صيف ملتهب، اعقبه خريف ساخن، مملوء بأحداث شتّى. احداث متفرقة هنا وهناك، تنفلت فيها الاعصاب، وتتوتر العلاقات، فضلاً عن الكوارث البيئية، والمجاعات. وكأنه لا تكفي البشر اخطار الطبيعة، فجلبوا على انفسهم خطراً على خطر. لا تحاور، ولا تعقّل، لا تدبّر، ولا روية. فالقوي يسعى الى فرض سلطانه، والضعيف يلتمس الرحمة، ويُناشد، ويدين، ويبحّ صوته، "ارفعوا الظلم عني"، ولا حياة لمن تنادي. القوي يتحرك، ويَفرِض، والضعيف يَقْبَع ويُرغَم. اربعة احداث رئيسية، تتشابه ملامحها، لم يرتفع فيها صوت، إلا صوت القوة. ما أن يُمس طرفها، حتى تحشد وتُجيش، تهدد وتتوعد، تتصاعد تصريحاتها، تُدير الأزمة بمنطقها، وتفرض الشروط بغطرستها. ولا ترتد إلا اذا سمعت صوت قوة أعتى منها، وتُعاد الكرَّة. نعم، اذا كانت القوة لازمة في الأيام السالفة، فقد باتت، الآن، ضرورة مصيرية، لمن يُريد ان يحيا في عزة وكرامة. ولنبدأ بالأزمة السورية - التركية. فجأة، ومن دون مقدمات، ترتفع اصوات تركية، عسكرية وسياسية: "إن صبرنا على سورية قد نفد". "إننا نحتفظ لأنفسنا بحق الرد على سورية". "إن فشلت المساعي الديبلوماسية فإن تركيا ستلعب اللعبة وفقاً لقواعدها". "إن تركيا في حالة حرب غير معلنة، مع سورية". "إن الجيش التركي، ينتظر الأوامر بعمل عسكري ضد سورية". "تحذير أخير الى سورية، عليها ألا تكتفي بتقديم كلمات جوفاء، فلا بدّ من تعهدات قاطعة". أنّى لتركيا هذه التصريحات؟ إنها القوة، منتهزة فرصة قد تبدو مواتية لها. وعندما زمجرت قوة أعتى منها الولاياتالمتحدةالأمريكية، مؤكدةً أن هذا الوقت ليس ملائماً، تراجعت التصريحات النارية، وإذا بالصبر لم ينفد، والحوار اصبح مُرَحّباً به. ولكن، لم تزل القوة عالية الصوت. ماذا فعلت سورية؟ دعت الى الحوار بدلاً من السلاح، إذ لم يكن أمامها خيار آخر، حاولت حشد قوة وراءها، من العرب تارة، ومن الايرانيين تارة أخرى، وحاولت استنهاض الدب العجوز الذي كلّت مخالبه الاقتصادية. ولكن لا العرب يملكون أدوات للضغط القوي، ولا ايران في موقف، يسمح لها بفتح جبهة اخرى، فهي مشغولة بمشاكل الداخل وتحولاته، ومشغولة بالأزمة المشتعلة على حدودها مع افغانستان، ومشغولة بتحسين علاقاتها بالدول الاوروبية، وتغازل، من بُعد، الولاياتالمتحدةالأمريكية. والدب الروسي، يلعق جراحه، محاولاً التغلب على مشاكله، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، مجاهداً للبقاء في دنيا الكبار، ناعياً الأيام الخوالي، أيام كان مُطاعاً مهيباً. أما تركيا، القوةُ الأعلى صوتاً، فإنها تتحدث ويساندها تحالف، تباركه واشنطن، مع اسرائيل، الأشد عداءً منها لسورية، ويدعمها حلف شمال الأطلسي، الحلف العسكري الوحيد الباقي بعد تفتت حلف وارسو، ناهيك ان دجلة والفرات، ينبعان من اراضيها، فيزيدانها قوة الى قوتها. إذاً، تحدثت القوة، وعلا صوتها، فكان الاتفاق في العشرين من اكتوبر الماضي، في مصلحتها، وحصرته في تعهدات والتزامات سورية، اما انقرة فاكتفت بالتزامَيْن: الموافقة على إقامة خط ساخن مباشر، وبحث موضوع الارهاب في إطار ثلاثي، يضم كلاً من تركيا وسورية ولبنان! وما مصير سائر المشاكل المعلقة، وعلى رأسها مشكلة المياه؟ ليس أوانها! وعلى المتضرر، أن يخنع، أو يسعى الى امتلاك قوة صوتها أعلى. ننتقل الى الحدث الثاني: الاتفاق بين السلطة الفلسطينية واسرائيل. مثال صارخ على تحدي القوة وجبروتها، ودليل بيّن على ظلم القوة وافترائها، وبرهان حيّ على ما يطلق عليه "المفاوضات من جانب واحد". فما نسمعه من المسؤولين الاسرائيليين، هو صوت القوة، قوة من؟ قوة اسرائيل العسكرية، التقليدية والنووية، وقوة احتلالها الاراضي الفلسطينية، وقدرتها على إحداث تغييرات في البنية التحتية، وقوة اللوبي اليهودي، في انحاء العالم، المسيطر على الاعلام والاقتصاد وأجهزة صنع القرار، فضلاً عن قوة الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي تضع على عاتقها حماية أمن اسرائيل، وتعدّها في أولويات أهدافها الاستراتيجية. ما الذي يملكه الرئيس ياسر عرفات، في المقابل؟ لا شيء، سوى الحق، الذي لا تسانده الا حجارة في اليد، إذا استخدمت، عُدّت ارهاباً. أما الدبابات المحيطة بالقرى والمدن الفلسطينية، والرشاشات الموجهة الى صدور الأطفال قبل الكبار، وتكسير العظام، وتشريد الأيتام، وهدم المباني والمنشآت، وحصار الفلسطينيين العزّل، ومحاربتهم حتى في لقمة عيشهم، فهو دفاعٌ مشروعٌ عن القوة، وتحقيقٌ لأمنها. فكيف نتوقع ان يكون الاتفاق عادلاً؟ ومما يُحزِن ان يتعرض الرئيس الفلسطيني لانتقادات حادة ونعوتٍ جارحة. فما أهون، على المنتقدين، كيل الاتهامات، بالعمالة والخيانة والتخلي عن القضية، من دون ان يقّدم ايٌ منهم البديل! فهل عانى احدهم الاقامة بالمخيمات شهوراً وسنين؟ وهل بات واحد منهم بلا عمل او مأوى، يبحث عن طعام له ولأولاده الجياع؟ هل فكر أحد من المنتقدين في عيشة هؤلاء البائسين؟ يُحاصرون براً وبحراً، فمن ينقذهم؟ المناشدات والاستجداء، مناشدات اسرائيل رفع حصارها، واستجداء السماح للفلسطينيين بالعبور الى اسرائيل، للحصول على لقمة تقيم أودهم، وتحفظ جزءاً من كرامتهم! وانني استعير - في هذا الموقف - جزءاً مما كتبته في نهاية مقالة "هل من أمل": "ان الرئيس عرفات في موقف لا يُحسد عليه، فهو مهدّد من اعدائه، منتقد من انصاره، متهم من جيرانه، يطلب منه تقديم التنازلات، وليس لديه ما يتنازل عنه. اذا وافق على ما يعرض عليه، قالوا انه يفرط في القضية، وإذا عارض، قالوا له: خذ وطالب، هكذا تكون الاستراتيجية". لم يحدد المنتقدون: ما الادوات التي يمكن لعرفات ان يستخدمها. شريطة ان تكون ادوات عملية، وليست كلمات رنانة وعبارات جوفاء، بلا ملامح ولا خطوات لتنفيذها، ادوات يكون تحقيقها ممكناً، وليس مستحيلاً. فما أسهل الكلام! وما أصعب العمل والتنفيذ! إذاً، في هذه القضية، تتحدث القوة، والعالم يستمع، فلا صوت يعلو على صوتها، وعلى المتضرر ان يخنع، او يسعى الى امتلاك قوة صوتها اعلى. اما الحدث الثالث، فكان تحدياً من نوع آخر، قصف الولاياتالمتحدةالامريكية، في العشرين من اغسطس الماضي، مصنعاً في دولة ذات سيادة، لشكّها في انه ينتج مكونات تستخدم في الاسلحة الكيماوية. هل الشك مبرر لانتهاك سيادة دولة؟ وهل لهذا المصنع دور في الاعتداء على سفارتي واشنطن، في نيروبي ودار السلام؟ لا أحد يرضى بالارهاب، فهو عمل تحرمه جميع الاديان، وتُجرّمه جميع الشرائع. ولا أحد يرضى، كذلك، بالظلم والافتراء، لمجرد الشك، الشك فقط! لقد صرحت القوة، "ضربنا اهم قواعد الارهابيين في افغانستان، وضربنا، كذلك، منشآت كيماوية في السودان". اذا كان الشق الأول من هذا التصريح، مقبولاً بتحفظ، فهل يقبل الشق الثاني؟ أليس لهذه الدولة سيادة وكرامة دوليتان، يضمنهما ميثاق الأممالمتحدة؟ ألا يكفي السودان ما يعانيه من أزمات، داخلية وخارجية؟ ولكنها القوة، وما أدراك ما القوة، اذا كانت عظمى، ووحيدة! ماذا كان رد الفعل المقابل: استنكار وادانة، هتافات وتظاهرات، حرق للاعلام والصور، وسحب للسفراء، ودعوة الى عقد قمة افريقية، ودعوة الى ارسال فريق للتحقق من براءة ما ينتجه المصنع، ومطالبة بالتعويضات المالية. وعندما لم تستجب القوة، وأصمّت أذنيها، وضربت عرض الحائط بكل الاقتراحات والمناشدات، ورفضت ارسال "لجنة لتقصي الحقائق"، طالب السودان، على استحياء، بأن تُقر فقط الولاياتالمتحدةالأمريكية ان قصف المصنع، كان خطأ من جانبها. لماذا؟ لأنه ليس للسودان خيار آخر، فهو لا يملك أدوات يستطيع الرد بها، ولا يوجد خلفه من يسانده، فإن وجد، فبالتصريحات والخطب، والأماني والتعاطف، ولو علمت القوة أن هناك من يرد عليها، أو يهددها في مصالحها، من دون اللجوء الى الارهاب قطعاً، لتغيرت لهجتها وأسلوبها، بل لتغير سلوكها. ولكن، هكذا كان صوت القوة أعلى صخباً، وأشد افتراء، وعلى المتضرر أن يخنع، أو أن يسعى الى امتلاك قوة صوتها أعلى. الحدث الرابع، يختلف عما سبقه من أحداث، ولكنه يصب في الاتجاه عينه. قوة علا صوتها، فتجبرت وهددت، حتى سمعت صوت قوة، من الجانب المقابل، لا تقل قوة عنها، فاعتدلت لهجتها، وطالبت بالحوار. فكان توازن القوى، تقليدياً أو نووياً، باعثاً على السعي نحو السلام. ان ما أقصده، هو ما حدث بين الهندوباكستان. لن أعيد ما ذكرته في مقالة "لا عزاء للضعفاء"، ولكني أفكر فقط من منظور القوة، وما يمكن أن تفعله، وما يؤدي اليه توازن القوى. ففي الحادي عشر من مايو الماضي، وبعد خمسة تفجيرات نووية هندية، أصاب القوة الهندية الزهو والخُيَلاء، والتجبر والاستعلاء، ودعت باكستان الى مائدة المفاوضات، مرغمة، ومن دون شروط مسبقة، واشترطت عليها عدم إثارة مشكلة كشمير، على الرغم من أنها أساس المشاكل بينهما، وهددت باحتلال الجزء الذي تديره باكستان من كشمير. فالقوة تتحدث، وأي قوة! انها قوة نووية. وتتابعت تصريحات القوة: "يجب على باكستان أن تطوي صفحة سياستها المناهضة للهند، وما لم تفعل، فسوف تتخذ حكومتنا موقفاً حازماً". "نقول لباكستان: كفى ما كان. ولن نتحمل، بعد الآن، أي تدخل من جانبها في أمر كشمير". كانت تلك التصريحات أولى ثمار القوة الأعلى صوتاً، وأولى نتائج عدم توازن القوى. وفي 28 مايو الماضي، سمعنا صوت القوة النووية الباكستانية. فماذا حدث؟ اعتدلت لهجة القوة الهندية، وصرحت، من الفور: "اننا لا نريد شرّاً بباكستان. وليس لها أن تخشى شيئاً من الهند. واننا مستعدون للحوار معها". وبدأ لقاء القوتين، تتفاهمان، تتفقان، فتوازن الرعب النووي، سيحقق السلام. وآخر تصريحاتهما، "ان الجانبين يؤكدان التزامهما بخفض أخطار نشوب أي نزاع. ويسعيان الى حل جميع القضايا العالقة، ومن بينها قضية جامو وكشمير، بصورة سلمية". وفي هذه الحالة، لا يوجد متضرر، ولا خنوع، فالقوتان متكافئتان، تسمع الواحدة منهما الأخرى، وتعي ما تقول. إذاً، ما العمل؟ السبيل واضح، يعلن عن نفسه: امتلاك القوة ضروري، وتوازن القوى حتمي. فالقوة، بشتى وجوهها، هي القوة العسكرية، والقوة الاقتصادية، واليهما تستند القوة السياسية، اذ السياسة بلا قوة، موسيقى بلا آلات، كما قال فردريك الأكبر، والاقتصاد بلا قوة تعصمه، يظل مهدداً، يستجدي حماية الآخرين.