ارتفعت أصوات المنشدين الذين غزوا فجأة القاعة الكبرى في "قصر المعارض" التونسي وتصادمت الرايات الكثيفة التي يحملون وترمز لأولياء صالحين راسمة لوحة من الألوان المحلية المتداخلة. هكذا أراد التونسيون أن يستقبلوا فيروز العائدة إليهم مساء أول من أمس بعد ثلاثين عاماً من الغياب، على طريقتهم التقليدية في استقبال حدث استثنائي. حول الخشبة التي كانت الفرقة تتهيأ لدخولها اختلط الإنشاد الشعبي الكلاسيكي مع قرع الطبول، فيما شكّل البخور المتعالي في القاعة سحابة كثيفة كادت تحجب الخشبة عن الجمهور مانحاً المكان مهابة طقوسية. خارج القاعة كانت الطرقات المؤدية إلى "قصر المعارض" في ضاحية الكرم شمال العاصمة تونس مقفلة في وجه السيارات عدا حاملي بطاقات الحفلة. وعلى رغم هذا الاجراء الاستثنائي امتد طابور السيارات المتحركة خطوة خطوة في الطريق من مدينة تونس إلى محلة الكرم على مسافة عشرة كيلومترات. وربما فسرت كثافة الحضور الذي تجاوز ثلاثة عشر ألف شخص ضخامة اسطول السيارات الذي كان يطوّق "قصر المعارض" من الخاصرة إلى الخاصرة. لم يتساءل أحد ان كانت الحفلة ستتم بطريقة "البلاي باك" أم ستكون حفلة حيّة، فالجميع عرف بالتدريبات التي أجرتها فيروز مع فرقتها في القاعة طيلة الأيام التي سبقت الحفلة. قليل بين الحضور في حفلة السبت الماضي حضروا حفلتها الأولى في تونس التي قدمتها على خشبة مسرح قرطاج الأثري صيف العام 1968. فغالبيتهم من الأجيال الجديدة للطبقة الوسطى التي عشقت صوتها وأغانيها لاحقاً. ربما من الصدف أن فيروز قدمت لهؤلاء باقة منوعة من أغانيها شملت أهم مراحل مشوارها الفني. عشرون أغنية اختزلت انعطافات الرحلة الطويلة مع الغناء من "جاييلي سلام" و"نسّم علينا الهوى" و"عودك رنان" إلى "نحنا والقمر جيران" و"يا هلا يا هلا أنا وياك" و"زوروني كل سنة مرة" إلى "تذكر آخر سهرة سهرناها" و"بكره ترجع بعدو أكيد". كانت فيروز تغادر الخشبة بعد كل اغنيتين أو ثلاث لتفسح في المجال أمام أفراد فرقتها حتى يعرضوا لوحات فولكلورية لبنانية رشيقة مستخدمين سيوفاً أو بنادق أو لينشدوا دوراً قديماً لسيد درويش، فيما تكون هي عادت من الكواليس مرتدية ثوباً جديداً لتمضي إلى فصل آخر من الحفلة التي استمرت أكثر من ساعتين. ربما من شدة التجاوب مع الأغاني الأخيرة وقف الحضور واستمر يتابع باقي الحفلة وقوفاً، وكلما ودعت فيروز معلنة نهاية السهرة ارتفع الهتاف باسمها واشتدت حرارة التصفيق فتضطر للعودة مجدداً. ويمكن القول إن الأغاني الثلاث أو الأربع الأخيرة قدمت في الوقت الاضافي أي بعدما حيّت فيروز الجمهور وودعته في المرة الأولى. إلا أن الاغنية الوحيدة ربما التي طلبها الجمهور ولم يسمعها في حفلة تونس هي "زهرة المدائن" ما ترك نوعاً من الظمأ لدى قطاعات واسعة من الحضور. لكن حرارة التجاوب بين فيروز والجمهور التونسي اثبتت ان "ألف آصرة وآصرة ما زالت تربط صور بقرطاج" مثلما قال أحد أعضاء فرقتها. ولم يقتصر الاحتفاء بها على الصعيد الشعبي في حفلة "قصر الكرم" وحسب، وإنما ارتدى كذلك طابعاً رسمياً بتقليدها الوسام الأكبر للاستحقاق الثقافي في حفلة اقيمت صباح أمس في قصر قرطاج. وقال الرئيس زين العابدين بن علي إنه منحها الوسام "لمكانتها الرفيعة في ساحة الأغنية العربية وروح المحبة والتسامح التي تشيعها من أغانيها". كذلك عبّر عن تقديره "لفنها الرفيع ومكانتها بوصفها منارة للموسيقى العربية". وغادرت فيروز بعد ذلك العاصمة التونسية عائدة إلى بيروت