ربمال لا يحسب فيلم "غادجو ديلو" على الافلام البديعة والمهمة، الا ان المشاهد يخرج مبتهجاً بكثير من تفاصيله. الفيلم يشكل الحلقة الثالثة والاخيرة التي تحكي عن الغجر، من قبل المخرج الفرنسي الجزائري الأصل توني غاتليف، ذي الجذور الغجرية في الوقت نفسه. في الفيلم، يصل ستيفان وهو شاب فرنسي، الى قرية غجرية نائية في رومانيا بحثاً عن مغنية غجرية تدعى نورا لوقا. لا يعرف عن تلك المغنية شيئاً سوى كاسيت اغان بصوتها، كان سلوى ابيه طوال فترة احتضاره. ليلة وصوله الى القرية، يلتقي ستيفان الغجري العجوز ازيدور، وكان في حالة سيئة من السكر والحزن، يبكي ابنه الذي اعتقلته الشرطة بتهمة ملفقة. يتصاحب الاثنان، ويصر العجوز على ان يرافقه الشاب للمبيت في بيته. من هنا تبدأ رحلة الاكتشاف المتبادلة. يميل المخرج غاتليف الى الافلام التسجيلية، وهذا ما يفسر غياب حبكة قوية في الفيلم. ان وجود شخصية الشاب الفرنسي، ما هو الا مسبار تتكشف من خلاله عادات الغجر وتقاليدهم. هذا الفولكلور فتن المخرج غاتليف، فكتب وأخرج عملاً يوثق لمجموعة بشرية مهمشة في كل مكان. وتأتي خصوصية الغجر الرومانيين من كونهم مضطهدين هناك، ويترافق الفيلم مع تدفق هجرتهم في السنوات الاخيرة على دول اوروبا الغربية كلاجئين، ما جعلهم قضية مطروحة في الاعلام الغربي، كمواطنين لا يتمتعون بأي من الحقوق في بلادهم. اعتمد المخرج على اثنين من الممثلين المحترفين فقط، رومان ديوريس في دور ستيفان، ورونا هارتنر في دور الغجرية سابينا. عدا ذلك استخدم الفيلم اشخاصاً عاديين قاموا بتمثيل انفسهم، ومن هؤلاء ايزادور العجوز الذي ادى دوره بصورة ملفتة للنظر. بل انه كان يقود المخرج في كثير من الاحيان لاقتراحات عديدة. ففي رحلة البحث عن موسيقي غجري مشهور، قد يكون على علم بالمغنية نورا، يفاجأ ايزادور ومن معه انه توفي منذ ايام. هنا يرى المتفرج طقساً غريباً. يرقص العجوز على قبر رفيقه الراحل يصحبه عزف موسيقى غجرية، ثم يزرع زجاجة الفودكا قرب قبره بدل الزهور. لقد اعتمد المخرج اعتماداً كبيراً على عفوية الطقس اليومي للغجر، وبالتالي فان ما يراه المتفرج من مشاهد، هو الحياة العادية لايزادور وأبناء عشيرته. بالتالي من كان يقود من؟ المخرج وجّه الغجر في هذا الفيلم، ام هم الذين وجهوه؟ يعترف غاتليف في حوار معه، انه عندما ذهب الى رومانيا للتصوير، حمل معه سيناريو مبدئياً ثم راح يعدل فيه حسب تطور علاقته مع تلك الفئة من الغجر. رست القصة في النهاية على بحث ستيفان عن المغنية نورا، واعتقال الشرطة الرومانية لابن ايزادور بتهمة سرقة ملفقة. بالتالي يكشف الفيلم عن عنصرية الرومانيين تجاه الغجر. وبدل ان يكون هذان الخطان اساس الفيلم، يتحولان الى هامش، ويكون الخط الأساسي اظهار ثقافة وعادات هذه الفئة من البشر الرحل. في رحلة بحث الشخصية الأساسية ستيفان، تتطور علاقته مع سابينا، الغجرية المطلقة، التي عاشت فترة في بلجيكا مع زوجها. وبالتالي وجد المخرج مبرراً لتفاهم ستيفان مع سابينا، وتحولها الى مترجمة له في القرية. وسابينا كامرأة، تذكرنا بالغجريات الاخريات التي حفلت بهن الاعمال الفنية، مثل كارمن. انهن دائماً شرسات، حرات في عواطفهن وأجسادهن، وهذا ما يشد اليهن الرجال! ومع ان الفيلم يشير الى اهمية عذرية الفتاة العجرية، الا ان سابينا تحررت من سلطة الرجال عندما انفصلت عن زوجها، وبالتالي فانها تقول وتتصرف كما يحلو لها. على عكس فيلمه السابق "لاتشو دروم"، لم يقدم غاتليف فيلماً موسيقياً عن الغجر. الا ان الموسيقى تظل عنصراً اساسياً في هذا الفيلم. كيف يمكن الحديث عن الغجر دون اللجوء للموسيقى؟ انهم شعب يعبر عن كل اشكال عواطفه بالغناء والموسيقى. وبسبب شهرتهم هذه، تحولوا الى فرق موسيقية مطلوبة في الاعراس والمناسبات المختلفة عند الشعوب التي يعيشون قربها، وهذا ما اظهره الفيلم. الموسيقى مصدر دخل اساسي للغجر، وأداة اساسية لمخزون ارواحهم من الاحزان والأوجاع، عشق الحرية والخوف من المجهول والآخر الذي يرفض وجودهم او الاعتراف بانسانيتهم. ان غناء الغجر، متمثلاً في صوت نورا لوقا التي يبحث عنها الفرنسي ستيفان، صوت يختزن الماً موغلاً في الزمن، تتناقله الاجيال والاصوات مثل البكاء. ما يلفت النظر في فيلم "غادجو ديلو"، انه ليس فقط رحلة اكتشاف من طرف واحد، طرف ستيفان الفرنسي. بل هو اكتشاف متبادل. فهو منذ وصوله الى القرية، محط انظار اهل القرية كغريب، وعنوان الفيلم يعني الغريب الاجنبي. بالتالي، فان مطلق انسان هو آخر مختلف وغريب، من وجهة نظر غيره المختلف معه في ثقافته. لا يتسم الفيلم بتلك النظرة الانثروبولوجية الاستشراقية، التي تكتشف الآخر انطلاقاً من مركزيتها، ومن كونها المرجع والأساس، والآخر هو المختلف. في الفيلم يكون الشاب الفرنسي مثار استغراب وفضول من نزل بينهم، لذا فطوال الفيلم يكتشف كلا الطرفين ماهية الآخر: لغته، تعابيره، نوعية ملابسه... الخ. والطريف ان الطبع البشري متشابه في المزاح مع الغريب بترديد الشتائم والمسبات، ليكررها هذا بدوره دون ان يفهمها. هذا ما كان يتبادل فعله اهل القرية وستيفان في الوقت نفسه، ضمن محاولة معرفة الآخر ومصادقته.