تبدو جائزة نوبل وكأنها المحك على عروبة أو لاعروبة الجائزة العالمية. كل عام ننتظر أن تمنح لعربي أو لا تمنح ونكيل التهم حينئذ لانحياز الجائزة وانحياز لجنتها. ومنذ أن رشح طه حسين للجائزة في حياته صرنا نحلم بها، واختصرنا ثقافة أمة بموقع شخص فيها، وهي نظرية لا تمارسها آداب وثقافات الأمم الأخرى. ويبدو ان لجنة الجائزة السويدية فهمت ظاهرة الاختصار الثقافي عند العرب، فاختصرته بترشيح طه حسين من دون ان ينالها في ظروف لم تكن مؤاتية لظهور أديب عربي على المسرح العالمي، ثم اختصرت ذلك مرة ثانية بنجيب محفوظ الذي استحق الجائزة بجدارة عربية تمثلت بالاجماع العربي عليه وهي ظاهرة أخرى لا توجد في الآداب القومية الأخرى. كان محفوظ يستحق الجائزة مثلما كان يستحقها طه حسين والجواهري ونزار قباني وعمر أبو ريشة وبدوي الجبل والأخطل الصغير وآخرون رحلوا، ربما، من دون ان ينتظروا الحصول عليها ومن دون أن يعتقدوا بأن الجائزة "يمكن" ان تكون من نصيبهم لظروف خارج المكانة الأدبية. فليس كل الذين أخذوا جائزة نوبل أخذوها لمكانة عالمية. فأدباء مثل الذين أشرنا إليهم، ومثل نازك الملائكة والبياتي اللذين يمكن أن يحصلا عليها لموقعهما في تحديث الشعر العربي الذي طرأ على يديهما مع آخرين، ومثل أدباء كحنا مينا وغادة السمان وعبدالرحمن منيف وأدونيس وسعدي يوسف ومحمود درويش وغيرهم من أدباء تجاوزا الخمسين من العمر ربما يكون كامو الوحيد الذي نالها من دون الخمسين من عمره، ويتمتعون بمكانة في ادبنا ربما تكون أكبر بكثير من مكانة ادباء في بلدانهم وآدابهم نالوا الجائزة لعل آخرهم الروائي البرتغالي ساراماغو الذي لم يسمع به إلا القليل من العرب ضمن المئتي مليون والذين يزيدون على عدد متكلمي اللغات الفرنسية والايطالية والنروجية والسويدية والدنماركية والألمانية والعبرية، وأقل لغة من هذه اللغات فازت ثلاث مرات على الأقل، عدا العبرية التي تمثل دولة صغيرة واحدة في العالم هي إسرائيل أكثر من نصف ادبها لا يكتب بالعبرية. هذا يعني أن كل أديب يمكن أن يحصل على جائزة نوبل حتى لو كان شبه مغمور عالمياً. لكن هذا لا يسري علينا نحن العرب. فالعرب تختصر ثقافتها برمز أو اسم واحد، إما هو وإما لا، وربما لو نالها زيد لغضب عمرو ولو نالها عمرو لغضب زيد. وربما لو نالها أديب لا تجتمع عليه الدول والأحزاب العربية لقلبنا الدنيا على نوبل وأميتها وعدم قدرتها على التفريق بين أديب تطبل له الصحافة وتزمر وبين أديب زهد بالأضواء واكتفى بما يكتبه. ولكنّا اتهمنا لجنة نوبل لأنها لم تحسن الاختيار وأعطتها لواحد لا يستحقها من العرب! هذا مع الأسف حقيقة تجسد الحسد العربي للعربي. في العالم اليوم أكثر من خمسين أديباً، على الأقل، يستحق الجائزة بالمواصفات التي اعطيت بموجبها لأدباء في بلدانهم. الروائي البرتغالي ساراماغو نفسه لم يتصور أنه سيفوز بالجائزة. فهو لم يشتهر في البرتغال بلده إلا قبل ستة عشر عاماً حين كان في الستين من عمره. ومع هذا أخذ نوبل وبارك له العالم والبرتغاليون هذا الفوز. وفي عالمنا العربي يشتهر كتّاب منذ خمسين أو أربعين أو ثلاثين أو عشرين عاماً، ومع هذا ما نزال نحن العرب لا غيرنا يستكثر عليهم الترشيح إلى نوبل، فكيف بالفوز بها؟ إن أشهر وأكبر روائي ألماني هو غونتر غراس لم يفز بجائزة نوبل بعد، وأشهر وأكبر شاعر روسي هو ايفتوشينكو لم يفز بجائزة نوبل بعد. كما أن أكبر وأشهر شاعر عربي هو الجواهري رحل ولم يترشح للجائزة. أما أشهر روائي انكليزي مثل غراهام غرين فظل على قائمة الترشيح ربع عمره تقريباً ولم يفز بها. وهناك رفائيل البرتي أكبر وأشهر شعراء اسبانيا اليوم لم يفز بالجائزة. وفي المجر شعراء كبار ومشهورون فيها أمثال اشتفان فاش الذي توفي قبل خمس سنوات واشتفان اوركين وهو أكبر قاص ومسرحي مجري حتى نهاية السبعينات لم يترشحا للجائزة على رغم يهوديتهما، وهناك أكبر وأشهر شاعر مجري معاصر هو شاندور جوري الذي لعب دوراً سياسياً في التحول من الاشتراكية إلى الرأسمالية لا يقل عن هافل في بلاده وهو لم يترشح للجائزة. وبرخيس مات ولم يحصل عليها... وغير هؤلاء وأولئك كثيرون في ثقافات وآداب ولغات أمم وشعوب وبلدان كبيرة وصغيرة ومتوسطة من دون أن يكون هناك لغط كالذي يدور بيننا. يثبت هذا شيئاً واحداً لا نفكر فيه وهو أن الشهرة الأدبية العالمية والقومية ليست مقياساً للتقويم الأدبي على رغم أهمية الشهرة في أوروبا ومعاييرها المعقولة المعتمدة على أسس قد لا تكون هي الأسس نفسها المعتمدة في عالمنا العربي. كما يثبت هذا ان جائزة نوبل ليست بالضرورة منحازة ضد العرب وليست بالضرورة موضوعية دائماً. وفضلاً عن ذلك، فإن قنوات الترشيح ليست بالضرورة قنوات اتفاق عالمي أو قومي، وإنما قد تعتمد على تذوق فردي ومعرفة شخصية ومصلحة ذاتية وبالتالي فإن لجنة نوبل تتسلم ترشيحات وتقييمات أفراد آخرين. وكل ذلك يشير إلى حقيقة أن الجائزة لا تذهب بالضرورة إلى أفضل وأشهر أديب لا في العالم ولا في بلد ما ولا في أمة من الأمم. وتاريخ الجائزة يشير إلى ان بعض الأدباء ظل مرشحاً سنوات طويلة وربما رحل من دون نيلها، وان اشخاصاً ترشحوا بعدهم، ربما قبل سنتين أو ثلاث من نيلهم الجائزة ونالوها. وهناك حقيقة هي ان لجنة منح الجائزة نائمة عن قراءة مؤلفات الأدباء وإنما يترشح لها الادباء، كما قلنا، عبر قنوات أخرى. لكن الفوز بنوبل يظل فوزاً باهراً من دون شك، ويمنح صاحبه فرصة العمر الأدبية ولا يقلل من ذلك رفض برنارد شو وباسترناك وسارتر لها، فهذا الرفض نفسه أضفى قيمة أدبية أخرى على الرافضين هي قيمة الشجاعة الأدبية. فهل يمكن أن يترشح لها أديب عربي فتمنح له... ويرفضها؟ * كاتب عراقي.