لعب النفط دوراً مهماً في النصف الثاني من القرن العشرين في دعم الأمن العربي اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. ولا يزال هذا الدور محورياً في عملية التنمية العربية. ففي ظل الأزمات الاقتصادية العاصفة، التي يرى بعض المحللين بأنها تقود الاقتصاد العالمي إلى تقلص وانكماش شبيه بأزمة عام 1929، يحتاج العرب كافة إلى صياغة دور جديد للنفط والغاز لتأمين ودعم أركان استقرار الاقتصاد في بلدانهم وتحقيق الأمن الاجتماعي والسياسي. ويتمحور هذا الدور الجديد حول قرارين مهمين: أولهما، فصل سعر الغاز الطبيعي عن سعر النفط الخام لتجنيب الاقتصادات النفطية تراجعاً حاداً محتملاً. وثانيهما، اعتماد احتياط النفط والغاز الطبيعي كغطاء للعملات العربية النفطية بعد تحديد قيمته في مقابل سلة عملات أحدها الدولار الأميركي. فصل الأسعار يبدو أن انهيار أسعار النفط الخام حقيقي وسيستمر، وربما لن يكون في وسع أحد من المنتجين - بمن فيهم منظمة أوبك - ايقافه. والحيار الوحيد المتاح أمام العرب لزيادة مداخيلهم المالية وحماية موازاناتهم الاقتصادية من الضغوط الاجتماعية والسياسية، هو الاتجاه إلى فصل سعر الغاز عن النفط لحماية مواردهم في وجه المستقبل المجهول. فالغاز سلعة المستقبل التي يراهن الكثيرون عليها، وهو المصدر الأساسي لتوليد الطاقة الكهربائية، وأقل تلويثاً للبيئة بالعوادم التي تهدد طبقة الاوزون وتسبب الاحتباس الحراري للكرة الأرضية. ومعلوم أن سعر النفط الخام يتحكم فيه العرض والطلب، وحجم المخزون العالمي، فيما تتحكم في أسعار الغاز الطبيعي والمسيل مسألة العرض والطلب فقط، لأن مخزون الغاز المسيل معروف وواضح. وتقتصر عضوية الدول المنتجة للغاز الطبيعي والمسال على عدد محدود من الدول، بعكس الدول المنتجة للنفط، كما أن معظم المستهلكين للغاز الطبيعي والمسال هي دول صناعية غنية قادرة على تحمل التكاليف، وهي نفسها الدول التي تفرض "ضريبة الكربون" على النفط العربي. وتجدر الاشارة إلى أن الشركات التي تتعامل في تكنولوجيا الغاز المسال مثل "شل" و"بي. بي" تدعو إلى الفصل بين سعري النفط والغاز منذ مدة لأسباب تجارية، وهي أعدت اقتراحات التسعير الجديد والفصل وسيناريوهات الأسعار الجديدة في انتظار ابداء الدول العربية المنتجة للغاز استعداداً لذلك. وربما كان الوقت المناسب لاعلان هذا الفصل في الشهرين المقبلين، إذ أن المخزون العالمي الأميركي من الغاز في أدنى مستوى له منذ عام ونيف، ما يعطي دفعة قوية لأسعار الغاز العربي تعوض الخسارة في أسعار النفط. وينبغي في هذا السياق العمل على إنشاء "كارتل" غاز جديد على غرار كارتل "أوبك" النفطي الذي أدى دوره التاريخي خلال القرن العشرين، وبات ضرورياً ايجاد مجموعة دول جديدة ملائمة لتحديات القرن الحادي والعشرين ومتطلباته من الطاقة، على أن يبدأ بعضوية المنتجين العرب ثم يشمل دولاً أخرى منتجة للغاز يمكن الاعتماد على استقرارها السياسي والاقتصادي وحياد رأيها. وقد ينبري رأي يدعو إلى التريث في هذا الأمر، إلا أننا نرى أن الوقت يلعب في غير صالح الدول المنتجة، التي ستصل قريباً إلى حال الاعياء الاقتصادي بسبب قلة المداخيل وزيادة المصاريف وانخفاض الاحتياط النقدي وعجز الموازنات، خصوصاً بعد الأزمة التي عصفت باليابان ودول جنوب شرقي آسيا التي تشكل سوقاً تقليدية للنفط العربي ومشتقاته. الغطاء النفطي للعملات العربية يشكل هذا الأمر ضرورة ملحة، خصوصاً بعد اعلان الولاياتالمتحدة نيتها تقويم السندات الحكومية العائدة لهونغ كونغ بعد تلاحق الأحداث الاقتصادية العالمية وتتابع الانهيارات في أسواق العالم. وإذا ما تم ذلك، فسيتم تقويم عملات الكثير من دول العالم، إما من قبل الولاياتالمتحدة مباشرة أو من قبل صندوق النقد الدولي بطريق غير مباشر. وحين يحدث هذا، وفي ظل اقتصاد عالمي متقلص ومنكمش، سيتزايد الضغط الاقتصادي في كثير من دول العالم، مولداً ضغطاً اجتماعياً وسياسياً. وفي ظل الظروف غير التقليدية التي يعيشها اقتصاد العالم في هذه اللحظات المشحونة بالتغيير والترقب، ينبغي على العرب التفكير في سبل غير تقليدية لمواجهة هذا الوضع، وان ينطلقوا "خارج الصندوق" وخارج الاطر الاقتصادية التقليدية المتعارف عليها. إذ ليس من العدل أن تقارن الدول العربية النفطية مثلاً، وهي دول مستقرة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وتمتلك نظماً مصرفية متطورة وقوانين متقدمة ومنفتحة عالمياً ثروة نفطية ضخمة، بدول أخرى ليس لديها كل هذا. وليس من العدل أن تحظى عملات الدول العربية النفطية بالمعاملة نفسها التي تلقاها عملات جمهوريات الموز. وليس من العدل أن يطلب صندوق النقد الدولي من دول نفطية عربية ثرية أن تخفض قيمة عملتها بحوالى 15 في المئة اضافية في الوقت الذي تراجعت عملتها فعلاً نحو 10 في المئة مقابل الدولار الأميركي خلال عقد واحد. لا شك أن أهمية النفط والغاز الطبيعي تفوق أهمية الذهب، إذ أنهما يلعبان دوراً اقتصادياً أكثر حيوية من أي معدن آخر في القرن العشرين، وسيستمر هذا الدور لفترة تتجاوز منتصف القرن الحادي والعشرين حسب معظم الفرضيات. والطاقة التي يعطيها النفط هي مصدر التقدم والحضارة المعاصرة، والقرن العشرون كان عصر النفط قبل أن يكون عصر الذرة والكومبيوتر. ولولا هذه المادة ما كانت الكهرباء رخيصة ومتوافرة لغالبية سكان العالم ولبقي غالبية البشر يركبون الخيول بدلاً من السيارات والطائرات الأسرع من الصوت. كل ذلك يعطي الدول العربية المنتجة حق استعمال احتياط النفط والغاز الطبيعي المؤكد لديها كغطاء يحمي عملاتها من التدهور أو الخفض الالزامي، ويقيها ما يحدث لبقية عملات العالم. ولا يمكن لدولة عربية واحدة ان تقدم على أمر كهذا بمفردها، بل هو قرار جماعي يؤخذ بالاجماع، ويطرح على الهيئات الدولية التي تتولى تنظيم الاقتصاد الدولي كأمر لا رجعة عنه، ومن حق دول النفط العربية ان تحدد لعملاتها وبالتالي اقتصادها صيغة مستقرة تحميها من الخفض والدولرة. كما يمكن ان يتم تحديد قيمة الغطاء النفطي من هذا الاحتياط المؤكد من النفط والغاز بسلة عملات دولية قوية أحدها الدولار الأميركي. إن للنفط العربي دوراً حيوياً في حماية مستقبل المنطقة من الجوع والخوف، ولا بد لهذا الدور من أن يأخذ مداه إلى الحد الذي يؤمن لقمة عيش الآباء ومستقبل الأبناء. * باحث اقتصادي ومدير عام لإحدى الشركات التجارية.