إن حدث الإسراء والمعراج، في السابع والعشرين من رجب، يعتبر حدثاً ضخماً من أحداث الدعوة الإسلامية، سبقته البعثة، وجاءت بعده الهجرة. فالله عزّ وجل حينما أمر نبيّه محمداً صلّى الله عليه وسلّم أن يجهر بدعوته عاداه القوم عداء بلا هوادة، ولكن هذا العداء لم يمنع أن يتسرّب هدى الإيمان إلى نفوس كثير من الناس من عشيرته الأقربين، ومن قومه الذين يعلمون صدقه. فأخذوا صدقه فيما سبق دليلاً على صدقه فيما جاء به، وأنه لم يكذب عليهم حتى في أمور بينهم، فكيف يكذب على الله؟ وكان صلّى الله عليه وسلّم في حاجة مادية أن يُحمى حمايتين: حماية من الكفّار في الخارج، وحماية له في ساعة راحته وسكونه وهدوئه في بيته، فكانت السيدة خديجة رضي الله عنها في البيت هي السكن الذي يلجأ إليه، فتمسح بيدي الحنان والرعاية والعناية متاعبه من حركة الحياة التي يحياها. وكان أبو طالب عمّه يحميه في الخارج من أذى المشركين، وكان كفر أبي طالب سبباً من الأسباب التي جعلت الكفّار يجاملونه بعض المجاملة، وقرابته من رسول الله جعلته يحميه، فكأن الله جل جلاله هيّأ لحمايته ولنصرته ومؤازرته مصدراً إيمانياً في البيت من السيدة خديجة، ومصدراً كفرياً في الخارج من أبي طالب. ولكن قدر الله شاء أن تموت زوجه خديجة في العام الذي يموت فيه عمّه أبو طالب، وهنا يفقد رسول الله عليه الصلاة والسلام السكن الذي كان يسكن إليه، ويأوي إلى حنانه وعطفه كما فقد الحماية الخارجية. ومع أن النبي كان يعلم تماماً أن الله لا يسلمه، إلا أنه مع ذلك أخذ يعمل فكره ويعمل بصيرته، ويخطط لينطلق بالدعوة بالأسباب البشرية التي يقدر عليها، فما كان منه في هذا الجو الخانق في مكة إلاّ أن يلتمس منطلقاً للدعوة لعله يجد نصيراً خارجياً، فقام برحلته إلى الطائف، معتقداً أنه سيجد النصير والمعين منهم، ولكنه وجد خلاف ما اعتقد، بل تعدّى الأمر إلى أعظم من ذلك، وحدث أنهم آذوه بالقول وبالفعل واضطهدوه وسلّطوا عليه سفهاءهم حتى أدموا عقبيه، فوقف موقف الضارع إلى الله، بعد أن فقد أسباب البشر وقال دعاءه المشهور: "أللهم إليك أشكو ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك أو تحل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله". دعاء فيه كل مقومات الإيمان واليقين، لأن الله الذي أرسله لن يخذله، ودعاء يشمل أن الرسول قد استنفد الأسباب، وأنه لم يجد إلا عدواً أو بعيداً، سمع الله عز وجل ضراعة رسوله الكريم وأراد أن يبيّن له أن جفاء الأرض لا يعني أن السماء تخلّت عنك، ولكني سأعوّضك عن جفاء الأرض بحفاوة السماء، وعن جفاء عالم الناس بعالم الملأ الأعلى، وأريك من آياتي ومن قدرتي، ومن أسراري في كوني ما يعطيك شحنة وطاقة، إن الله الذي أراك هذه الآيات هو قادر على أن ينصرك ولن يتخلى عنك، ولكن الله تركك للأسباب أولاً لتجتهد فيها حتى تكون أسوة لأمّتك في ألا تدع الأسباب وترفع أيديها إلى السماء. فهكذا نجد أن هذه الرحلة كانت نفحة من نفحات الفرج بعد اشتداد الأزمات والمحن، وبعد نتيجة لجفوة الأرض لرسول الله، ونتيجة لفقد النصير، ونتيجة لفقد الحامي، فالله سبحانه وتعالى شاء أن يجعل هذه الرحلة العلوية لرسوله حتى يثبت تكريمه، وأن الملكوت سيحتفي به حفاوة يمسح عنه كل عناء هذه المتاعب، وسيعطيه شحنة قوية لتكون أداته في منطلقه الجديد بإذن الله. حدث الإسراء جاء في القرآن في استهلال سورة الإسراء، فيقول الله تعالى: ]سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير[. ما هو الإسراء وما هو المعراج؟ الإسراء: هو إذهاب الله بنبيّه محمد من المسجد الحرام بمكّة المكرّمة إلى المسجد الأقصى - مدينة القدس - في جزء من الليل ثم رجوعه من ليلته. المعراج: هو إصعاده صلّى الله عليه وسلّم من بيت المقدس إلى السموات السبع وما فوق السبع حيث فرضت الصلوات الخمس ثم رجوعه إلى بيت المقدس في جزء من الليل. وقد ثبت كل من الإسراء والمعراج في القرآن والأحاديث الصحيحة، وجمهور العلماء - سلفاً وخلفاً - على أن الإسراء والمعراج كانا في ليلة واحدة، وأنهما كانا في اليقظة بجسده وروحه عليه الصلاة والسلام وهذا هو الذي يدل على قوله تعالى في مفتتح سورة الإسراء "بعبده"، إذ ليس ذلك إلا الروح والجسد. وقد تواردت على ذلك الأخبار الصحيحة المتكاثرة، والنصوص على ظواهرها ما لم يقم دليل على صرفها عن ظاهرها. وفي الأحاديث الصحيحة أنه في الإسراء والمعراج شُقَّ صدره الشريف، وركب البراق، وعرج به إلى السماء، ولاقى الأنبياء، وفرضت عليه الصلوات، وأن الله كلّمه، وأنه صار يرجع بين موسى وبين ربّه عزّ وجلّ مما يؤكد أنهما كانا بجسده وروحه وينفي ما عدا ذلك. وسأكتفي بذكر أوثق الروايات وأصحّها وهي التي اتفق عليها الإمامان الجليلان البخاري ومسلم في صحيحيهما عن قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حدّثهم عن ليلة أسرى به قال: "بينما أنا في الحطيم، وربما قال: في الحجر مضطجعاً، إذ أتاني آت، فقدَّ أي قطع قال - أي قتادة - وسمعته يقول: فشقّ ما بين هذه إلى هذه - يعني من ثغره نحره إلى ثنته أي ما تحت السرّة - فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيماناً وحكمة، فغسل قلبي، ثم حُشي ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض. فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة - كنية أنس - قال أنس: نعم يضع خطوه عند أقصى طرفه بصره، فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا، فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل ومن معك؟ قال: محمد، قيل وقد أرسل إليه، قال: نعم، قال: مرحبا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا فيها آدم عليه الصلاة والسلام، فقال: هذا أبوك آدم، فسلِّم عليه، فسلّمت عليه، فردّ السلام ثم قال: مرحباً بالإبن الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل اليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت فإذا يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وهما إبنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلِّم عليهما، فسلّمت، فردّا، ثم قالا: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم عرج به إلى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف، فسلّم عليه، فردّ ورحّب به وأقرّ بنبوّته. ثم عرج به إلى السماء الرابعة فرأى فيها إدريس، فسلّم عليه، فردّ عليه ورحّب به وأقرّ بنبوّته. ثم عرج به السماء الخامسة، فرأى فيها هارون بن عمران فسلّم عليه، ورحّب به وأقرّ بنبوّته. ثم عرج به السماء السادسة فلقى فيها موسى بن عمران، فسلّم عليه، ورحّب به وأقرّ بنبوّته، فلما جاوزه بكى موسى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي لأن غلاماً بُعث من بعدي يدخل الجنة من أمّته أكثر مما يدخل من أمّتي. ثم عرج به إلى السماء السابعة فلقي فيها إبراهيم عليه السلام، فسلّم عليه ورحّب به وأقرّ بنبوّته. ثم، يقول رسول الله، رُفعت إلى سدرة المنتهى - سمّيت بذلك لأنه ينتهي إليها علم كل نبي مرسل وكل ملك مقرب ولم يجاوزها أحد إلا نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم - فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها كآذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات. ثم رفع لي البيت المعمور، ثم أتيت بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمّتك. ثم فرضت عليّ الصلوات خمسين صلاة كل يوم، فرجعت، فمررت على موسى، فقال: بم أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم. قال: إن أمّتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني قد جرّبت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمّتك، فرجعت فوضع عني عشراً، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشراً، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشراً، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأُمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى، فقال بم أمرت؟ قال: بخمس صلوات كل يوم، قال: إن أمّتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم وإني قد جرّبت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمّتك، قال: سألت ربّي حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلّم، قال: فلما جاورت ناداني منادٍ: أن أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي. لقد تنوّعت المشاهد والصور التي رآها النبي عليه الصلاة والسلام في رحلته، وهذه المشاهد كانت كوسيلة إيضاح بالنسبة لبعض الأمور العظيمة التي تتعلق بأمور الدين. فمن المشاهد التي رآها النبي أنه مرّ على قوم يزرعون ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال لجبريل عليه السلام ما هذا؟ قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله، تضاعف لهم الحسنة إلى سبعمائة ضعف وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين. ثم أتى على قوم ترضخ اي تكسر رؤوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت كما كانت، ولا يفتر عنهم من ذلك شيء، فقال ما هذا يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة. ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام يأكلون الضريع والزقوم ورضف جهنم فقال: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدّون زكاة أموالهم، وما ظلمهم الله، وما ربك بظلاّم للعبيد. ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قِدْر، ولحم نيئ خبيث في قِدْر، فجعلوا يأكلون من النيئ الخبيث، ويدَعون النضيج، فقال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هذا الرجل من أمّتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب، فيأتي إمرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح، والمرأة يكون عندها الرجل الحلال، فتأتي رجلاً خبيثاً، فتبيت عنده حتى تصبح. ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد، كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتّر عنهم من ذلك، قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء الفتنة. ومرّ بقوم مشافرهم كالإبل، يلتقمون جمراً فيخرج من أسافلهم، فسأل جبريل من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً. ومرّ بقوم يقطع من جنوبهم اللحم ثم يطعمونه، فسأل جبريل من هؤلاء؟ فقال: إنهم الغمّازون اللّمازون المستهزؤون العيّابون. ومرّ على رائحة طيبة، فقال: يا جبريل ما هذه الرائحة؟ قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون وأولادها، بينما هي تمشط بنت فرعون إذ سقط المشط، فقالت: بسم الله تَعِسَ فرعون. فقالت ابنة فرعون: أولكِ ربّ غير أبي؟ قلت نعم، ربّي وربّك الله، وكان للمرأة ابنان وزوج فأرسل إليهم، فراود المرأة وزوجها أن يرجعا عن دينهما، فقال: إني قاتلكما، فقالا: إحساناً منك إن قتلتنا أن تجعلنا في بيت. وفي رواية قالت: إن لي إليك حاجة. قال: وما هي؟ قالت تجمع عظامي وعظام ولديّ فتدفنّا جميعاً. قال: ذلك لك بما لك علينا من الحق، فأمر بنقرة من نحاس فأحميت ثم أمر بها لتلقى فيها وأولادها، فألقوا واحداً واحداً، حتى بلغوا أصغر رضيع فيهم، فقال: يأم أمَّاه قعي ولا تقاعسي فإنك على الحق. وأتى عليه الصلاة والسلام على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردّها. إلى غير ذلك من المشاهد مثّلت للنبي عليه الصلاة والسلام ليلة إسرائه ومعراجه. وقد صحّ عنه أنه اجتمع في هذه الرحلة المباركة بالأنبياء والمرسلين، يرحّبون به ويسلّمون عليه، وأنه صلّى بهم إماماً في المسجد الأقصى. ولما عاد من رحيله، وفي صبيحة اليوم التالي حدّث الناس بما شاهد، فصار المشركون يجمع بعضهم بعضاً ليتناقلوا هذا الخبر الطريف ويضحكوا منه، وتحدّاه بعضهم أن يصف لهم بقايا بيت المقدس ما دام أنه قد ذهب إليه وصلّى فيه. والنبي عليه الصلاة والسلام حينما زاره لم يخطر في باله أن يجيل النظر في أطرافه ويحفظ أشكاله وعدد سواريه، فجلّى له الله عزّ وجل صورته بين عينيه وأخذ يصفه لهم وصفاً تفصيلياً كما يسألون. أما أبو بكر رضي الله عنه فقد حدّثه بعض المشركين عما يقوله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجاء ان يستعظمه فلا يصدّقه، فقال: إن كان قال ذلك لقد صدق، إني لأصدّقه على أبعد من ذلك. وفي صبيحة ليلة الإسراء جاء جبريل وعلّم رسول الله كيفية الصلاة وأوقاتها، وكان صلّى الله عليه وسلّم قبل مشروعية الصلاة يصلّي ركعتين صباحاً ومثليهما مساء كما كان يفعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام. * مدرّس فتوى في أزهر لبنان - فرع عكّار.