الكتاب: الشمس المهيمنة المؤلف: اوديسيوس إيليتيس المترجم: محمد عفيفي مطر لناشر: دار "شرقيات" للنشر والتوزيع القاهرة - 1998 "حتى اكثر الأنهار وَهَناً ينعطف في مكان ما الى البحر بأمان! "اوديسيوس إيليتيس" لأبوين منحدرين من جزيرة "ليسبوس" في بحر إيجة، ولد أوديسيوس أليبوذيليس Odysseus Alepoudhelis الشاعر اليوناني الكبير. كان والده إبناً لواحد من ملاك الارض الاثرياء، تملكته رغبة مفاجئة في انشاء عمل يخصه وحده، فترك الجزيرة في باكورة شبابه قاصداً جزيرة "كريت"، حيث أنشأ شركة ناجحة لصناعة الصابون. وبعد عودة خاطفة الى "ليسبوس" ليتزوج، عاد بزوجته الى "كريت"، وهناك ولد "أوديسيوس" - الأخ الاصغر لستة من الابناء - في الثاني من تشرين الثاني نوفمبر سنة 1911 في المدينة القديمة "ايراكليون" بالقرب من أطلال "كنوسوس المينوية". وعلى الرغم من ان أسرته تركت "كريت" عشية الحرب العالمية الاولى لتستقر في اثينا- حيث التحق بالدراسة بين عامي 1917 و1928- إلا أن الفتى الصغير أحس بالاعتزاز العميق بمولده الكريتي وأصوله الليبسوسية. واذا كان لنا - على حد قول البروفيسور الانكليزي كيمون فرييار في مقدمته للترجمة الانكليزية لمختارات من اشعار "اوديسيوس"- اذا كان لنا ان نصل بين هذه المراكز الثلاثة بخط مستقيم: "ليسبوس- إيراكليون- أثينا"، فسوف نجد مثلثاً واسع الامتداد يحيط بمعظم منطقة بحر ايجة وجزرها المشرقة، حيث كان على "اوديسيوس" الصغير ان يقضي عطلاته الصيفية، وان يزود جمالها الطبيعي شِعره فيما بعد بالصور والمذاق الجميل. منذ ايام قليلة، صدرت في القاهرة مجموعة قصائد مختارة من دواوين "اوديسيوس" بترجمة الشاعر الكبير "محمد عفيفي مطر"، الشاعر الذي يسأل نفسه- قبل ان يسأله أحد في مقدمته للكتاب - فيقول: "لماذا أوقعت نفسك في ورطة هذه الخيانة المثلثة؟!"، ويجيب على نفسه فيقول: "يعرف الجميع خيانة ترجمة الشعر، ويعرف الشاعر عنها ما لا يعرفه الجميع". ويفندها "مطر": الخيانة الثانية هي خيانة الاعتماد على لغة وسيطة - العربية - والتي تبعد النص المنقول خطوتين اكثر إيغالا في البعد عن أصله الجوهري، أما الخيانة الثالثة التي أوقع "مطر" نفسه فيها، فهي ورطة التصدي للترجمة عن اللغة الوسيطة - الانكليزية المتأمركة - بينما يوجد من هو أقدر وأعمق تفقها. إذن.. ما الذي أوقعك- أيها الشاعر- في مشتبك هذه الخيانات؟! يقول "مطر" لنفسه ردا على هذا السؤال: "هذا هو فرض الكفاية ما دامت قد أُهملت فروض العين من النقَلَة والمترجمين، إن يكن جهد مقلّ فهو شرف المحاولة، وإن تكن قطرة من بحر القصائد ففي ملحها طعم الدليل واشارة البلاغ وتلويحة العابر وخطفة النظر، وإن تكن تهوُّر جرأة او وقاحة اقتحام، فإنها اثارة وإغراء للقادرين الفقهاء العالمين بأن يفتحوا نوافذ ما يعرفون من لغات على تراث الدنيا ليكون في العربية من ثقافات الامم والشعوب في مشارق الارض ومغاربها ما يثري ويفجر الحوار ويؤكد المكانة والمكان على خارطة الحياة والانسان الناطق المبدع". أما شاعرنا اليوناني الكبير، فلكي يعزل نفسه عن ضجيج عالم الصناعة، نحت لنفسه لقباً يدل على رهافة مزاجه ومثاليات فكره، واخترع وصكّ لنفسه اسماً مستعاراً هو ايليتس Elytis بعد ان اختار المقطع الاول من بعض ما هو معهود مثل ellas أو Hellas اي هيلاس او اليونان، او كلمة Elpidha اي الامل، او eleftheria اي الحرية أو بالأخص من اسم اجمل الجميلات هيلين او هيلانة HELEN، متجنباً في المقطع الاخير من الاسم اي مقظع يحدد انتماءه لجزء معين من اليونان واختار المقطع الدال على الانتماء العام كما في كلمة politis أي "مواطن". ومنحه عرابه اسم اشهر الابطال الهومريين: "اوديسيوس"، ومن ثم حلم "ايليتس" ان يصبح بطلاً رياضياً، ولكن علة في الغدد جعلته اكثر انطواءً، فقرأ، وعرف بالفطرة ان الوصف والسرد، وان السياق المنطقي للأحداث والاقوال، لا يلمس عالمه الداخلي العميق، فلم تؤثر فيه ايام حداثته مدرسة شعرية ما، لا الرومانسية الجديدة ولا الأشكال التراثية من اليرناسية، لا "شعر الضياع" الخالص منذ "مالارميه" حتى "إيلوار"، ولا الواقعية الجديدة عند "أراغون" ولا حتى الاشكال المختلفة من الرمزية، التي تبدو غامضة جدا، واحيانا مجازية جدا، تستثير توترات اعمق او اشد ديونيزية، وعلى نحو خاص، فشاعرنا لم يتقبل اتجاه"شعر الملعونين" او "الممسوسين" من "بودلير" الى "آرتو"، والذي تمثل بشكل رئيسي عند الشعراء المؤثرين في جيله اكثر من غيرهم مثل "كوستاس اورانيس" و"كوستاس كاريوتاكيس". وبعد انتحار سكاريوتاكيس" في 1928 والذي وضع اللمسة الاخيرة في فتنة مدرسة الانحطاط، شعر "ايليتيس" ان الشعراء قد سجنوا انفسهم في ابراجهم العاجية واصبحوا منفصلين عن المشهد اليوناني وتراث وطنهم وشعبهم، وخيم الركود والانحلال كالكفن فوق الشعراء الذين عاشوا بعد كارثة 1897، بعدما عانت اليونان هزيمة قاسية على يد الاتراك في ثلاثين يوماً بالاضافة الى اولئك الشعراء الذين عاشوا بعد كارثة 1922 الأشد خزيا، وقتها كف اليونانيون عن فكرة "اليونان الكبرى" التي يجب ان تضارع الامبراطورية البيزنطية القديمة. وكانت السيريالية هي التي منحت شاعرنا مفتاح عالم محظور كان يتوقع وجوده بشكل غامض، بعدما أعجب ب"كرنستانتين كافافيس" و"ت.س. إليوت" و"جورج سيفيريس" بالرغم من عدم توحده مع عوالمهم الإبداعية، وبالمصادفة وقع الشاعر الشاب "ايلتيس" في عامه الثامن عشر- اي في سنة 1929- على ديوان ل"بول ايلوار"، فحررت قصائده مخيلة الشاعر الصغير، ومنحته الوجهة التي كان يتحسس الطريق اليها. في عام 1935 ترك "ايليتيس" دراسة الحقوق بجامعة أثينا، ثم قدمه "سارانديس" في العام نفسه الى جماعة "الآداب الحديثة"، التي كانت نقطة ارتكاز لكل جديد في الشعر والنثر. وفي عام 1936 نشر أول دواوينه "توجهات"، ثم توالت أعماله الاخرى، "ساعة المجهول الرملية" 1937، "في التعبد للصيف" 1939. وفي العام 1959 صدرت سيمفونيته الشعرية الهائلة "له المجد" التي قدمت المنجز الاشمل لأفكاره الدينية والفلسفية، ومغامراته الشكلية اللغوية، ومواقفه الوطنية والعالمية. ثم انضم الى صفوف المقاومة ضد الاحتلال النازي لليونان 1941- 1944. وفي الفترة من 1969 الى 1971 انتقل "ايليتيس" الى باريس ليدرس الادب بالسوريون، وهناك التقى كبار الفنانين والادباء، ثم حصل على جائزة الدولة في الشعر عن "له المجد" 1960، ووسام "الفينيق" عام 1965، ومنحة مؤسسة فورد 1972"، ثم فاجأ الجميع برفض الجائزة القومية الكبرى للآدب العام 1973، ليفوز اخيرا بجائزة نوبل العام 1979. إن مهمة الشاعر، كما قال "إيليتيس" ذات مرة: "أن ينثر في الظلام قطرات من النور".