دق جرس الهاتف في بيتي .. كان المتحدث واحداً من أقاربي في الريف .. قال: ابن عمك جاءه انفجار في شريان في المخ، وقد وقع في غيبوبة.. في اليوم لتالي قال الهاتف: مات ابن عمك لبيب وقد دفناه اليوم ونحن ننتظر حضورك.. .. .. .. راحت السيارة تنهب الطريق الزراعي في قلب الدلتا في طريقها الى مدينة المنصورة.. لقد تغير الطريق.. صار أوسع وأرحب، ورغم اتساعه ورحابته كان عدد السيارات فيه اكثف مما ينبغي.. قلت لنفسي إنه السباق بين زيادة السكان ومحاولات التنمية، وهو سباق ينتصر فيه السكان عادة، وبانتصارهم هذا يسجلون هزيمتهم في نهاية المطاف.. ان كل محاولات التنمية تصطدم بزيادة سكانية لا نتوقعها ومن ثم يظل احساس الناس بالأزمة حاداً كما هو.. رحت اتأمل الحقول الخضراء وأفكر في ابن عمي الذي مات.. كان فلاحاً مثل والده.. اذكر في طفولتي وصباي أننا كنا نذهب الى قريتنا في الدقهلية، كان بيت جدي داراً واسعة تضم ست غرف أو سبعة، وفي مقدمة البيت تقع حديقة لا تقل مساحتها عن فدان، وفي نهاية البيت كانت تقع الزريبة بما تضمه من بهائم لا يستغنى عنها الفلاح كالجاموس والبقر والحمير. كان جدي هو شيخ البلد.. وكنا موضع ترحيب الجميع بوصفنا أحفاد شيخ البلد.. وكان جدي كشخصية رجلاً مرحاً لا يكف عن السخرية والضحك والفكاهة.. وكان القرب منه يسعد المرء ويبهجه.. كان اسمه الشيخ بهجت، وكان له من اسمه نصيب وافر.. وكانت متعتنا حين نزور القرية في الصيف هي الخروج الى الحقول ونحن نركب الحمير، كما يفعل أي فلاح يسرح الغيط كما يقولون. ورغم السعادة الغامرة التي يوفرها للصبي ركوب الحمار، كان هناك شيئاً ينتقص من سعادتي.. كنت اركب الحمار ولكنني لا أقوده.. رفض جدي ان يتركني اقود الحمار خوفاً علي من السقوط من فوق ظهره.. وكان لبيب ابن عمي هو الفلاح الذي يمسك بزمام الحمار ويقوده وهو يسير أمامه.. وأردت أن اكافئ الحمار فقلت اعطيه قطعة من الشيكولاته، وسألت لبيب - هل يأكل الحمار الشيكولاته. قال: لا سألته: لماذا قال: لأنه حمار بعد ذلك تم الاتفاق بيننا أن اعطيه هو الشيكولاته مقابل ان يتركني أقود الحمار وحدي دون عون من جانبه، واتفقنا على ذلك وانفردت بقيادة الحمار، ولأننا لم ندخل الحمار في اتفاقنا، اوقعني من فوق ظهره مرات عدة، ولم أفهم السر في لؤم الحمار.. ويبدو أنه يميز عادة بين راكب ان كان من الريف أو من المدينة.. وهو يقبل راكبه الريفي على أساس أن هناك عملاً سوف يؤديه، فاذا ركبه واحد من ابناء المدينة احس الحمار أن هذا غريب يريد ان يلعب.. والحمار مخلوق جاد جداً وليس لديه وقت للعب، ومن ثم فهو يسقط راكبه من فوق ظهره. كانت أياماً حلوة.. وها هو الزمان يمضي فإذا بأطفال أمس يتحولون الى شيوخ ويدلفون الى مثواهم الأخير.. تغير الطريق الى القرية عن أيام طفولتنا، وامتدت القرى تلتهم ما حولها من مزارع، وتحولت اجزاء كثيرة من الارض الزراعية الى بنايات من الأسمنت المسلح، لم تعد القرية المصرية تبنى من الطوب النئ وانما صارت تقلد المدينة في أسلوب البناء.. ولقد أحسست ان القرية في سباقها مع المدينة تحولت الى شبه مدينة ولم تعد قرية في الوقت نفسه، وبعد أن كان كل بيت في الريف يأكل من انتاجه الخاص ويعيش على زراعته، صارت القرية تشتري خبز المدينة وتستهلك ما تستهلكه المدينة من طعام مستورد.. وهذه في نهاية الأمر مأساة. لقد رقصت القرية المصرية على السلالم كما يقولون، حاولت أن تصبح مدينة، فلم تصبح ولم تعد قرية.. انتشر نبأ وجودي في القرية فجاء العشرات للعزاء، وحدثني أقاربي أنني لم أزر القرية منذ عشرين عاماً، وهذا قطع لصلة الرحم، ووعدت أن ازور القرية كل شهر مرة، أو كل شهرين على الأكثر.. أخيراً وقفت أمام مقبرة آبائي وأجدادي.. دعوت لهم وتصورت نفسي نائماً بينهم، وفكرت في صراع الدنيا المحموم الذي ينتهي في نهاية المطاف لحفرة في الأرض.. هل يستحق هذا الصراع ما يبذل فيه من جهد