فجأة، بدأت صحف ومحطّات تلفزيون لبنانيّة تتحدّث عن دور مجيد لمقاتلين قوميّين سوريّين («سوريّين قوميّين») في سوريّة. إنّهم يقاتلون، دفاعاً عن الحضارة. عن العلمانيّة. زوابعهم ترفرف. تخفق. تُزهر دماً. تردّ عنّا زحف الصحراء ورملها، وهو ما كان من هواجس زعيمهم أنطون سعادة. إنّهم لا يدافعون عن النظام السوريّ، لكنْ ما ذنبهم وقد أصبح نظام بشّار الأسد ينطوي على هذه المعاني النبيلة كلّها: الحضارة، العلمانيّة، التضحية، الفداء، أصحاب الجماجم المستطيلة في مواجهة أصحاب الجماجم المفلطحة؟ أن يقاتل القوميّون السوريّون في سوريّة، في معزل عمّا يقولونه، فهذا دليل آخر على أنّ الدولة السوريّة تحلّلت إلى ميليشيات. فإذا عبّر استجلاب «الحرس الثوريّ» و «حزب الله» إلى ساحات القتال عن الاستعانة بدولة حليفة هي إيران، فإنّ استجلاب القوميّين السوريّين تعبير عن الاستعانة بأيٍّ كان. هذا لا يليق بتاتاً بجيش لا يوصف إلاّ بالبسالة. مع ذلك فالمسألة لا تخلو من براعة ظاهريّة. فإذا كان «الحرس الثوريّ» و «حزب الله» يدافعان عن «الحكم العلويّ»، فإنّ القوميّين السوريّين يدافعون عن «الحكم العلمانيّ». هذا صحيح وذاك صحيح، ومن قال إنّ هذا يتعارض مع ذاك؟ لكنّ الأواني المستطرقة تعمل هنا أيضاً: فعلى هامش القتال دفاعاً عن «الحكم العلويّ»، هناك التصدّي لإسرائيل والصهيونيّة والإرهاب وأميركا. وعلى هامش القتال دفاعاً عن «الحكم العلمانيّ»، هناك التصدّي نفسه، معطوفاً عليه التكوين الأقلّيّ، المسيحيّ – العلويّ، للقوميّين السوريّين. إذاً، وتيمّناً بهارون الرشيد: أمطري حيث شئت فعائدك عندي. والحال أنّ المرّة الأخيرة التي «قاتل» فيها القوميّون السوريّون في سوريّة كانت أواسط الخمسينات. آنذاك اغتالوا الضابط البعثيّ عدنان المالكي، والذي ربّما كان مسؤولاً حزبيّاً عن الضابط البعثيّ الشابّ حافظ الأسد. وهذا ما قد يحيّر الدمشقيّ العاديّ بالانبعاث القوميّ السوريّ. لكنّ ذلك لا يهمّ! فعلى مدى تلك العقود الفاصلة وما تخلّلها من يقظة للهويّات، تغيّرت الهويّات: بقي من المالكي أنّه ضابط سنّيّ دمشقيّ، ومن الأسد أنّه باني السلطة ذات السيطرة العلويّة. أمّا القوميّون السوريّون فموجودون آنذاك بما يليق، وموجودون الآن بما يليق أيضاً. آنذاك، كانوا ملتحقين بتحالف يجمع النظامين الهاشميّين في بغداد وعمّان وحكم الرئيس كميل شمعون في لبنان. والتحالف هذا كان صديقاً للغرب، وعلى عداء مع جمال عبدالناصر وعروبته. اليوم، هم ملتحقون بتحالف «الممانعين» الذي يقف على رأسه آية الله (العلمانيّ!) الخامنئيّ، ويتصدّر قياداته السيّد (العلمانيّ أيضاً!) حسن نصر الله. أمّا البيروتيّ العاديّ فحين يسمع بقتال القوميّين في سوريّة، بعد مشاركة «حزب الله» الواسعة، فلا يسعه إلاّ أن يتذكّر الخريطة الحربيّة التي ترافقت مع غزو بيروت في ايار (مايو) 2008. صحيح أنّها هذه المرّة أكبر كثيراً من يومذاك، إلاّ أنّ ما وُلد يومذاك صار اليوم، وقد تهاوى النظام السوريّ، شابّاً قويّ العضل، مطلق الإرادة. لكنّ التاريخ أمّار بالسوء. فاعتداد القوميّين السوريّين ب «العقيدة» و «العقائديّة» لا يفسّر القدرة على اغتيال عدنان المالكي، ذات مرّة، وبشير الجميّل، ذات مرّة. من يغتال هذا لا يغتال ذاك، هذا إذا وافقنا أصلاً على مبدأ الاغتيال. وذلك علماً باغتيال رياض الصلح قبل الاثنين، وهو قابل لأن يُمَوضع سياسيّاً في مكان وسط بينهما. أغلب الظنّ أنّ السجلّ هذا يوحي بأنّ القوميّين السوريّين يستطيعون أن يغتالوا أيّاً كان، بعقيدة أو بلا عقيدة. وها قد انفتحت أمامهم، هم أيضاً، حقول القتل في سوريّة ليمارسوا احترافاً أصيلاً أصالة «الأمّة السوريّة» نفسها.