أمس كان يوماً لعيناً. عشت ما يشبه أفلام سينما الرعب. كنت أقود السيارة على طريق رئيسية بعد أن ملأت صندوقها بسلع، ضرورية وغير ضرورية، تسوّقتُها. وعلى الايقاع السهل للأغاني التي يبثها الراديو كنت أغني، حين سمعت الصوت الرهيب ينبعث من دواليبي بعدما فرملتُها بأقصى ما استطعت. سنجاب بائس كان يعدو عبر الطريق بسرعة مذهلة. كل ما استطعت رؤيته هو كائن متحرك مذعور، يضرب في الاتجاهات كلها. سمعت فرملة دواليب أخرى فيما الحيوان الصغير يحاول يائساً ايجاد طريقه خارج الشارع العريض، فيتجه بسرعة ذات اليمين وذات اليسار. وكما لو أنه أعمى راح يصطدم بحافة الرصيف ولا يلبث أن يستدير استدارة كاملة لينعطف في الاتجاه المعاكس. المشهد كان موحشاً. أنا وسائق السيارة التي توقفتْ من الطرف المقابل، وجدنا أيدينا تندفع فجأة لتمسك برؤوسنا. لكن شاباً صغيراً مسرعاً يقود سيارة سبور، بدا نافد الصبر كي ينتظر السنجاب. ومن دون أن يعبأ بالزيغ زاغ الكئيب الذي كان يسلكه، حاول أن يتجاوزنا ويكمل سيره، فانعطف لصيقاً جداً من سيارتي وكانت النتيجة مزيداً من الأصوات المخيفة تنبعث من دواليبه. المارة وقفوا صامتين وراقبوا عاجزين. كان واضحاً أن أحداً لا يستطيع فعل شيء لمساعدة السنجاب المذعور والضائع. سرعته كانت تسبق كل ايقاعات التفكير. الطريق بدت فعلاً كأنها قطعة من أفلام الكوارث. قد تظن انني ابالغ، وأنا نفسي لا أفهم الآن ما الذي حصل، ولماذا بدا كل الناس الذين على الطريق يمزقهم مشهد هذا الحيوان البادي كأنه ضحية وقع في فخ. ثم، ولسبب غير معروف تماماً ربما كان استكانة الشارع كلياً للحظات بعد المشهد، قفز السنجاب إلى الرصيف وانتقل مسرعاً إلى الشارع الآخر. لا أعلم ما الذي حصل لهذا البائس بعد ذاك وما إذا وجد مكانه، إذ الحديقة العامة الأقرب تبعد كيلومتراً على الأقل. ما أعلمه انني اغلقت الراديو وقدت سيارتي عائدة إلى البيت، أشعر بضعف في قدميّ وبشعور يشبه الاكتئاب الشامل. هذه الحادثة ادخلتني في مزاج كريه جداً حتى انني رحت أفكر في الأشياء المحزنة والأشياء المحزنة وحدها. وأرجو الذين يشعرون بالسخرية من الحساسية حيال الحيوان، والذين يودون ترداد البديهيات الفجّة من نوع: "هناك من يكترث بالحيوان فيما العالم الثالث يعاني المجاعة"، أن يُبقوا أفكارهم لأنفسهم في الوقت الحاضر. فسؤالي، في الواقع، هو كيف يسع بعض الناس ان يمارسوا التعذيب، كيف يسعهم ذلك حقاً؟ فمجرد رؤية هذا الحيوان تضطهده حقيقة ضياعه بعيداً عن أشجاره، أحزن كل الذين شاهدوا يأسه. كيف يمكن لأي كان ان يخلق وضعاً كهذا حيال أي كان، ومن ثم أن يشاهده، وربما يتلذذ به؟ ولئن بدوت هنا انني أقدم تنازلاً صغيراً للذين لا يرف قلبهم إلا للألم حين ينزل بمن هم من جنسهم، فالمسألة أعقد قليلاً. فالحيوانات ليست كاملة، ولا أظنني على تلك السذاجة التي تحمل على الاعتقاد ان الطبيعة ممتازة بذاتها، فيما العيب في المجتمع الإنساني. ذات مرة كنت امتلك قطة كثيراً ما أحببتها وتعلقت بها، ومن أجلها غيرت بيتي لكي تعيش في مسكن يضم حديقة صغيرة، بحيث تتمتع بحياة أفضل. "ستاشو" كان اسمها، وكانت جميلة وأنيقة يسعدها الجلوس على ركبتي بقدر ما يسعدني التربيت على ظهرها. في أحد الأيام فتحت باب الحديقة لأرى "ستاشو" تقتل عصفوراً صغيراً. استمرت تضرب العصفور الصغير هذا ببراثنها حتى غدا نصف ميت، ولخيبة "ستاشو" كف العصفور عن الحركة، فيما هي مضت في عملها غير عابئة بصراخي كله. لم تكن "ستاشو" لعينة، إلا أنها كانت تمثل دورها الطبيعي في الاصطياد، ماضية في محاولة تحريكه من أجل أن تضربه ببراثنها المرة بعد الأخرى. وكان لا بد أن يمر وقت طويل قبل أن استطيع اجلاس "ستاشو" على ركبتي. ومن أجل التغلب على نفوري منها، كنت أقول لنفسي في هذه الغضون: إنها لا تعرف ما الذي تفعله. لكن ماذا إذا كان، هو أو هي، يعرفان ماذا يفعلان؟ أقول "هي" بسبب ذلك الكتاب الجديد الذي لا يسعني إلا أن أعود إليه المرة بعد المرة. فنحن نظن في العادة ان الجلادين رجال، انهم ذكور مختلّون يعملون لمصلحة جهاز سري ما، أو لمصلحة ذكر آخر مُخبل ومحبط وعنيف. أبداً لا تخطر المرأة في بالنا حين نفكر في جنس الجلادين والتعذيب. حتى الأعمال الأدبية والفنية تختار أساساً رجالاً لوظائف التعذيب. تارانتينو في "ريزيفوار دوغز" رسم فن التعذيب الذي لا يحتاج إلى ديكتاتوريين أو جهاز مخابرات من أجل الاستغراق في هذا النشاط الإنساني - اللاإنساني. والحال ان الكتاب الذي أشير إليه هو سيرة لور ادلر عن حياة الكاتبة والروائية الفرنسية الراحلة مارغريت دوراس. فهي، فنانتنا المدهشة، كانت حضرت طوعاً وربما شاركت في تعذيب شارل ديلفال "رابييه" في روايتها "الألم" التي كنا نفضلها أن تكون عملاً روائياً عديم الواقعية بالكامل. لقد فعلت هذا من أجل الحصول على إقراره، بعد التحرير، بالمكان الذي ارسل زوجها إليه. فكيف وسعها ذلك؟ أبقى أسأل نفسي السؤال هذا، ولا بد أن وقتاً طويلاً سيمضي قبل أن أنسى، وقتاً هو بالتأكيد أطول مما استغرقته عودتي إلى التودد ل "ستاشو"