في البدايات نكهة المستقبل وطعم الآتي ومأدبة الغد. والشاعرات الثلاث المختارات هنا لسن كل الشاعرات اللبنانيات المقبلات على نشر بواكيرهن هذه الأيام. لكن تجاربهن ربما تفضي الى تخطيط أولي لما يتسم به شعر المرحلة المقبلة في موطن مي زيادة وناديا تويني. واقعي قولنا ان انجذاباً غريباً نحو الفرنسية يصيب عدداً كبيراً من الشاعرات اللبنانيات منذ أكثر من ربع قرن. حتى اللواتي يكتبن أولاً بالعربية، كثيراً ما ينعطفن لاحقاً نحو اللغة الأكثر أناقة وأنوثة في العالم. بعضنا يرى في ذلك إهداراً واستلاباً ثقافياً، وبعضنا الآخر يعتبره إثراء لخصوصيتنا المتنوعة. في كل حال بين شاعراتنا الثلاث واحدة تخضرمت باكراً، تاميراس فاخوري، صدر ديوانها الأول "بلاد الزعيم الامبراطور والولد الضائع" عام 1984 وهي بعد في العاشرة من عمرها. ثم أصدرت لها "دار النهار" للنشر ديواناً بالفرنسية وأخيراً بدأت تكتب قصائد بالإنكليزية وتلاحق مراحل إصدار ديوان فرنسي لها في باريس. في الثالثة والعشرين تبدو تاميراس واثقة الكلمة، قصيرة العبارة، تركّز معانيها على أسس بالغة العلوّ، حتى لتبدو أحياناً مبالغة، مما هو متوقع لدى الطامح اليافع. تقول تاميراس أنها تكتب بهاجس كونيّ، مقدمته الصراع بين الإنسان والطبيعة، وتحاول الإجابة عن تساؤلات وجودية حول الموت والحياة والرغبة والحب. كما تميل الى عنصر الأسطورة، باعتبارها الطرف الآخر للحياة، إضافة الى ذلك تنحو تاميراس الى تحليل الشعر إبان كتابته، تستعمل صوراً صادمة، محتشدة بالتضاد والمغايرة. "أحياناً أرى أشعاري لوحات وصوراً وشخصيات، بينها الراوي كما في الأساطير الإغريقية التي تأثرت بها كثيراً". "كأنني ولدت لأكتب شعراً" تضيف تاميراس بهدوء، "كأنما هناك تواز بين شخصيتي والشعر". منذ كانت في الخامسة من عمرها كان الشعر لها بالمرصاد. تناولته بيد ثابتة، لأنه كان "الشيء الوحيد الذي جعلني أفهم نفسي إزاء الكون". أما اللغة فلا ترى فيها تاميراس نهاية بحد ذاتها. "المهم هو الكلمة. لأن اللغة قد تتحول الى سجن". في الفرنسية تجد انسياباً وشفافية. وهي متأثرة ببول إيلوار وسان جون بيرس، وت. س. إليوت. وأودن، تحب تاريخ العصور الوسيطة، وتقرأ تشوسر، كما تطالع لمحمود درويش وخليل حاوي، لكنها تعترف بانصرافها الأعمق الى المطالعات الأجنبية. على صعيد الدراسة تفاجئك تاميراس فاخوري بإرث التفكير العملي المعروف عن أهل الجبل. فهي لا تدرس الأدب أو الفلسفة أو حتى العلوم الإجتماعية، بل تصوّب مستقبلها نحو السياسة الدولية. وتحلم بالعمل في الأممالمتحدة ضمن مؤسساتها الإنسانية. تهمّها كثيراً مسألة حقوق الإنسان، والعمل في مجالات تخفف عن البشر آلامهم. "علينا أن نحلم بتخطي الواقع" تقول تاميراس "لا يمكن ان نبقى واقعيين طوال الوقت". هدى خوري نشرت لها "دار الفارابي" اخيراً مجموعتها الأولى "تدفق فيّ أيها البحر". وهدى التي بدأت تكتب الشعر قبيل بلوغها الثلاثين بعدما عملت فترة في الصحافة وتخصصت في تدريس الفيزياء تتميز بخطابية شعرية ذات نفس منبري وتطلعات إبلاغية مباشرة. تقول ان المفردات تكثفت في ذهنها، كما على نار خفيفة، الى أن نضج لديها الثمر الصالح لكتابة الشعر. ولا تخفي هدى اهمية التجربة العاطفية في تحريك فعل الكتابة. "التناقض الإجتماعي مؤثر فعّال في التحريض على التعبير. بل كل التناقضات الأخرى. حاولت التصدي لما يقف في وجه الحب بالشعر. وفي تجربة لاحقة استطعت ان أتأمل معنى الحبّ عن قرب ملموس أقلّ تعرّضاً للتناقضات". وتقيم هدى خوري مقارنة بين عالم الفيزياء وعالم التخزين الشعري، مما قادها الى الإيمان بأن "المجال الحقيقي للفعل هو تطوير الذات، فأنت قادر على الوصول الى الآخر، بمدى قدرتك على الوصول الى نفسك، لأن الشرط الإنساني في النهاية واحد". تعمل هدى خوري في التعليم، وتتابع بشغف كبير تململ العودة الثقافية الى بلدها، فلا تتخلف عن المشاركة في النشاطات القائمة حولها. "عندما أقرأ شعراً جميلاً" تقول هدى "أحس بالشكر لكاتبه. لأنه استطاع ان يقرّبني أكثر من الإنسان". "نار لا تنطفئ" عنوان المجموعة الأولى لإيناس أنطون مخايل. منذ عامين فكّرت للمرة الأولى في جمع أشعارها. كانت تكتب لنفسها وتحتفظ بما تكتبه كونه مفكرة شخصية مع أنها بدأت مذ كانت في الحادية عشرة تضع خواطرها في دفاتر وتقرأها على المقربين، ممن "لي ثقة بهم". حتى شجعها الدكتور إدوار البستاني والشاعر جورج جرداق على النشر. تعمل إيناس في مجال الإعلام التلفزيوني والعلاقات العامة. وليس غريباً ان تطغى طبيعة عملها على توجهها الشعري، فقصائدها توفيقية، مهادنة، تنطلق من صفاء شبه طفولي، ولا تتوخى - بلاغياً على الأقل - أكثر من البوح التلقائي، في كياسة هي أقرب الى التهذيب التعبيري منها الى التعبير الإبداعي الخالص. ولعل ما يدهش نسبياً في تجربة إيناس أن وجدانياتها تتدفق من دون هاجس بياني يذكر. فهي لا تعمل كثيراً على قصائدها، بل تتوخى تركها على طبيعتها، معتقدة ان "الصدق" أجدى من الصنعة. ويقول جورج جرداق في مقدمته ل"نار لا تنطفئ" أن المحور الثابت الذي تدور فيه وحوله مشاعر الديوان وخواطره "هو الإحساس العفوي الصادق بوحدة الوجود. وهذا الإحساس هو المصدر الحقيقي والأول لاحترام الحياة والأحياء والأشياء على السواء، وللشعور العميق بالحنان والرحمة والمحبة..." وهو يدعو محتوى الديوان، بحق، وجدانيات "معتكفة في خيمة شفافة الأجنحة". حول تجربة الحب تقول إيناس أنها توقفت عند "الإعجاب" وتراجعت غير مرة، وما كتاباتها حول الحب سوى تشاغف تباعدي دلالاته لا تزال مختبئة في ما سيأتي. أبي أناديكَ على حلقةٍ من رماد أناديكَ على حرفٍ من أشجار أين أنت يا أبي في الصخور العالية تتدفق أتيتَ أنتَ يا صدى سمعت صوتي ولم أسمع الغريب أنتَ قلعةٌ بلا أصواتٍ أنتَ مرجٌ بلا ازهارٍ قُل لي: الحياةُ قصيرةٌ يا أبي! تاميراس فاخوري قدر ألغى تسطّح المكان، قعّره. قوّض رتابة الزمان حيّره. خضّ هدأة السكون حرّكه. سكب خمرة حكمته وانتشى. هدى خوري مشاركة ضمّني إليك ولا تضمّني الى الأسماء التي تعرفها. خذني كلّي إليك ولا تأخذ جسدي وحده. إمسك بيدي لا لشيء إلا لنتشارك. المشاركة والتفاعل هما القوة التي لا تقوى عليها نيران الجحيم. إيناس أنطون مخايل