لم يبد العالم العربي وصحافته اهتماماً جدياً بقضايا تركيا الداخلية، الا عندما لاحت في الافق بوادر حرب بين انقرة ودمشق. الصراع السياسي رافقه فوراً صراع اعلامي، حيث بدأ الاعلام العربي يخصص زوايا ومواضيع حول الاقليات العرقية في تركيا وسياسات الاضطهاد التي تعاني منها. كذلك لم يعد الرفض الاوروبي المتكرر لقبول تركيا ضمن اتحاد الدول الاوروبية مجرد رفض عنصري نابع من عداء الغرب للدول الاسلامية وحضارتها، بل غدا بلا تفسير، واختفى في صفحات مجلاتنا وصحفنا التشكيك بنوايا القارة الاوروبية تجاه العالم الاسلامي. الخطر، الذي بات يحدق بسورية، حمل الاعلام العربي على مراجعة حساباته وعلى الانفتاح على قضايا كحقوق الاقليات. واذا كان وضع الاكراد في تركيا لا يحسدون عليه هل هناك من مواضيع تطرقت لوضع الاكراد في العالم العربي؟، فان وضع الصحافة الكردية في جنوب شرق تركيا او حتى الصحف التركية المعادية لسياسة حكومة انقرة هو ما بدأ في الآونة الاخيرة يثير قلق المنظمات الدولية والاتحاد الاوروبي. وكنا قد اشرنا في الاشهر الماضية، وفي هذه الزاوية، الى ان تركيا صاحبة الرقم القياسي في عدد الصحافيين المعتقلين، حسب ارقام سنة 1987. ثمانية وسبعون صحافياً زجوا في السجون التركية وذلك فقط بسبب ما كتبوه او عبّروا عنه. وبالطبع كانت المشكلة الكردية السبب الاول في هذه المعاملة. فأغلبية المعتقلين بين الاعلاميين كانوا قد كتبوا عن العصيان الكردي في جنوب شرقي البلاد واعتبرت مقالاتهم تحريضاً على الانفصال او دعوة الى العنف. حكومة يلماز منذ بدايتها شرعت في محاولة تحسين صورة حقوق الانسان وحق التعبير في تركيا وذلك منذ صيف 1997، بسنها قوانين تحمي الصحافيين من الاعتقالات الفورية. سنة مضت على هذه التصريحات، والدراسات الاولى تشير الى ان الاعلام في تركيا زاد سوءاً عما كان عليه. ففي الاسبوع الماضي، اصدرت جمعية "مراسلين بلا حدود" تقريراً حول الانتهاكات المتزايدة التي تتعرض لها الصحافة في تركيا. هذا التقرير وجهته الجمعية الى المؤسسات الحكومية الاوروبية مذكرة اياها بأن انقرة قد دخلت منذ اكثر من عشر سنوات في عملية الانصهار في المؤسسات الاوروبية، وانها قد وقّعت سنة 1987 على الميثاق الاوروبي لحقوق الانسان الذي يحمي حق الرأي والتعبير. فبحسب جمعية "مراسلين بلا حدود"، شهدت الاشهر الثمانية من سنة 1998 نقصاً واضحاً في الحريات، وذلك رغم الاصلاحات التي وعدت بها حكومة يلماز: بين كانون الثاني يناير وآب اغسطس من هذه السنة، قتل صحافيان وجرى تعذيب ثمانية واعتدي على خمسين صحافياً او لاقوا تهديدات، واعتقل اربعة وخمسون وحقق معهم. كذلك فان عدد النشرات والصحف التي صودرت كانت ضعف ما كان الوضع عليه خلال 1997! ويثير تقرير جمعية "مراسلون بلا حدود" الى ان مكافحة "الارهاب" لا يمكنها تبرير سياسة القمع هذه. ولقد استخدمت هذه الحجة لزج اربع فتيات في السجن كن يجمعن التبرعات لفقراء ازمير، بكونهم يجمعن اموالاً للانفصاليين الاكراد! والتقرير، اذ يشير الى مسؤولية جميع اطراف الصراع في انتهاك حقوق الاعلام، يؤكد ان 75 في المئة من العنف ضد الصحافة انما صدر عن البوليس التركي. فخلال هذه السنة، لم يذكر اي تعرض لمراسلين او صحافيين قام به "انفصاليون" اكراد. بيد ان معظم الصحافيين الذين تعرضوا للتعذيب البوليسي كانوا اكراداً او عاملين في الصحف التي تدافع عن حق الاكراد. وهذا مع العلم ان الانتهاكات لم تتوقف عند باب الصحافة الملتزمة او المتعاطفة مع الاكراد: ثلاثة صحافيين من جريدة "راديكال" وصحافيان في كل من "جمهورية" و"مليات" وعاملان في محطة التلفزيون ATV تعرضوا للضرب من قبل البوليس. صحيفة "كورتولوس" اليسارية دوهمت وقام البوليس بتخريب مكاتبها واعتقال العاملين فيها، كما سدد بعض الضرب للصحافيين الذين هرعوا الى تغطية الحدث، مما ادى الى جرح العديد منهم. سياسة القمع هذه يرافقها التغاضي عن العدالة. فخلافاً لما هو متوقع في دولة "ديموقراطية"، لا تلعب العدالة في تركيا دورها كسلطة تحمي المواطن والمجتمع الاهلي: ادانة العنف البوليسي قلما تصدر عن المحاكم، والثقة في القضاة غدت امراً مفقوداً لدى الصحافيين. وهناك عدد من الصحافيين لم يحق لهم حتى تقديم شكوى ضد دوائر الامن التركية. ويبقى ان من تناقضات الدستور التركي، وجود مقرات عدة تسمح بوضع حد لحرية الاعلام والتعبير، وهذا ما يسمح لمحاكم امن الدولة بأن تساهم في اضطهاد العاملين في الحقل الاعلامي، خاصة وان من العسكريين من يعملون قضاة. في الاشهر الثمانية من هذه السنة، تم فرض الرقابة او المصادرة على مئة وثماني عشرة نسخة، او مقالة في صحيفة. جريدة "اولكيدي غونديم"، المتعاطفة مع الاكراد، شهدت خلال اربعين يوماً، فرض الرقابة على ثمانية وثلاثين موضوعاً، وسبع عشرة افتتاحية وسبع صور. الا ان الصحافة التركية، كغيرها من صحف دول العالم، والمثل الجزائري واضح امام اعيننا… صحافة الجزائر بدأت اضراباً مفتوحاً، رغم دفاع عدد كبير من اقلامها عن سياسة الحكومة الجزائرية في الاشهر الماضية… لم تتأخر في الدفاع عن سياسة حكومة انقرة تجاه المسألة الكردية ومهاجمة "الغرب"، او تجاهل وصول لاجئين اكراد الى دول اوروبا الغربية، والتصريح بأن سبب نزوحهم لا علاقة له بالاضطهاد السياسي، بل انه مجرد هجرة لأسباب اقتصادية