عندما أتيت الى بيروت، كنت أبحث عن قطعة أرض أنقل إليها مزرعة البقر التي أملكها في القرية، لأني كنت أعتاش من بيع اللبن لسكان المدينة... وجدت أرضاً هنا وأتيت بعائلتي، ثم بدأت أقنع أقاربي بالمجيء للعمل هنا لأن المنطقة تعج بالمعامل البيبسي، الكولا، الزجاج، المصل.... "مع ازدياد عدد العمال، فكرت في بيع مزرعة البقر وبناء بيوت للإيجار... كان الوضع جيداً والبيوت تعد على الأصابع بين البساتين، حتى العام 1978، عندما لجأ معظم أهالي قريتي والقرى المجاورة شبعا، كفر حمام... الى هنا. وبدأت حركة بناء جدية في الحي، لم نكن نفكر، بنينا بشكل عشوائي لم يُراع فيه إلا اغلاق الجدران الأربعة بسبب ضيق الحال، فكانت العائلة الواحدة تكتفي بغرفتين ولوازمهما. ومع مرور السنين كان يتم اضافة غرف وطوابق الى المبنى الأساسي. "مع تزايد عدد السكان كان لا بد من ايجاد بنية تحتية، تذكرت أني كنت قد أقرضت شخصاً مبلغاً من المال بعد أن وعدني بتوظيف ابني في فوج الأطفاء ولم يفعل. يومها طلبت منه تعريفي أنا ولجنة من الحي بكامل بيك الأسعد الذي كان رئيساً لمجلس النواب في حينه، وتم اللقاء الذي طلبنا خلاله ايصال الكهرباء، أما المجارير فتولينا نحن شراء اللوازم والإمدادات. لكن عدد السكان تضاعف مع الاجتياح الإسرائيلي الثاني في العام 1982، واستمرار عمليات الإبعاد التي تمارسها القوات الإسرائيلية، فاستمرت حركة البناء، ليأخذ الحي شكله الحالي. و"ككل مولود جديد، كان لا بد من ايجاد اسم له. في الأساس المنطقة هنا اسمها العمروسية والحي بأكمله حي السلم. ومرة جاء رئيس مجلس النواب نبيه بري وألقى خطاباً في الجامع أعلن فيه تسمية الحي بحي الكرامة لأن جميع السكان كانوا من قرى الجنوب المحتل. لكن هذه التسمية لم تعمر طويلاً وتحول الإسم تلقائياً الى حي الهبارية نسبة الى اسم القرية". نشوء الحي بهذه السرعة وهذه الطريقة خلق الكثير من المشكلات التي يعاني منها السكان اليوم. فهم لم يحظوا إلا ب240 متراً للاستثمار من مساحة الحي البالغة 26660 متراً طبعاً بشكل قانوني، أي ما يعادل 46 رخصة بناء، ما يعني أن معظم البيوت غير مفروزة أي غير قانونية. وما يطالب به أهل الحي هو فرز البيوت من قبل الدولة بالاشتراك قانوناً، يجب أن يتم فرز كل عقار على حدة. الى هذه المشكلة، يفتقر الحي الى أبسط مقومات الحياة، ففي الشتاء تدخل المياه الى الطوابق الأرضية بسبب فيضان نهر كفرشيما ما كاد يؤدي هذا العام الى وفاة فتاة لا يتجاوز عمرها الأربعة أشهر، اضافة الى عدم وجود الإمدادات الصحية الكاملة، وطرق المواصلات، وانقطاع المياه بشكل مستمر. يعيش سكان الحي في علاقاتهم اليومية كما لو أنهم ما زالوا في القرية لجهة العلاقات الأسرية والرجوع في حل المشكلات الى كبيرهم. "حتى الطعام"، تقول أم أحمد ضاحكة: "أحاول من وقت الى آخر تذكيرهم بكبة البطاطا، المفروكة، كبة العدس... على رغم أنهم تعودوا على الطعام السريع". أما المؤونة، من برغل وكشك وزيت وزيتون ورب بندورة، فتأتي بها النساء اللواتي يذهبن في فصل الصيف، بعد الحصول على تصريح من القوات الإسرائيلية، الى قراهن. تختصر قصة حي الهبارية هذه قصص العديد من الأحياء التي نشأت في ظروف مماثلة مثل حي السلم والرمل العالي وعين السكة وعين الدلبة... كما تختصر حكاياتها معاناة الكثيرين من أهالي الجنوب الذين وإن حكوا كثيراً عن مشكلاتهم، لا يمكنهم إلا أن يختموا كلامهم قائلين: "سنرجع يوماً...". عندها يأتي سؤال "هل تفكرون بالعودة؟"، ساذجاً، وان حمل اجابات متناقضة، تناقض الجيلين اللذين توجهنا اليهما بالسؤال. يقول الحاج نجيب: "ما الذي سيبقيني هنا، عملي كناطور مدرسة؟ هناك في القرية عندي أرض... ملكي". أما ابنته ندى فتقول: "أفكر بالعودة لأرى ما أخبرني عنه والدي، أنا من قرية حانين التي دُمرت تماماً، لا أعرف كيف ستكون الحياة هناك، لكني أحب أن يكون لي قرية...". فهد قرية الطيبة الذي يريد العودة لإكمال البيت الذي كان والده بدأ ببنائه قبل الاجتياح، لا يعرف ان كان سيستقر هناك: "حالياً أنا أدرس في الجامعة ولن أتخلى عن هذا الأمر، لكن الأكيد أني سأقضي كل صيف في القرية، كما يفعل أصدقائي من القرى المحررة". الصيف هو الفصل الذي يتكاثر فيه حديث العودة، ويبدأ كل شخص بتعداد مزايا قريته: كم ترتفع عن سطح البحر؟ من أين يأتي الهواء؟ كيف يتساقط الندى؟ هذا الحديث لا يصدر فقط عن الذين يقضون الصيف في بيروت، وإنما أيضاً الذين اشتروا بيوتاً في قرى محررة من الجنوب مثل وداد شعيتو: "أصر زوجي على شراء بيت هنا قرية أنصار ليكبر الأولاد وهم يعرفون معنى القرية. صحيح أن الطقس هنا أفضل من بيروت، لكن لا يمكن المقارنة مع طقس الطيرة قريتي... قريتنا مرتفعة عن سطح البحر، أما أنصار فقريبة من الساحل...". وكما في بيروت، التي أقام فيها المهجرون أحياءهم، كذلك في الجنوب بدأت تظهر مجمعات خاصة يقيم فيها أهل قرية واحدة، مثل أهالي هونين الذين سكنوا في دير الزهراني، أو أهالي الطيرة الذين سكنوا عيتيت، أو من قرى متفرقة مثل وادي سيناي الذي يقيم فيه أشخاص من قرى عيترون وأرنون وبنت جبيل. وإذا كان تواجد أحد أهالي قرية ما، هو ما يدفع بالبقية الى اللحاق به والسكن في المنطقة نفسها، فإن الأوضاع السياسية الداخلية لعبت، هي أيضاً، دوراً في هذا المجال كما حصل مع أهل قرية حولا الذين توزعوا بين الرميلة في بيروت، ووادي الزينة بالقرب من صيدا الجنوب والسبب هو الانتماء السياسي الى الحزب الشيوعي الذي كان أعضاؤه معرضين للاغتيال في حينه. الحديث عن نشوء الأحياء، وكيفية التجمعات، والتفكير بالعودة لا يعجب شادي عطوي 25 سنة: "أشعر عندما أسمعكم بأني أسمع الفلسطينيين، لم نعد نختلف عنهم، لقد مر عشرون عاماً، غداً يمر خمسون ونحتفل بالنكبة...". تشاؤم شادي يرد عليه الطفل مازن: "كيف تقول هذا، والمقاومة ماذا تفعل... بالتأكيد سنعود". سنحتفل بالنكبة بعد خمسين عاماً... سنعود بعد... لا أحد يدري! يطرد الجنوبيون هذا التفكير بكلام يظنون بأنه يواسيهم: "أشم رائحة القرية من خلال كوز تين...".