يتمتع المخرج الكندي روبرت ليباج، الملقب بساحر المسرح، بشهرة عالمية واسعة وحضور دائم في معظم المهرجانات المسرحية. ويحتل اسمه حالياً مكانة مرموقة بين أسماء أهم خمسة مخرجين مسرحيين بعد جيل بيتر بروك، وهم الأميركي روبرت ولسون، والألماني بيتر شتاين، والروسي ليف دودون، والفرنسية آريانا منوتشكين. ويشارك هذا المخرج، الذي ولد في مدينة كوبيك العام 1957 ودرس المسرح فيها قبل أن ينتقل إلى فرنسا، الأميركي روبرت ولسون في ريادة ما يسمى بالمسرح البصري. وليباج ممثل قدير، بدأ عمله في المسرح كممثل بانتوميم التمثيل الصامت، ثم أخرج لنفسه سلسلة من عروض الممثل الواحد، كأن أشهرها مسرحية "السنيور هاملت" التي شاهدها الجمهور الانكليزي على المسرح القومي قبل عامين. ويجري الآن في استكهولم عرض آخر عمل له على المسرح الملكي، مسرحية "سلستينا" للكاتب الاسباني فيرناندو دي روهاس. ولعل الاستشهاد برأي المخرج الانكليزي المعروف ريتشارد إر يساعدنا في الدخول على عالم ليباج المسرحي، وفهم اسلوبه الاخراجي، فهو يقول: "إن ليباج يحوّل المكان العام إلى مكان سحري، والمكان السحري إلى مكان واقعي سهل المنال، وليباج مموّن أحلام، والأمر المحفّر بالنسبة إليّ أنه يعمل بلغة ومفردات تنتمي إلى لغة العرض". في الواقع ينطلق ليباج في نظرته الاخراجية من قناعة فنية بسيطة للغاية مفادها أن المسرح مكان للالتقاء والاستمتاع بصور فنية، عميقة وجذابة، وذات دلالات إنسانية في الوقت نفسه، وأن فن المسرح هو الفن الوحيد الذي لا يزال بإمكانه أن يمهد السبيل لانبعاث النهضة. فالصورة المسرحية في مسرح هذا المخرج الكندي الشاب مبهرة ومذهلة، ونابعة من العمق الإنساني الذي يتمخض عن النص المسرحي. وتتجلى أفضل أعماله الاخراجية في المسرحيات التي قدمتها فرقته الخاصة "إكس ماشينا"، لا سيما مسرحيته الطويلة "التيارات السبعة لنهر اوتا"، التي تدور قصتها، المؤلفة جماعياً من قبل الممثلين أنفسهم، حول أناس من مختلف بقاع العالم، يلتقون في هيروشيما، ويواجهون بعضهم بعضاً، وقد فجرت تلك اللقاءات أحاسيس إنسانية عميقة، مدمرة حيناً ومحفزة في حين آخر. ويؤكد عرض المسرحية ان هيروشيما ليست رمزاً للخراب والدمار فقط، بل بإمكانها ان تتجاوز ذلك لكي تتحول إلى رمز للانبعاث، ورمز لقدرة الإنسان على البقاء والتواصل. إن القاعدة الفنية التي تمضي بموجبها فرقة "إكس ماشينا" في عملها هي الالتزام بالابتكار الجماعي والبناء الارتجالي نصاً وإخراجاً، عندما لا يختار ليباج نصاً لأحد الكتّاب. ولكي يتم ذلك تستدعي الفرقة عناصر فنية وتقنية من مختلف ميادين الفن والتكنولوجيا والميكانيك لبناء العرض المسرحي بناء تتضافر فيه التكنولوجيا، خصوصاً في عالم السينما، والفيديو والكومبيوتر وفنون المعمار وأجهزة الإنارة والصوت والمؤثرات بكل تقنياتها الحديثة، حتى ان النقاد يعيبون على ليباج توظيفه لعدد هائل من التقنيين يفوق عدد الممثلين بكثير. في مسرحيته المونودراما "السنيور هاملت" بلغ عدد الفنيين والتقنيين خمسة وثلاثين شخصاً، وقد تأجل عرض المسرحية ذات مرة في السويد لغياب بعضهم، ثم تعطل العرض تماماً. لكن ليباج يقول إن جزءاً كبيراً من التقنيات التي يستخدمها في عروضه لا تكلف الكثير مع أنها تبدو مكلفة ظاهرياً. وعلى الصعيد الفني، أدهشت بعض مشاهد "التيارات السبعة" المنفذة بالمرايا والصور لتجسيد حركة الناس في الذهاب والاياب، المتفرجين اللندنيين بتأثيرها الشاعري المذهل، بما في ذلك خبراء المسرح الذن حضروها. ويلاحظ أن عمل الفرقة المتمثل بالابتكار والارتجال يتواصل بلا انقطاع، حتى بعد العرض الأول. وبالابتكار عملية تبدأ من فكرة بسيطة، صورة فوتوغرافية أو حال إنسانية خصوصاً لتؤدي بالعمل المتواصل إلى عرض مسرحي شيّق. ففي "التيارات السبعة" تلقى الممثلون فكرة عن الموضوع ثم شرع كل منهم يؤلف دوره خلال التدريب والمران المستمرين. وبعد انجاز سلسلة من المشاهد المتعاقبة والمتصلة منطقياً، تم تأليف النصّ وتشكيل العرض، الذي دام ساعتين في مهرجان أدنبره العام 1994، ثم توسع ليبلغ طول العرض ذاته في العام 1997 في استكهولم ثماني ساعات متواصلة، بعد إضافات مهمة خلال العمل الابداعي على الفكرة الأساسية. إن الممثل في مسرح ليباج يمضي في تهذيب دوره، وإضافة اللمسات إلى المشاهد على مرّ السنين وطوال عرض المسرحية. المعالم الفنية لمسرح ليباج تتسم أعمال ليباج المنجزة في نطاق فرقة "إكس ماشينا" بمعالم فنية خاصة، تعكس أسلوبه الاخراجي أفضل من تلك الأعمال التي يقدمها على المسارح الأوروبية كمخرج ضيف، حيث يعمل مع ممثلين من مدارس تأهيلية مختلفة، ضمن عقود مع مؤسسات مسرحية وتحت ظروف فنية مختلفة. وفي حين تتمتع "إكس ماشينا" بوحدة فنية في الاسلوب ومنهج صارم في التدريب والمران والعمل الدؤوب في الابتكار، يتم خلالها انتاج أعمال مسرحية مدهشة بغية عرضها في المهرجانات العالمية وهي في أوج تكاملها. ولا تخلو أعماله الأخرى للمسارح الدراسية في أوروبا من جوانب الضعف والخلل، ولعل اخراجه لمسرحية "سلستينا" للمؤلف الاسباني فيرناندو دي روهاس الذي يجري عرضها حالياً على المسرح الملكي في استكهولم خير دليل على ذلك. ويشرح ليباج علاقته بالممثل قائلاً: "تكمن وظيفتي كمخرج في مساعدة الممثلين لكي يكونوا رواة أفضل، وأن يستخدموا أجسادهم وكلماتهم ومعارفهم على المسرح. ويجب ان أكون واثقاً من قدرة الممثلين في القيام بتشخيص أدوارهم بأنفسهم، وأنهم ليسوا عبيداً للمخرج". موقع النصّ في الاخراج ترتكز الخطة الاخراجية لعروض ليباج على النص أولاً وأخيراً، ويلخص مهمته الأولى كمخرج بتجسيد الفكرة الرئيسية تجسيداً بصرياً حاداً. وكما يستنبط ستانسلافسكي الفكرة الرئيسية من النص ويسمي ذلك بالمهمة العليا، تتلخص المهمة العليا لدى ليباج في خلق الصياغة السينوغرافية الشاملة للعرض، والتي تنطوي على سلسلة من الصور المسرحية المبهرة، توازي سلسلة الأفعال الفيزيولوجية في منهج ستانسلافسكي وتضاهيها في أهميتها الوظيفية، المتمثلة بتجسيد أفعال الممثل وحركته في إطار التكوينات البصرية المتعاقبة. ويظل ليباج في كل هذا أميناً لفكرة الكاتب المسرحية، وهو لا يفرط بالقيمة الأدبية للنص من أجل خلق الصور الفنية المبهرة، كما هو متبع عند العديد من المخرجين المولعين بالاكثار من العناصر البصرية على حساب تشويه النص، أو ضرورة إلغائه كما يدعي البعض. وكما كتب المخرج الروسي مييرهولد ذات مرة إلى الكاتب المسرحي ليونيد اندرييف قائلاً: "إن الأدب هو الذي يولد المسرح وليس المسرح من يولّد الأدب، لأن الصورة المسرحية تظل عديمة المعنى وتافهة ما لم تنبع من جوهر النص"، فإن الصور الفنية المتدفقة من نصّ الكاتب بشكل انسيابي وغزير هي الميزة الأساسية لموهبة ليباج وصنعته المسرحية، وهو، في هذا المجال، صاحب المقولة المعروفة التي اعتاد ممثلو الفرقة الملكية السويدية على ترديدها: "لا تنبش كثيراً، فكل شيء موجود في النص". الصياغات السينوغرافية في لعبة الحلم لأوغست سترنبرغ، تجري مشاهد المسرحية في مكعب مثبت على ركيزة، يدور المكعب لينتقل الممثلون من سطح إلى آخر حسب توالي المشاهد بطريقة مسرحية رشيقة، وكأنهم يعانون من ضغط هائل، ولا منفذ أمامهم سوى الحلم، بينما يتجلى البحر تحتهم على شكل مساحة مائية يشرف عليها المكعب المأهول بسكانه. وفي "حليم ليلة منتصف صيف" يحوّل ليباج الغابة الشكسبيرية إلى ساحة شاسعة من الوحل والمياه، تتمرغ فيها أجساد الممثلين ببدائية وعنفوان. ويهتم ليباج باللغة وأصواتها، ففي عروضه التي يعدّها لفرقة "إكس ماشينا" يستخدم لغات عدة حسب انتقال المشاهد، ويكرر هذا الاهتمام في النصوص التي يكتبها بنفسه، حيث ان الجرس الموسيقي والتنويع الصوتي للغات المختلفة يضفيان على العرض شعراً ايقاعياً مثيراً، ويخلقان تأثيراً يضاهي التأثيرات البصرية. وكانت آخر مفاجآت ليباج في هذا الصدد عرض "سلستينا" بأغانٍ عربية، يؤديها المطرب الجزائري خالد حبيب، الذي أسبغ على مشاهد الحب المفعمة بالرومانسية جواً شرقياً ساحراً وهو يغني على ضربات العود أغنية عبدالحليم حافظ الشهيرة "رسالة من تحت الماء". أما اخراج المسرحية، التي يجري عرضها حالياً على المسرح الملكي في استكهولم، فقد تعرض إلى حملة نقد شديدة، بسبب النشاز الملحوظ بين أداء الممثلين وتجسيدهم السكوني الميّال إلى المدرسة النفسية، إضافة إلى الاخراج الحافل بالتفاؤل. إن "سلستينا"، على رغم كونها عرضاً جميلاً من الخارج، لكن تنقصها أصالة ليباج في التجسيد البصري وحيويته في الأداء. فالكلمات لم تتحول إلى أفعال، ولا الحالات البشرية إلى ميزانسينت شاعرية عميقة تقاوم الملل. وقد وصف الناقد السويدي ليون زيرن العرض بأنه: "أخاذ وجميل، لكنني في الوقت نفسه استطيع الجزم بأنه ينقصه نبض حيوي آخر"