قبل ذلك بأشهر قليلة كانت أصوات المدافع قد تعالت في سماء طهران معلنة انتهاء الحرب العالمية الثانية، التي كانت شريحة كاملة من الإيرانيين - هي الشريحة المرتبطة بسلطة الشاه - اعتبرتها واحدة من أخطر المراحل التي مرت على إيران في تاريخها. إذ صاحب سنوات تلك الحرب قلق وتغيرات أساسية، ناهيك عن تنازل الشاه رضا عن الحكم لابنه محمد رضا شاه، بعد أن أجبره الحلفاء على ذلك عقاباً له لمناصرته المانيا. بعد ذلك رحل رضا شاه، وسارت الحرب إلى نهاية. وأحس الإيرانيون أن بإمكانهم أن يعودوا إلى حياتهم الطبيعية وأن يستأنفوا النمو الذي بدأوه، وأن يكملوا مسيرة رضا شاه نحو التقدم وما إلى ذلك. غير أن حسابات ذلك الحقل لم تنطبق على حسابات البيدر. فالواقع أنه في الوقت نفسه الذي خيل فيه للإيرانيين أن مشاكلهم العويصة انتهت مع انتهاء الحرب، بدأت سلسلة من المشاكل الجديدة. وهذه المشاكل كانت ذات سمات داخلية، لكنها كانت - في حقيقة أمرها - ذات أبعاد خارجية. إذ حين أعلن الأكراد عن انفصالهم في "كردستان" عن السلطة المركزية، وحين ثارت أذربيجانالإيرانية منفصلة بدورها عن حكومة طهران، متخذة من تبريز عاصمة لدولة خاصة بها، كان من الواضح أن "تطلعات الانفصاليين الداخليين" تتلاقى ها هنا، مع تطلعات قوة خارجية معينة هي الاتحاد السوفياتي الذي، انطلاقاً من يالطا، كما من المآثر التي حققها خلال معارك الحرب ومن تحالفه مع الانكليز، رأى أن في امكانه أخيراً أن يلعب ورقته الأساسية في السياسة الداخلية لإيران، آملاً في أن يستولي على هذا البلد بالتدريج، ويحقق حلم القياصرة القديم بالوصول إلى المياه الدافئة. في العشرين من تشرين الثاني نوفمبر 1945، أي بعد ثلاثة أشهر من إحساس الإيرانيين بعودة السلام والوحدة إلى ربوع بلادهم، أعلنت ماهاباد، الجمهورية الكردية الانفصالية في الشمال الإيراني. وصار بإمكان أكراد المنطقة أن يعلنوا أمام العالم أجمع، وبكل فخر أن "ليس ثمة أي جيش تابع لأية سلطة أجنبية" في ماهاباد. وكانوا يعنون بهذا، أمرين: من ناحية أنهم حققوا "استقلالهم الوطني" بأنفسهم، ومن ناحية ثانية ان الجيش الإيراني انسحب كلياً. وغير بعيد عن ماهاباد، وفي منطقة سادها الشعور الوطني والفرح لأول مرة منذ زمن طويل، تمكنت جماعات كردية استقلالية هي الأخرى من السيطرة على مدينة سراب الصغيرة. بقي أن نذكر أنه قبل ذلك بأسابيع، كان زعيم كردي كبير هو مصطفى البارزاني الصورة ترك كردستان العراقية مع نحو ألفين من أبناء شعبه رجالاً ونساءاً وأطفالاً متوجهين إلى الجانب الإيراني من الوطن الكردي. ووراء ذلك كله كانت هناك موسكو بالطبع، ورغبة موسكو في أن تكون عرابة العديد من الانشقاقات الإيرانية. إذ تحت رعاية موسكو كان أكراد إيران، كما هي حال مجموعات من أكراد العراق، قد انتظموا ليؤسسوا "حزب كردستان الديموقراطي" الذي حل في العمل السياسي، على ذلك النحو، محل "كومالا" وهي حركة وطنية كانت مجموعة من المثقفين الأكراد أسستها في العام 1942. تأسيس الحزب الجديد، كان يأخذ في اعتباره أن العمل الكردي بات بحاجة لأن يخرج من دوائر المثقفين الضيقة، ليدخل في صلب التحرك الجماهيري. ومن هنا كان أول ما راح الحزب ينادي به فور تأسيسه، الحصول على الحكم الذاتي، والاعتراف باللغة الكردية لغة رسمية، إضافة إلى أن يكون الموظفون في المناطق الكردية من الأكراد أبناء تلك المناطق، إضافة أيضاً إلى سلسلة من الإصلاحات الاجتماعية. في ذلك الحين لم تكن المسألة المطروحة مسألة الاستقلال التام عن الدولة المركزية في طهران، وكان زعيم الحركة الكردية مثقفاً ورجل دين محترماً يدعى غازي محمد. ولكن بعد ذلك بفترة أمام النجاحات التي تحققت في ماهاباد، وأمام الدعم الذي قدمه الاتحاد السوفياتي، تحولت المسألة من مسألة اصلاحات وحكم ذاتي إلى مسألة استقلال تام. والحال ان الحلم الكردي الذي تمثل في "جمهورية ماهاباد" لم يعمر طويلاً، كما لم تعمر أطول أيّ من تلك المحاولات الاستقلالية في شمال إيران، وذلك لأن الاتحاد السوفياتي سرعان ما بدأ يفاوض، وبدأ يتخلى عن حمايته للانفصاليين بالتدريج. وهكذا، بفضل ضغوط بريطانية، ومناورات ديبلوماسية قادها الوزير الإيراني غافام الذي زار موسكو لتلك الغاية، انتهى الحلم الكردي، وتأجل تأسيس الوطن الذي به حلم الأكراد طويلاً