يواصل ياسر عرفات واعضاء سلطته منذ اسابيع التأكيد على انه سيعلن الدولة الفلسطينية في الرابع من أيار مايو المقبل. وبدا أولاً أن التأكيد يشكل تهديداً لاسرائيل، ولبنيامين نتانياهو بالذات، الذي يماطل منذ فترة في التوصل الى اتفاق على انسحاب اسرائيلي جديد من الأراضي الفلسطينية. من جهتها قابلت اسرائيل موقف عرفات بالعداء واطلاق التهديدات المضادة، وحذر نتانياهو من رد ساحق على الخطوة فور اعلانها. ورغم تجنب الطرفين تحديد الموقف في شكل تفصيلي، فقد استمر الأخذ والرد بينهما عن الدولة المزمعة والرد القاسي المزمع عليها. وكان المتوقع ان يعلن ياسر عرفات مخططه لاقامة الدولة اثناء زيارته الأخيرة الى الأممالمتحدة، لكن الضغوط الأميركية حالت دون ذلك كما يبدو. اضافة الى ذلك تنقل الصحف العربية ان عرفات يبذل جهده خلال زياراته الكثيرة الى الدول العربية وغير العربية من أجل الحصول على المساندة لمشروعه. من هنا يبدو الآن ان فكرة اعلان الدولة في الرابع من أيار مايو المقبل تكتسب زخمها الخاص، وان كانت لا تبدو حتى الآن بالغة الحيوية. أقول هذا بنبرة لا تخلو من السخرية، لأن نظرة عابرة من مراقب بريء قد تجد ان من المضحك اعلان دولة للمرة الثانية المرة الأولى كانت في الجزائر في تشرين الثاني نوفمبر 1988، خصوصاً لأن تلك الدولة، في المرتين، هي من دون مساحة أرضية تذكر - لأن ليس لها سوى 60 في المئة من أرض غزة، فيما تسيطر، الى حد ما فقط ومن دون سيادة، على ما لا يزيد عن ثلاثة في المئة من أراضي الضفة الغربية، وفي مناطق متناثرة تفتقر الى التواصل الأرضي هي ما يعرف الآن باسم "المنطقة أ". من بين الردود الاسرائيلية الممكنة القول ان على هذا الكيان الفلسطيني ان يكون في غزة، وهي حالياً مفصولة أصلاً عن الضفة الغربية. ومن شأن ذلك ان يقصر سلطة عرفات، وايضاً للأسف التطلعات الوطنية الفلسطينية عموماً، على قطاع غزة. وسيشكل هذا ضربة قاسية، مهما بلغ حجم الدعم الدولي لتلك الدولة. اضافة الى ذلك، لن يكون لهذه الدولة وجود سكاني حقيقي، نظراً الى أن الفلسطينيين في منطقة ما سيبقون منفصلين عن مواطنيهم في المناطق الأخرى. مؤيدو عرفات في اعلان الدولة، على رغم مشاكل التواصل المناطقي والمشاكل السكانية، يرون ان الاعلان قد يكون له تأثير ايجابي يتمثل باثارة حماسة الفلسطينيين واطلاق طاقاتهم، بما يعوض عن الفشل المريع لعملية اوسلو التي قامر عليها عرفات وبطانته ومساندوه بكل ما عندهم. ذلك ان الفلسطينيين، والعرب عموماً، يعانون الكثير من الاحباط والتراخي. فبعد كل ما كتب واعلن عن المرحلة الجديدة من السلام وفوائد السلام واقتصاد السلام الخ... لا عجب ان نجد لدى الفلسطينيين النفور والضجر الكاملين من كل تلك الأكاذيب، ومن عنجهية الاسرائيليين، وقبل كل شيء من أنفسهم وما يجدون فيها من العجز والفشل. أما عرفات، ذلك الاستاذ في فن البقاء والتكتيك السياسي، فاعتقد انه لا يزال يعتقد انه يستطيع تحريك الأمور عن طريق فكرة اعلان الدولة، لكي يتجنب انفجاراً شعبياً ضد حكمه المتعثر أو على الأقل صرف الانتباه عنه. هناك دوماً خطر ارتداد خطته عليه، لكنه كما هي عادته يعتقد انه قادر على معالجة الوضع في حال حصوله. عدا ذلك، اذا نظرنا الى ما تتطلبه الدولة من المؤسسات والأجهزة والقوانين نجد انها فعلياً غير متوفرة. واذا كان من الصحيح ان السلطة الفلسطينية تقوم بالكثير من مهمات الدولة، مثل البريد وتسجيل النفوس والأمن والشؤون البلدية والتعليم والصحة، فإن اعتمادها على اسرائيل لا يزال اكبر من ان يسمح لها بأن تتصرف كدولة حقيقية. مثلاً، لا تزال مصادر المياه تحت سيطرة اسرائيل، وكذلك استعمال الأرض، والدخول والخروج من الأراضي الفلسطينية. ويمكن لأي ضغط تمارسه اسرائيل من خلال مجالات السيطرة هذه ان تشل اعمال الدولة المزمعة. ولا اعتقد ان هناك حكومة فلسطينية تقبل ان تضع نفسها في هذا الموقع البالغ الحرج. من جهتي، ارى ان سلبيات اعلان الدولة تفوق الايجابيات بكثير. العنصر السالب الأهم هو ان اعلان الدولة على مناطق الحكم الذاتي سيؤدي الى انقسام سكان فلسطين وقضيتهم، ربما الى الأبد. اذ لن يمكن، مثلاً، لسكان القدس التي اعلنت اسرائيل ضمها، ان يكونوا جزءاً من الدولة أو ان يقوموا بأي دور فيها. كما سيواجه فلسطينيو اسرائيل الوضع نفسه، اضافة الى كل فلسطينيي الشتات، الذين سيكون حقهم في العودة، مهما كان نظرياً، في حكم الملغى. وهكذا فإن اعلان الدولة أبعد ما يكون عن توحيد الفلسطينيين، بل انه سيقسمهم في شكل يفوق كل ما عرفوه من قبل، ويفرغ فكرة الشعب الفلسطيني الواحد من كل محتوى. من سيكون المستفيد من هذه النتيجة؟ بالتأكيد ليس الفلسطينيون. لديّ شعور قوي بأن عرفات يستعمل اعلان الدولة لتحقيق ما قد يبدو "انجازاً" في الوقت الذي يتهيأ للقبول ب"العرض" الاسرائيلي بالانسحاب من تسعة في المئة من اراضي الضفة الغربية، اضافة الى "المحمية الطبيعية" التي تشكل ثلاثة في المئة من تلك الأراضي. وليس له سوى القبول لأنه أسير الاسرائيليين والأميركيين، ولا مهرب له من ذلك الأسر، ولا ذريعة يمكن ان يستعملها لتبرير وضعه. واخشى ان الضغط عليه سيؤدي به الى قبول الصفقة مع اسرائيل، ويستخدم اعلان الدولة كطريقة للتعويض على الشعب وكذلك خداع الشعب. من هنا علينا مراقبته بعناية. السلبية الأخرى في اعلان الدولة، التي يبدو لي انها لا تقل خطورة عن الأولى، هي ان فكرة الاسرائيليين في التخلص من الفلسطينيين عن طريق الفصل ما بين الطرفين ستوضع قيد التنفيذ، لكن على يد القيادة الفلسطينية نفسها. وسيشكل ذلك الانتصار النهائي لتلك الرغبة في اختفاء الشعب الفلسطيني بعد سلبه، وهي ما خططت له الصهيونية وواصلت محاولة تنفيذه طوال قرن - ازالة الوجود الفلسطيني كمجموعة قومية من أرض فلسطين التاريخية، الأرض التي يعتبرها الصهاينة أرض اسرائيل المخصصة لليهود من دون غيرهم. من الجهة الثانية علينا ان نتذكر ان فكرة تقرير المصير الفلسطينية، منذ بروز منظمة التحرير الفلسطينية، قامت على اساس المساواة والتشارك في فلسطين. كانت هذه فكرة ايجاد دولة ديموقراطية علمانية، وتطورت لاحقاً الى تصور لقيام دولتين تعيشان بسلام متمتعتين بحسن الجوار. ورفضت الغالبية الاسرائيلية الحاكمة دوماً هذه الفكرة، فيما مثّلت أوسلو، كما أرى، طريقة ذكية من حزب العمل لحصر الفلسطينيين والسيطرة عليهم في سلسلة من البانتوستانات، مع الالماح الى امكان قيام ما يشبه الدولة. وصارح اسحق رابين وشيمون بيريز الاسرائيليين بأن الفصل ما بين المجموعتين السكانيتين لا يعطي الفلسطينيين حق تقرير المصير بل هو وسيلة لتهميشهم والأمعان في اضعاف موقفهم، ويترك الأرض تحت سيطرة الاسرائيليين. من هنا فإن الفصل في هذا السياق يأتي بمعنى العزل العنصري وليس التحرر، واعلان الدولة تحت ظروف كهذه يعني القبول بفكرة الفصل على انها تعني العزل العنصري وليس المساواة وبالتأكيد ليس "تقرير المصير". التعبير الملطف الذي يستعمله نتانياهو لذلك هو "الحكم الذاتي". اضافة الى ذلك فإن هنالك من يضللون انفسهم عندما يرون ان الدولة المعلنة ستكون الخطوة الأولى نحو اقامة الدولة الحقيقية التي تجسد التقرير الحقيقي للمصير. لكن اذا كان الاعلان الشكلي يعني اتخاذ الخطوة الأولى نحو الحقيقة، لنا ايضاً ان نقول عن هذا التقديم للشكل على المضمون في امكان استخلاص ضوء الشمس من خيارة، باعتبار ان ضوء الشمس كان دخل اصلاً في صنع الخيارة! انه مثال على التفكير السحري الذي لا حاجة لنا به الآن. كلا، ان كل هذه الضجة عن الرابع من أيار مايو جزء من اسلوب عرفات المعهود لاشغالنا عن المشاكل الحقيقية امامنا كشعب. انه يشبه ما كان يفعله قبل كل اجتماع للمجلس الوطني، كان يطلق الاشاعات عن الموعد اولاً، ثم يأتي التأجيل، ويأتي الاعلان عن موعد جديد مرتين او ثلاثاً، الى ان يتم الاجتماع وسط تهليل الجميع لهذا "الانجاز". لكن سلبيات دعوته الحالية الى اقامة الدولة تشمل اخفاء المهمة الضرورية، وهي في الدرجة الأولى توحيد الفلسطينيين، وصوغ رؤيا سياسية جديدة وبرنامج جديد وتشكيل قيادة جديدة. واذا كانت السنين الأخيرة برهنت على شيء فهو افلاس الرؤيا التي قامت عليها اوسلو وافلاس القيادة التي سارت على هذا الطرق التاعس. فقد تركت اوسلو مجاميع كبرى من الفلسطينيين من دون تمثيل ورهن الادقاع والنسيان، وسمحت لاسرائيل بالاستحواذ على المزيد من الأراضي واحكام قبضتها على القدس ومرتفعات الجولان والمستوطنات في الضفة الغربيةوغزة. كما أضفت أوسلو الشرعية على ما ليس لنا ان نسميه سوى الوطنية الفلسطينية الضيقة الأفق، التي تتلخص بعدد من الشعارات المستهلكة والحرص على استمرار القيادة القديمة لمنظمة التحرير. المطلوب الآن قبل كل شيء اقامة مناسبة سياسية رمزية كبرى خارج حدود سيطرة اسرائيل او السلطة الفلسطينية تجمع كل قطاعات وشرائح الفلسطينيين، أي عقد اجتماع أو مؤتمر وطني بالمعنى الكامل للكلمة. ولاجتماع كهذا ان يصدر خططاً جديدة للمقاومة والتحرر، يتجاوز التعامل مع الوضع الفلسطيني في الأراضي المحتلة الى تنسيق الجهود الفلسطينية في اسرائيل نفسها وفي كل دول الشتات. انه المؤتمر الذي تتمثل فيه تلك الغالبية الفلسطينية التي لا يستطيع عرفات مخاطبتها أو لا يرغب اصلاً في ذلك، بعدما تركها خارج الصفقة التي عقدها مع الاسرائيليين والأميركيين وأصبح في النهاية رهينة لها. الرؤيا السياسية الوحيدة التي تستحق التمسك بها هي التطلع العلماني القائم على الشعبين، الذي يتجاوز، من جهة، القيود التافهة التي تمثلها دولة فلسطينية صغيرة تعلن مرة او مرتين او ثلاثاً، من دون الكثير من الأرض او الصدقية، كما يتجاوز، من الجهة الثانية، القيود الضرورية لذلك الشكل من العزل العنصري الذي تفرضه علينا الصهيونية في كل مكان. انني لست الشخص الوحيد الذي يرى ان مأزقنا هو أننا بشر محرومون من حق المواطنة الكامل. أن هذا هو ما وحدنا كشعب، سواء في لبنان او القدس او الناصرة او عمان أو دمشق أو شيكاغو. انه أمر لا تفهمه القيادة الحالية ناهيك عن قدرتها على صوغ الرد عليه. من هنا علينا أن لا نهتم كثيراً لحماسة عرفات الصبيانية لما سيحصل او لا يحصل في الرابع من أيار مايو. المهمة الحقيقة كما ارى هي التخطيط لبديل فاعل لهذا الهراء الحالي القائل بأن مجرد اعلان الدولة سيمكننا، في شكل ما، من الحصول على دولة. ان ما يخفيه هذا الشعار الأحمق هو المهمات الصعبة الواجبة لاقامة الدولة، وهي مهمات لا انجاز لها سوى بالعمل الحقيقي والوحدة الحقيقية، وفوقهما معاً التمثيل الحقيقي لكل الشعب الفلسطيني وليس لقسم منه. ما نحتاجه أيضاً هو التفكير الحقيقي بدل الشعارات الفارغة المكرورة. ان الاستمرار في اصطناع "حقائق" وهمية ومحاولة ترويجها على انها سياسات فعلية يشكل اهانة لشعبنا، وعلى عرفات وبطانته أن يخجلوا من هذا الألعاب المستهلكة. ان عليهم التنحي لكي تتمكن عناصر اكثر جدية من الحلول محلهم واطلاق عملية سياسية جديدة تنهي سجل الفشل الكارثي المتواصل هذا. * استاذ الانكليزية والادب المقارن في جامعة كولومبيا.