الجامعات الخاصة في العالم العربي ظاهرة تتنامى استجابة لحيوية القطاع الخاص والتحولات في مجال الاستثمار، ورداً على شيء من التراخي يحدث بدرجة او باخرى في عمل الجامعات التي تمولها الدولة كما في مدى قدرة هذه الجامعات ذات التمويل المحدود على اللحاق بركاب الجديد الاكاديمي في العالم. في ما يلي تحقيقان من تونس ومن القاهرة: من يتابع صفحات الاعلانات في الجرائد التونسية خلال هذه الفترة يشد انتباهه سيل من الاعلانات عن الجامعات والمعاهد العليا الخاصة، بعضها قديم والآخر جديد بينها "الجامعة العربية للعلوم" و"الجامعة الحرة بتونس" و"جامعة قرطاج" و"كلية التصرف والتجارة الدولية" الى غير ذلك من العناوين والاسماء. وتتفنن غالبية هذه المؤسسات في الاشادة بجودة التكوين الذي توفره للطلاب، وتؤكد انها ستفتح امامهم السبل للنجاح في الدراسة والحياة. والانطباع الاول لمتتبع هذه الاعلانات هو ان القطاع الخاص يتجه بقوة خلال السنوات الاخيرة الى الاستثمار في هذا القطاع وانه ادرك ان مردوديته لا تختلف عن مردودية الاستثمار في بقية القطاعات. اما الانطباع الثاني فيتمثل في ان التعليم الجامعي الخاص اصبح واقعاً ماثلاً للعيان وان الجدل في اوساط الجامعيين والنخب بين المؤيدين لتحرير هذا القطاع والمدافعين عن ضرورة استمرار احتكاره من قبل الدولة قد توارى ليفسح المجال للحوار حول كيفية تنظيم هذا القطاع وتحويله الى رافد للتعليم العمومي. ويبدو ان التعليم الجامعي الخاص ولعدة اعتبارات - اكثر انصاتاً لحاجات سوق الشغل واسرع استجابة لشواغل المؤسسات ومتغيرات المحيط الاقتصادي والاجتماعي ويكفي ان نلقي نظرة عابرة على قائمات الشعب والاختصاصات لنقف على هذا الاتجاه علوم الادارة، المالية والمحاسبة، ادارة المؤسسات، الماركيتينغ، التجارة الدولية، الاعلامية الصناعية، علوم الكومبيوتر، الهندسة الالكترونية، تقنيات الادارة السياحية، دراسة اللغات، ادارة الفنادق، الترجمة علماً ان هذه الاختصاصات الفرعية تشهد نسقاً متسارعاً من التنوع والتشعب خصوصاً في القطاعات الصناعية الحديثة مثل الكومبيوتر وعلوم الاتصال والالكترونيك. لكن هذه الانطباعات التي تولدها الاعلانات المتقنة والمغرية لا تعكس بالضرورة واقع التعليم الجامعي الخاص ولا يمكن اعتمادها للتدليل على ان هذا القطاع في صحة جيدة او على انه يمتلك الآليات والشروط التي تخول له الطموح للارتقاء الى مستوى نظرائه في البلدان الاوروبية والولاياتالمتحدة الاميركية. صحيح ان حداثة التجربة وغياب تقييمات علمية لوضعية هذا القطاع لا يسمحان باصدار احكام جازمة حول مستقبله ومصيره، كما ان الموضوعية لا تسمح بالسقوط في التعميم اذ يبدو ان بعض المؤسسات والتي قد تشكل استثناء يغمرها الطموح للارتقاء فعلاً بهذا القطاع. لكن، على الرغم من غياب هذا المعطى فان الحوار الدائر حول وضع التعليم الجامعي الخاص يكشف الاختلالات والتجاوزات التي يشكو منها هذا القطاع ويبين ان جل المؤسسات لا تتوافر فيها الشروط الدنيا التي تخول لها اداء هذه الرسالة السامية. ويرسم مراد بن تركية الاستاذ الجامعي ورئيس "الجامعة العربية للعلوم" صورة قاتمة للوضع الراهن لهذا القطاع اذ انه ايد بحماس الفكرة التي تقول لندع الزمن يفعل فعله ولننتظر قليلاً لمعاينة التجربة وللتعرف على قدرات الجامعة الخاصة قبل وضع اطار قانوني لها. الا انه يعتبر ان فترة الانتظار قد طالت كثيراً ويضيف "في غياب الاطار القانوني شاهدنا انبعاثاً عشوائياً لجامعات من كل الالوان كما شاهدنا شهادات مزيفة "تسند من دون مزاولة مسبقة للدراسة ومن دون توافر اي شرط ادنى من شروط النجاح" ويتابع "لقد شاهدنا شققاً تتحول الى جامعات ومهنيين صغار وموظفين يتقمصون رداء الجامعيين ومكتبات خاصة تحول الى مكتبات جامعية". ورأى بن تركية ان انتظار صدور القانون "لا يمنع من وضع ضوابط دنيا تتعلق بالمحل وباطار التدريس وبالهياكل البيداغوجية" مشيراً الى ان هذه الهياكل "التي لا تخلو منها اية جامعة في مختلف اصقاع العالم مفقودة مع الاسف في الغالبية الساحقة من المؤسسات الجامعية الخاصة في تونس". لكن هذه الصورة القاتمة للوضعية الانتقالية التي يعيشها هذا القطاع والسلبيات التي تزامنت مع انطلاقته، لم تزعزع ثقته بالمستقبل فهو يؤكد ان المستقبل للجامعة الخاصة وانه في الامكان جعل الجامعات الخاصة التونسية في مستوى نظيراتها في الولاياتالمتحدة الاميركية اذا تم توفير الاطار القانوني الملائم". والملاءمة تعني برأيه ان يراعي التشريع المرتقب خصوصيات الجامعة الحرة وثقافتها وتقاليدها وان يترك لها هامشاً محدوداً من الحرية يتيح لها اظهار طاقتها وقدراتها على العطاء والمنافسة. ويشار في هذا الصدد الى ان وزارة التعليم العالي والبحث العلمي التي تعايش هذا الجدل والتي آثرت لفترة طويلة موقف الانتظار والتريث والحذر اصبحت جاهزة حالياً للتدخل لتنظيم هذا القطاع وتأطيره، فهي بصدد وضع اللمسات الاخيرة لمشروع قانون التعليم الجامعي الخاص، وليس مستبعداً ان يعرض على البرلمان خلال دورته الحالية. ويبدو ان موقف الوزارة يحكمه بالاساس هاجس المحافظة على مستوى التعليم وعلى قيمة الشهادات التونسية، ومن الطبيعي ان يستبطن المشروع هذا الهاجس اذ يتوقع ان يتكرس تعميم الاختبارات الوطنية للشهادات الجامعية على طلبة هذه المؤسسات، الا ان المشكلة التي ستبقى دون شك محل جدل واختلاف هي قضية السماح لغير المحرزين على الثانوية العامة بالتسجيل في الجامعات الخاصة واعتبارها المفتاح للدخول للحياة الجامعية. وكان "التجمع الدستوري الديموقراطي" الحاكم اوصى في مؤتمره الاخير لدى مناقشة ملف التعليم العالي باشتراط الثانوية العامة الا ان المراقبين رأوا ان الوضعية الحالية وملابسات المرحلة الانتقالية لا تسمح بذلك ورجحوا ان يتم البحث عن حل وسط مثل اشتراط اجراء اختبار للالتحاق بهذه الجامعات او اقرار سنة تحضيرية لاعدادهم للحياة الجامعية. وبغض النظر عما سيسفر عنه الحوار الدائر حول هذه القضية الحيوية وما ستأتي به التشريعات المرتقبة فان المعطيات المتوافرة حول واقع القطاع والظروف التي تحف بنشأته تسمح بتسجيل الظواهر الخاصة الآتية: اولا: ان انطلاقة التعليم الجامعي الخاص، وخصوصيات السياسة التعليمية في تونس تجعل منه تجربة خاصة تختلف جذرياً عن مسارات البلدان الاخرى وخاصة منها المتقدمة ذات التجارب العريقة في هذا الميدان الا ان مناخ التحول الاقتصادي وما سيفرزه من تغييرات عميقة في البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية سيفسح المجال تدريجياً لهيمنة منطق اقتصاد السوق وتكريس فكرة المنافسة في هذا المجال وعندها قد نشهد انحسار او اختفاء المؤسسات التي لا تحترم قواعد اللعبة في مقابل تشكل قطاع من الجامعات الخاصة الجديدة يكون بامكانها الارتقاء بمرور الزمن الى مراتب الجامعات الخاصة في البلدان المتقدمة. وتدعم التجربة مثل هذا الاحتمال، فقد نجحت تجربة التعليم الخاص في المرحلة الابتدائية بعد انتشار المدارس الخاصة التي باتت تضاهي بل تتفوق احياناً في ادائها ونتائجها على المدارس العمومية وهذه التجربة في طريقها للتعليم الثانوي ومن الاكيد انها ستمر مستقبلاً لقطاع التعليم الجامعي فيتم التواصل بين مختلف وحدات التعليم، وتتغير النظرة السلبية السائدة حالياً للتعليم الخاص. ثانياً: ان التحديات التي يطرحها تنامي عدد الطلبة والكلفة العالية للتعليم العالي والتشعب اللامتناهي للتخصصات العلمية والتكنولوجية جعلا من مسألة تمويل التعليم العالي احدى الشواغل المركزية للحكومة. وتجدر الاشارة في هذا السياق الى ان العدد الجملي للطلبة بلغ في السنة الجامعية الحالية حوالى 170 ألف طالب، وتفيد الاحصاءات انه سيرتفع الى 270 الف طالب بحلول سنة 2007 ليستقر في حدود 300 الف طالب سنة 2010. ومن هذه الزاوية فان سياسات الحكومة تجاه التعليم الجامعي الخاص لا يمكن ان تكون بمعزل عن هذه الاهتمامات لأن حجم التحديات المطروحة، ومنطق التحرر الاقتصادي يدفعان اكثر فاكثر الى البحث عن السبل الكفيلة بتكريس مقولة التكامل بين القطاع الخاص والعام في هذا الميدان ايضاً مثلما هو الشأن في بقية الميادين. من البديهي ان تختلف المواقف حول هذه القضايا الاستراتيجية في تونس وفي البلدان النامية عموماً خلال هذه المرحلة الانتقالية التي تشهد فيها تحولات جذرية في البنية الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والثقافية، لكن الاكيد ان هذه التحولات ستفرض منطقها على كل مجالات الحياة ولن تكون المؤسسة التعليمية في منأى عن ذلك.