أكتب الآن في بيت أمي. بالأحرى هو البيت الذي أحيته أمي. زارته مراية أيامَ كان عامراً بخلق الله، مِن كل زوجين اثنين ثلاثة أربعة. أمي كانت تربي الطيور والحيوانات المتعارف عليها في بيت الفلاح المصري، من الحمير إلى القطط، ومِن ذكَر البط الذي يفحّ إلى الحمام الذي يفقس كل شهْر. والآن، في عهدي المبارك، يعود بيت أمي حثيثاً إلى عصر أو قل مأساة ما قبل أمي. كاد ينهار، يندثر اندثاراً. هو أساساً ليس بيتاً، بضع حجرات متسعة جداً ولا استقامة لها وكلها عارية أو معرّشة بالبوص؛ باستثناء المنضرة التي تمطّعت فيها مراية كما لو أنها تتمطع أمامي الآن. وسكانه، أبي وأبوه وأمه وأخواه، حامد وحميدة، كانوا يستعدون للموت في استسلام تام. جدي عيسى مات وهو في الأربعين من عمره ولحقته عمتي حميدة ثم عمي حامد وهما دون العشرين، وعندما وصلت أمي في ثوب عرسها كانت جدتي ممدّدة على فراش الموت، وكل ما أوصت به أمي كان عبارة عن ألا تنسى أن تجذب إصبع قدمها اليمنى الكبير بقوة حين تموت حتى ينغلق فمها. وهذا ما نفّذته أمي حرفياً، وقالت: «انقفلت كيف الباب، على ما شديت صباعها اتسدت من فوق وتحت». وربما من باب التأثر مات جدي عولة في هذه الأثناء، وكل ما تذكره أمي مِن أيام عرسها في بيت عيت عيسى هو الراحة التامة، كانت دائماً تقول: «رقدت وتمطعت لحد الضهر». قبله، في بيت جدي عولة كانت أمي لا تنام أساساً، كانت تطعم وتسقي وتغسل ملابس إخوتها السبعة وأبناء عمها رحيمة الثلاثة وأمها وعمتيها والبنات وضيوف عولة «اللي ما ينقطعوش لا ليل ولا نهار»، وقبل الشمس تكون حلبت الناقة والجاموستين والبقرة وخضّت وقلّعت القليعة وعملت العصيدة في الطشت مِن فرط ضخامتها، وجاءت للفراغ التام، الذي هو من دون مبالغة، ناس أساساً يستعدون للموت في استسلام تام. والمحجرة، هلى تعرف المُحجرة؟ كلمة بدوية تعني الأرض الحجرية تماماً، والأسرة العزيزة المقبلة على الموت بضراوة. أمي فرحت بمراية جداً، وقبّلتها وحضنتها وتلمّستها طويلاً وكأنها تعرفها، وعملت لنا وليمة الكسكاس الشهي ودعت لنا كوكبة من كبار المتكلمين في العائلة، وتباروا جميعاً في تسميع مراية المواقف الزاهية في تاريخنا التليد من أول الحملة الفرنسية وعصر محمد علي وسعيد وأم حليجة وثورة 1919 حتى الضابط البطل معوض أبو جليل الذي استشهد على حدودنا الشرقية في التسعينات، وراويتنا العظيم شيخ البلد محمد أبو دياب بدأ بالقصيدة التي قالها جدُنا في الترحيب بالأميرة عالية بنت الملك ادريس السنوسي حينما زُفت لابن عمه محمود الباسل شيخ قبيلة الرمّاح، على سبيل الترحيب بمراية في الوطن، وألقى قصائد لشعرائنا الفطاحل: فرحات بو محارب والعياط وعلي بو صالح وغيرهما من مشاهير شعراء بدو المنطقة. وفجأة امتعضت مراية، كنت قاعداً أنا وهي على سجادة أمي الحمراء في المنضرة وسط عشرة رجال معمّمين. أنا أحسست بأنها للحظة خافت، خطرَ على بالها واحدٌ من المشاهد التي تروى عن أقوام من الهمج انقضوا على سيدات غربيات وأكلوهن أكلاً. أحسستُ بأنها خافت، وكما لو أنها بوغتت بألمٍ جسدي ما، وفجأة انقبضت على نفسها والتصقت بي وهمست لا بل زمجرت: «أمال فين الستات». فقلت: «مفيش ستات للأسف وأمي هنا مش باعتبارها ستات وإنما باعتبارها تخطت للأبد كل ما يتعلق بكونها ستات». واضطجعت مراية، لا أعرف إذا كان على الوسادة أو على كوعها نفسه، أنا توترت، وهي نظرت حولها بمنتهى التحدي والإصرار. أحسستُ بأنها قررت الانتقام منا جميعاً، أو على الأقل البرهنة على حضور نسوي لا ينسى وسط هذه المعمعة الرجالية. شمّرت عن ساقيها حتى انكشفا تماماً ثم استندت الى كوعها، وأنا تملكني الرعب من احتمال أن تتمادى وتصير فضيحة. لكن أقاربي الصناديد نظروا إلى الأمر باعتباره «حاجة عادية عند الناس هضول»، وكما تخيلتُهم يركبونها تخيلتُها تركبهم. زرنا خرابة ماضي أو خرابة أم البريقات، وهي بقايا بائسة من العصر اليوناني تقع على مشارف نجوعنا في الصحراء، وجدي عولة كان يستعملها كمكمن، ويربط في تماثيلها البهايم والحمير المسروقة، ولم يبق منها إلا أسوار مهدّمة وأسدان مبتورة الرأس. مراية زهدتها بل كرهتها سريعاً، وعادت مسرعة إلى السيارة. مررنا على أثرنا الحقيقي، أطلال سراية أم حليجة التي شُنق فيها شيوخ قبيلة الرمّاح الأربعون في عهد الخديوي سعيد ومِن يومها استقروا، وكفوا عن الترحال والنهب وصاروا فلاحين مطيعين امتلكوا الأرض وزرعوها وعبدوها عبادة.