أبو سفانة حاتم الطائي الشاعر الجاهلي توفي سنة 578 م يرقد جثمانه في مكان ما في سلسلة جبال أجا التي تحف مدينة حائل شمال السعودية من الغرب. لكن الناس في منطقة حائل عموماً يعتقدون أن ضريحه يقع في وادي قرية "توارن" التي تبعد 55 كم إلى الشمال الغربي لمدينة حائل. فيما بعض المؤرخين من أبناء المنطقة يذهبون إلى ما ذهب إليه الشيخ حمد الجاسر في معجمه الجغرافي من أن قرية حاتم الطائي التي تحتضن ضريحه إنما تقع في الطرف الشرقي لمدينة حائل وتحديداً في الحي الذي يسمى الآن "السويفلة" وهو الاسم الجديد لما كان يعرف قديما باسم "القريّة" حيث استقرت قبيلة طيء بعد نزوحها من اليمن عقب انهيار سد مأرب، وكان النواة التي نشأت حولها حائل، كما ذكرهما امرؤ القيس: "أبت أجا أن تسلم الدهر جارها فمن شاء فلينهض لها من مقاتلِ تبيت لبوني في القريّة أمّنا وأسرحها غبّا بأكناف حائلِ" أما الجبل الذي كان حاتم يشعل النار في قمته ليلاً لاصطياد الضيوف فليس إلا الجبل الأسود الذي يسمى الآن "السمراء" ويقع عند مدخل حائل من جهة الشرق. كان حاتم يقول لخادمه: "أوقد فإن الليل ليل قرّ والريح يا موقد ريح صرّ عسى يرى نارك من يمرّ إن جلبت ضيفاً فإنت حرّ" لكن لا دليل يثبت أو ينفي وجود قبر حاتم في قرية توارن أو في السويفلة التي بدلت معالمها المزارع والبيوت، سوى أن في الأولى قبرين يصل طول الواحد منهما الى ثمانية أمتار، ما عزز الاعتقاد بأنهما يعودان الى فترة ما قبل الإسلام. كذلك فإن أهل قرية توارن يطلقون على بقايا بيت طيني مجاور للقبرين اسم "قصر حاتم"، وهم لا يعرفون إلا الحكايات الخيالية عن صاحب القصر حاتم، برغم أنهم يروون مكارمه ويتمثلونها بفخر واعتزاز. قصدنا قرية توارن وعبرنا واديها الذي يتخلل جبال أجا، لكنه تشعب بنا وصار فروعاً تشابهت علينا حتى خلنا أننا المعنيون بعبارة حاتم الشهيرة التي قالها عن المحرق عندما عزم على غزو قبيلة طيء: "لقد جهل مداخل سبلات". وسبلات كما يقول حمد الجاسر من "جبال طيء، وإن بلاد طيء كانت من أحصن المواضع في جزيرة العرب، ولهذا استطاعت هذه القبيلة أن تبقى متماسكة منذ العصر الجاهلي حتى هذا العصر". ولجنا في أعماق جبال أجا دون أن نجد القصر والقبرين، وكلما سألنا أحد البدو المارين عن موقعهما قال إنه أمامنا هناك، فنواصل السير علنا نصل قبل حلول الظلام فنستطيع العودة والخروج من متاهة سبلات، لكن المسافة تطول بينما تتناثر في الوادي أشجار الطلح التي يذكرها حاتم في شعره: "وإني ليغشى أبعد الحي جفنتي إذا ورق الطلح الطوال تحسرا" قبيل الغروب لاحت بقايا قصر من الحجر والطين لكن لم نر القبرين حوله. سرنا بعده قليلاً لنجد أطلال القصر المتهدم، والقبرين الطويلين بجواره. لا أحد معنا بين تلك الجبال المهيبة سوى القبر المزعوم لحاتم وأطلال القصر، كأنما كان حاتم يحاورها حين قال: "أتعرف أطلالاً ونؤياَ مهدماً كخطك في رق كتاباً منمنماً أذاعت به الأرواح بعد أنيسها شهوراً وأياماً وحولاً مجرماً يضيء لنا البيت الظليل خصاصة إذا هي ليلاً حاولت أن تبسما" لكن تلك الأطلال لاتوحي بأنها بنيت في عصر حاتم برغم انطماسها. وإذا كان حاتم هو من أقام القصر أول مرة، فربما بني بعده القصر مراراً في الموقع نفسه. بيد أن هناك من يقول بأن القصر ليس لحاتم بل لرجل مجهول اسمه "مزيعل" عاش في أيام الحكم العثماني. الشك في حقيقة كون القصر ليس لحاتم لأنه كان يقيم في السويفلة لا يتعارض مع احتمال كونه عاش في توارن سواء دفن فيها أم في مكان آخر، إذ يذكر حاتم في قصائده عدداً من أسماء الجبال التي تقع ضمن سلاسل أجا كجبل متالع، الذي يقع في جهة أخرى بعيدة عن توارن والسويفلة: "تداركني جدي بسفح متالع فلا تيأسن ذو قومه أن يُغنّما" وهذا يعني أنه كان يتنقل ضمن المكان جبال أجا ومعلوم أن قبيلة طيء، كما أشار الشيخ حمد الجاسر، دأبت على الاحتماء داخل الجبال في وقت الحرب، والنزول الى السهل في وقت السلم. سارعنا الى التقاط الصور للقبرين يقال أن أحدهما لزوجة حاتم ماوية وللبيت المتهدم، لنعود قبل الليل، لكن عجلة السيارة اخترقها حجر مدبب فبقرها لتبدأ المشقة من عدم عثورنا في السيارة المستأجرة على مفتاح فك البراغي التي تثبت العجلة بالسيارة. حينها غابت عنا الشمس. ما المشكلة - قلنا لأنفسنا - ونحن في ضيافة حاتم الذي يقول: "نعمّا محل الضيف لو تعلمينه بليل إذا مااستشرفته النوابح تقصّى اليّ الحيُّ إما دلالةً عليّ وإما قادهُ ليَ ناصحُ" هذا المأزق الذي وقعنا فيه، كان من ناحية أخرى، إعادة تمثيل لمشاهد المآزق الليلية التي يقع فيها عابرو الصحراء، حيث الجبال المخيفة ليلاًتقلق حاتما على ضيوفه المحتملين فيشعل النار في قممها، ويكافىء عبده إذا عثر على ضيف بتحريره من العبودية، بل لا يتورع حاتم عن ذبح فرسه التي لم يكن يملك غيرها في ذات ليل لإطعام الضيوف الجائعين: "لا تعذليني في مال وصلت به رحماً وخير سبيل المال ما وصلا" حقاً لولا حاتم ماذا كانوا سيفعلون، أما نحن فلو كان حياً لما وجلنا من الليل والنأي: "وفتيان صدق، لا ضغائن بينهم إذا أرملوا لم يولعوا بالتلاوم سريت بهم حتى تكل مطيهم وحتى تراهم فوق أغبر طاسم وإني أذين أن يقولوا: مُزايلٌ بأيٍ يقول القوم أصحاب حاتم" تزيد وحشة الخلاء والجبال والليل الذاكرة جلاء وشفافية لتستحضر ملامح العصر الجاهلي من خلايا المكان وتجاعيده، فأي نموذج أخلاقي صاغه عرب الجاهلية ليشهد على مبلغ حظهم من الإنسانية؟ "يا جارية هذه صفات المؤمن، لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق" هكذا قال النبي عليه السلام لسفانة، وهي في الأسر تدافع عن نفسها: "يا محمد هلك الوالد، وغاب الرافد، فإن رأيت أن تخلي عني فلا تشمت بي أحياء العرب، فإني بنت سيد قومي، كان أبي يفك العاني ويحمي الذمار ويقري الضيف ويشبع الجائع ويفرج عن المكروب ويطعم الطعام ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم طيء". حاتم الذي مات أبوه عبدالله وهو صغير، ورث الكرم عن أمه عنبة بنت عفيف الطائي. أما جده لأبيه فهو سعد بن حشرج الطائي القحطائي الذي رعاه في صغره، إلى أن رأى حاتماً يخرج طعامه فإن وجد من يأكله معه أكل وأن لم يجد طرح الطعام فأرسله الجد مع الإبل. لكن الحفيد طفق يبغي الناس على الطريق فلا يجد أحداً حتى لقي ثلاثة شعراء هم النابغة الذبياني وبشر بن أبي خازم وعبيد بن الأبرص، وكانوا ذاهبين الى النعمان بن المنذر، فقالوا له يا فتى هل من قرى، فنحر لهم حاتم ثلاثة من الإبل، وهم كانوا يقصدون بالقرى اللبن، فامتدحوه بشعر، رأى فيه حاتم فضلاً لهم عليه يفوق ما قدمه لهم، فأصر على أن يتقاسموا إبله كلها وإلا نحرها، فما كان من جده سعد حين علم إلا أن قال: والله لا أساكنك أبداً، فخرج بأهله وترك حاتماً ومعه جاريته وفرسه وقلودها. لذلك يوضح حاتم مبكراً فلسفته الأخلاقية رداً على موقف جده السابق: "وما ضرني أن سار سعد بأهله وأفردني في الدار ليس معي أهلي سيكفي ابتناي المجد سعد بن حشرج وأحمل عنكم كل ما ضاع من أزلي" يقول حاتم وهو يزرع في الزمن طيور الأساطير حول شخصيته الفريدة، تتأسس عليها قيم الشخصية العربية على مر العصور: "وإن لم أجد لنزيلي قرى قطعت له بعض أطرافيه" فحاتم كان المثال التاريخي للكمال الأخلاقي الذي يقوم على قلب الفقد والنقص جراء شح الصحراء وقسوتها فيضاً واكتمالاً، فخصوبة الذات الإنسانية أكبر من أن يحيط بها جوع الصحراء وعطشها الأبديان: "أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمحل جديب" فالكرم هو شفاء الصحراء من دائها، لكنه ليس خصلة مستقلة عن غيرها بل منظومة من الأفكار والقيم والعلاقات تشكل رؤية فلسفية متماسكة: "فلا وأبيك ما يظل ابن جارتي يطوف حوالي قدرنا ما يطورها وما تشتكيني جارتي غير أنها إذا غاب عنها بعلها لا أزورها سيبلغها خيري ويرجع بعلها إليها ولم يقصر علي ستورها" يشد بنيان الكرم الحاتمي بعضه بعضاً لدرجة أن يكون موازياً في كثافته وشفافيته للصورة الشعرية: "أأبسط وجهي أنه أول القرى وأبذل معروفي له دون منكري" بل لدرجة أن يكون الكرم ملائماً لحل الشفرة المعقدة لطبيعة النفس الإنسانية، حين يكسبها مناعة ضد الألم الخاص، الذي لم تكن لدى شاعر جاهلي آخر هو عنترة بن شداد حين قال: "أنبئت عمراً غير شاكر أنعمي والكفر مخبثة لنفس المنعم" حاتم في قلب الألم يدافع عن براءة مواجعه: "وما شيمتي شتم ابن عمي وما أنا مخلف من يرتجيني وكلمة حاسد من غير جرم سمعت وقلت مرّي فانقذيني وعابوها علي فلم تصبني ولم يعرق لها يوماً جبيني وذي وجهين يلقاني طليقاً وليس إذا تغيب يأتسيني نظرت بعينه فكففت عنه محافظة علي حسبي وديني" قبل أن تكتمل حلكة الظلام رأينا شبحاً مقبلاً ليتضح أنه لعامل هندي في إحدى المزارع المجاورة لم نكن نعلم بها، لكن ليس لديه المفتاح الذي نبحث عنه، وهو لا يعرف جاره حاتماً ولا لماذا يزار، فقط دلنا على منزل بدو قريب، كان ساكنوه طوق النجاة لنا.