يعتبر الصحافي والكاتب السياسي الألماني الدكتور لودفيغ فاتسال من القلائل في المانيا الذين اختاروا لأنفسهم السباحة في وجه التيار السائد في البلاد، خصوصاً على الصعيد الرسمي، ومواجهة الهلع من أي انتقاد يوجه إلى إسرائيل بحجة الخوف من اتهام الألمان من جديد بالعداء للسامية. ولا بد من التأكيد في البداية على أن فاتسال غير معاد للسامية على الاطلاق، وهي الشبهة الأولى التي تقفز إلى الأذهان هنا، لكنه ينظر إلى إسرائيل، وهو من مواليد عام 1950، على أنها دولة عادية مثل غيرها من الدول، وبالتالي يتوجب محاسبتها على ما تفعله كما تجري محاسبة الدول الأخرى ان في مجال التعدي على الديموقراطية أو انتهاك حقوق الإنسان أو اللجوء إلى القوة العسكرية لاحتلال أراضي الغير. هذه المواقف والانتقادات لا تزال من المحرمات تقريباً في المانيا، فبعد كتابه الأول "سلام دون عدل؟ إسرائيل وحقوق الإنسان في فلسطين" الذي سبق وعرضناه في "الحياة"، وبعد محاضراته العديدة ومقالاته في الصحف الرئيسية المنتقدة للسياسة الإسرائيلية في المجالات المذكورة أعلاه، أصدرت وزارة الداخلية الاتحادية العام الماضي قراراً يقضي بمنعه من ترؤس وفود دراسية إلى إسرائيل ينظمها معهد التأهيل السياسي الذي يعمل فيه في بون والتابع للوزارة اثر احتجاج إسرائيلي عليه. ولم يقبل فاتسال بالأمر، معتبراً ان الاحتجاج تدخل في الشؤون الداخلية لبلاده، فرفع دعوى على الوزارة خسرها في المحكمة البدائية فاستأنفها الآن أمام محكمة الاستئناف. كان لا بد من هذا العرض للتأكيد بأن الكاتب لم يهب الضغوط المعنوية التي مورست عليه من قبل الوزارة والمحكمة البدائية. وهذه قضية يجب عدم التقليل من أهميتها، فمضى في تعميق بحوثه حول الصهيونية ونشوء إسرائيل وأزمة الشرق الأوسط وصولاً إلى اتفاق أوسلو الذي اعتبر أنه غير عادل اطلاقاً، بل ومعاد لمصالح الفلسطينيين. ففي كتابه "أعداء السلام" المقسم إلى ستة فصول، طرح من جديد النقاش حول الحركة الصهيونية وما إذا كانت هي حركة تحرير أم حركة استعمارية. وتوصل فاتسال إلى الاستنتاج من خلال معالجة أقوال العديد من القادة الصيهونيين وعرض الأفعال التي قاموا بها في فلسطين بأن الصهيونية كانت حركة تحرير بشكل جزئي، لكنها لا تزال حتى اليوم حركة استعمارية قامت على عمليات الاستيطان المستمرة تحت حجج دينية. وأشار إلى وجود مؤرخين يهود جدد يتحدثون اليوم بشكل أوضح عن مرحلة تأسيس إسرائيل ويعترفون بتهجير الفلسطينيين، مسقطين بذلك الأساطير التي نسجت حول فلسطين بأنها كانت خالية من البشر أو أن الفلسطينيين غادروا البلاد بأوامر القادة العرب، ولو أن في ذلك بعض الصحة كما كتب. ورأى ان النقاش الدائر الآن بين هؤلاء المؤرخين وغيرهم والتحليل الجديد الذي يسعون إلى وضعه عن تاريخ إسرائيل الحديث أمر جديد يستأهل الانتباه والمراقبة لأنه يظهر المؤرخين الصهيونيين القدماء بأنهم مارسوا عملياً كتابة الأساطير إلى حد ما. ويسعى الجدد إلى إزالة الأساطير هذه، وتظهر من محاولاتهم وتحليلاتهم صورة جديدة موسعة لم تكن معروفة عن هذا التاريخ، الأمر الذي سيفيد الفلسطينيين الذين سيحصلون على عدالة أكبر من خلال سرد تاريخهم الحديث الذي قام على التهجير والتشريد والاستيلاء على أراضيهم وممتلكاتهم بشكل موضوعي نوعاً ما. وحرص الكاتب من ناحية أخرى على أن يؤكد خطأ الادعاءات الإسرائيلية بأن حروبهم مع العرب كانت حروباً دفاعية، مشيراً في هذا الإطار إلى المقابلة التي أجريت لاحقاً مع وزير الدفاع السابق موشي دايان واعترف فيها بأن حرب 5 حزيران يونيو كانت حرباً هجومية. وتعرض فاتسال في كتابه إلى عملية السلام واتفاق أوسلو، محللاً بدقة وثائق الاتفاق، ومشيراً إلى أن من يطلع عليها يرى أن ما يجري لا علاقة له بسلام واقعي وعادل مع الفلسطينيين، وإنما إعادة تشكيل للسياسة الاحتلالية لإسرائيل على قاعدة قانونية. كما أكد ان سياسة الاحتلال مستمرة من خلال الاتفاق على هذه القاعدة التي ستؤدي إلى إقامة كيان فلسطيني مرتهن لإسرائيل وللولايات المتحدة الأميركية وروسيا وللاتحاد الأوروبي. وفي رأيه ان اتفاق أوسلو لم يغير شيئاً من انتهاكات حقوق الإنسان في المناطق المحتلة، ولم يوقف أعمال القتل والتعذيب والمنع والحظر وتدمير المنازل وترحيل الفلسطينيين من القدسالشرقية والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية ليس فقط على أيام نتانياهو، بل وعلى أيام رابين وبيريز أيضاً. وتمكن الإسرائيليون من إقامة سلطة في مناطق الحكم الذاتي تعمل على ضمان أمن إسرائيل وتمارس بسبب ذلك انتهاكات كبيرة في مجال حقوق الإنسان، حيث يستخدم الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات 11 أو 12 جهازاً أمنياًَ تمارس أعمال الضغط والتعذيب وإرهاب الصحافة، وحيث قضى 20 فلسطينياً حتفهم حتى الآن في سجون هذه الأجهزة. ورفض فاتسال في كتابه القول بأن الولاياتالمتحدة الأميركية تلعب دور الوسيط العادل كما تحاول هي الظهور بذلك، مؤكداً أنها منحازة تماماً إلى إسرائيل التي تعتبرها جزءاً أساسياً من مصالحها الأساسية في المنطقة. ومع ذلك تلعب واشنطن الدور الأساسي في عملية السلام، مدعية أنها تقوم بالوساطة بين الطرفين وتتخذ موقفاً محايداً، ولكن سير المفاوضات الذي جرى حتى الآن يظهر أن الولاياتالمتحدة تمثل بوضوح مصالح إسرائيل. ومن المؤكد ان الاتحاد الأوروبي لن يتمكن من بلورة موقف متشدد من إسرائيل كما يتمنى البعض، ليس بسبب المعارضة الأميركية فحسب، وإنما بسبب موقف المانيا التي تسعى باستمرار إلى فرملة الاتحاد الأوروبي عندما يتعلق الأمر باتخاذ موقف انتقادي شديد اللهجة. وفي الفصل الأخير من الكتاب، حلل فاتسال، الذي قام حتى الآن بزيارات عدة إلى إسرائيل وأطلع على صراعات الأحزاب السياسية والدينية فيها، والوضع السياسي الداخلي هناك، مستنتجاً بأن الدولة اليهودية تسير على طريق الاصولية الدينية، ويمكن ان تصبح إيران الشرق الأدنى. وأشار إلى حلف غير مقدس موجود بين قوى يمينية قومية في الليكود وبين أحزاب يمينية متطرفة مثل حزب موليدت والأحزاب الدينية القومية من دون ان يستبعد بقاء هذا الحلف على مدى طويل بشكل يعقد الوضع الداخلي ويؤزمه ويسد افق أي سلام ممكن في المنطقة. Ludwig Watzal, Friedensfeinde-Der Konflikt. Zwischen Israel und Palastina in Geschichte und Gegenwart. Aufbau Taschenbuch Verlag-Berlin. 1998. 330 Seiten