اصبح قطاع التكنولوجيا الراقية المتطورة، وهو اكثر القطاعات الاقتصادية الاميركية وأسرعها نمواً، شرهاً جداً في تشغيل الناس وأصبحت اقسام ومعاهد علوم الكومبيوتر في طول الولاياتالمتحدة وعرضها تخسر طلابها المتخرجين، فيما تزداد اعداد غير المتخرجين الذين تخسرهم ايضاً لصالح قطاع يعمل بوقود فعّال هو عبارة عن مبالغ ضخمة من المال متاحة له. وغالباً ما تعلن هذه المعاهد عن وظائف تعليمية شاغرة لكن لا تحظى بالراغبين في ملئها، اي التعليم فيها، فيما تراجع كثيراً عدد الذين يسعون الى الحصول على الدكتوراه في علوم الكومبيوتر. ويزداد تخلي الطلاب الساعين الى الحصول على الشهادتين الجامعيتين الأوليين بكالوريوس وماجستير عن دراساتهم قبل اتمامها والتحاقهم بأعمال يتلقون لقاءها تعويضات مالية سخية في مجال تخلى فيه نجومه الغنية جداً، مثل بيل غيتس، عن دراساتهم الجامعية طبعاً قبل ان يصبح غيتس نجماً ساطعاً جداً في سماء صناعة الكومبيوتر. ويخشى عدد كبير من الخبراء من ان يتقهقر البحث الأساسي جراء هذه الظاهرة، ومن احتمال تقزّم الجيل المقبل من علماء الكومبيوتر الاميركيين. ويقول بيتر جي. دينينغ، نائب رئيس جامعة جورج ميسون في فيرجينيا: "اخشى من أننا كمن يأكل البذار". وبالنسبة لعدد كبير من الشباب تبدو وظيفة، تردّ عليه بين 30 و60 الف دولار في العام، اكثر جاذبية من تحصيل جامعي ذي مستقبل محاط بالضباب والغموض. ويقول جونا بلوسوم، البالغ من العمر عشرين عاماً والذي تخلى عن دراسته في كلية مدينة سانتا باربرا بعد عام واحد فقط على بدئها ليعمل متفرغاً كمتخصص في الكومبيوتر في شركة قريبة من مكان اقامته، لقاء 30 الف دولار في العام: "الشهادة الجامعية ما هي الا قطعة من الورق عليها خاتم مذهّب لا تساهم في ارشاد أحد الى وجود فيروس في نظام كومبيوتر معين، ولا في انشاء مواقع ذات جاذبية لا تقاوم على انترنت فهذا كله لا يرتبط بالشهادة الجامعية بل بمقدرة الانسان على الفعل. وأصحاب العمل الذي أقوم به غير مهتمين أبداً بالشهادات ولا بالمدرسة التي حصّلت فيها علومي الثانوية او الابتدائية". ويذكر ان عدداً من كبار العاملين في هذه الشركة ومن زملاء بلوسوم كان قد تخلى عن دراسته الجامعية ايضاً قبل بدء العمل في الشركة. وشهدت حقول علمية اخرى، على مر الاعوام، تخلي المواهب عنها وعن الدراسات الجامعية فيها لصالح العمل الذي يدر مالاً. وحدث هذا في الثمانينات في مجال التكنولوجيا الحيوية. لكن لا يوجد سوابق لما يحدث حالياً في مجال الكومبيوتر وعلومه، من وجهة نظر حجم ظاهرة التخلي عن الدراسة الجامعية ومن وجهة نظر التحديات التي يطرحها هذا التخلي امام علم او علوم الكومبيوتر. ويشبه ما يحدث حالياً وضعاً افتراضياً يكون فيه كل من يتمتع بمقدرة رياضية قادراً على العمل في فريق رياضي يمتهن الرياضة. اشكال جديدة ويقول غاي سميث، الذي يدير مختبراً للوسائط المتعددة في كلية مدينة سانتا باربرا: "لا أود ان أبدو وكأنني فقدت صوابي، لكن ما يحدث حالياً يغيّر اشكال التربية والتأهيل وأنماطها على نحو أساسي. وأنا أرى شباناً صغار السن يتخلون عن دراساتهم الثانوية ويجنون رواتب تصل الى ارقام مؤلفة من ستة اعداد تقريباً وفي الفترة الاخيرة استدعينا ثلاثين مسؤولاً عن معلومات الكومبيوتر وسألناهم عن المطلوب في من يرغب في ان يكون مثلهم، ولم تُذكر كلمة شهادة جامعية في اجاباتهم الا قليلاً جداً". وتخلى جوزيف ليمانت عن دراسته في جامعة ستانفورد بعد السنة الجامعية الثالثة أي قبل انتهاء الدراسة بعام واحد وأسس عام 1989 مجموعة "تريلوجي ديفالوبمنت غروب" الناشطة بنجاح هائل في مجال تسويق برامج الكومبيوتر من مدينة اوستن في ولاية تكساس. ويقول ليمانت ان شركته تشبه عدداً كبيراً من الشركات في انها لا تهتم ابداً بشهادة جامعية قد يحملها طالب عمل فيها. ويضيف: "اذا اجرينا مقابلات مع مرشّحين للعمل معنا يملك احدهما شهادة جامعية مرموقة من معهد مسّاتشوستس للتكنولوجيا في علوم الكومبيوتر ويخفق في لفت انظارنا اليه، وتخلى الآخر عن دراسته الجامعية التي كان يحصّلها في جامعة صغيرة غير مرموقة ولفت انظارنا الى مواهبه، فنحن نشغّل هذا الآخر ونفضّله على الأول". ويصيب اساتذة علوم الكومبيوتر الجامعيين شبه ذهول مما يجري حالياً لكنهم منقسمون حول ما يجري بالضبط وحول كيفية الرد عليه بفعالية. ويحذّر معظمهم من ان الذين يتخلون عن دراساتهم الجامعية سيصبحون بالفعل عمالاً مكتبيين مسرّحين من دون اي مؤهلات رسمية بعدما تبرد سوق المبرمجين ومصممي مواقع انترنت، او اذا تبدّل الوضع العام بحيث قلّت اهمية هؤلاء الناس. وهذا ما حدث بالضبط للعاملين في الهاتف بعدما شاع التحويل الرقمي واستخدام الآلة. وتقول ألن هارتيغن، نائبة رئيس جامعة بوليتكنيك في نيويورك، المكلفة النظر في شؤون الطلاب ورعايتهم: "فحوى رسالتنا الى الطلاب هي ان يسعوا الى ضمان مستقبل عملي كامل لانفسهم لا الى الحصول على وظيفة اولى فقط". وتضيف هارتيغن ان طلاب جامعتها يشغّلون قبل حصولهم على شهادة جامعية. وتستطرد هذه السيدة فتقول: "يشكل عدد كبير من طلابنا الجيل الاول من اسرهم الذي يذهب الى الجامعة للمرة الاولى. ويفتقر هذا العدد الكبير من الطلاب الى الدعم الابوي الذي يشجعهم على مواصلة التحصيل الجامعي الاولي ومن ثم الانتساب الى المعاهد العليا من اجل الحصول على الماجستير والدكتوراه. وتعرض على الطلاب مغريات سخية. ولهذا ازددنا استباقاً للتطورات واصبحنا ندرّس طلاب الصف الجامعي الاول اصول الاعداد والاستعداد لعمل يدوم مدى الحياة العملية في حقل من الحقول". ويقول ريتشارد نيومن، العميد المشارك لكلية الهندسة في معهد فلوريدا للتكنولوجيا في بلدة ملبورن في ولاية فلوريدا، ان مؤسسته تحاول التوصل الى تسوية مع الشركات "القنّاصة" من طريق حضّها على الدخول في انشطة مشتركة تتناول قيام الشركات بالانفاق على دراسة الطلاب الجامعية فيما يعملون لحساب هذه الشركات. ويضيف نيومن: "وذهب طالبان او ثلاثة طلاب من الصف الجامعي الاول ليعملوا في الشركات المختلفة في انشاء صفحات على انترنت، ونحاول الآن العثور على حل لانهاء التنافس بيننا وبين الشركات وقطاع الكومبيوتر عامة". لكن بعض الخبراء في شؤون الكومبيوتر يقول ان الجامعات اخفقت في تحديث دروسها الخاصة بعلوم الكومبيوتر. خفاق ويؤكد ألن هولب، الكاتب والمستشار في شؤون تصميم الكومبيوتر، الناشط من سان فرنسيسكو: "اخفقت الجامعات في تقديم ما يحتاج الى معرفة الراغب في التخصص في علوم الكومبيوتر بحيث اصبحت الشهادة الجامعية الاولى في هذه العلوم عديمة القيمة في نظر عدد كبير جداً من الناس. وجاء عدد كبير من كبار الاساتذة في علوم الكومبيوتر من الاقسام المكلفة بتعليم الرياضيات لكن المعروف ان الرياضيين لا يبرمجون على نحو جيد او مرضٍ فهم يصبون اهتمامهم على الحساب الذي يستند اليه بعض البرامج. لكن اغلبية البرامج الساحقة حالياً لا تستند الى الحساب بل الى المعلومات. ويعترف كنث مارتن، استاذ علوم الكومبيوتر والمعلومات في جامعة نورث فلوريدا في بلدة جاكسون فيل، وعضو المجلس الذي يجيز تدريس علوم الكومبيوتر، بأن الفجوة بين النظرية والتطبيق اتسعت على نحو خطر، لأسباب منها نمو لغات كومبيوترية جديدة راقية متطورة مثل جافا التي بوسع المبرمجين الاعتماد عليها من اجل الحصول على صيغ وادوات ومعادلات مهيأة سلفاً واستخدامها فوراً من دون الحاجة الى فهم النظرية الاساسية التي تقوم عليها هذه اللغات الجديدة. ويضيف مارتن: "على مناهج المدارس ان تبدّل ولا شك في هذا ابداً. فنحن لا نستطيع المنافسة حالياً، وصار من حق من يشاء ان يسأل ما اذا كان ما نعلّمه في الجامعات لا يزال بالاهمية التي كان عليها سابقاً". ويستطرد مارتن فيقول: "ان عالم اليوم هو عالم الذي يستخدم الكومبيوتر وسيلة للحصول على ما لا حق له فيه، وباتت حاجة الطلاب الى معرفة الاساسيات للعمل على مستوى رفيع اقل بداهة مما كانت عليه. فبوجود جافا لم يعد المبرمجون يبرمجون بالطريقة السابقة الخاصة باللغات الاقدم او القديمة. فعبدما يمضي الطالب فصلاً دراسياً في دراسة جافا، يصبح بوسعه القيام بكمية كبيرة جداً من العمل. ويشهد زملائي طلاباً لهم سابقين مؤهلين بشهادة جامعية اولى فقط لكن "مسلحين" ايضاً بخيارات من الاسهم اي يتقاضون رواتب عالية واسهماً من الشركات التي يعملون فيها وربما كان هذا افضل من الحصول على ماجستير في العلوم". ويبدو ان وجود وظائف، ينال شاغلها راتباً جيداً عليها من دون ان يكون مسلحاً بمؤهلات علمية كاملة عالية، في حقل مثير، هو نتيجة لعوامل اقتصادية وثقافية. فصناعة الكومبيوتر الاميركية تنمو على نحو تفجري. ويتكهن مكتب احصاءات العمل بأن الحاجة الى محللي انظمة ومهندسين وعلماء في الكومبيوتر ستزداد 108 في المئة بين العام الجاري وعام 2006. وفي هذه الحقول توجد حالياً، وتقديراً، نحو 933 الف وظيفة. لكن المكتب يقول ان عام 2006 سيشهد ازدياد هذا العدد الى 9.1 مليون وظيفة. ومع ذلك لا يتخرّج من معاهد علوم الكومبيوتر الاميركية سنوياً الا 25 الف طالب مؤهلين بشهادة جامعية اولى بكالوريوس. ويؤيد هذا التكهن وصحة هذا الوضع ما يقوله العاملون في مجال توجيه الشباب نحو حقول العمل المختلفة في الولاياتالمتحدة. وتقول كارول لايونز، عميدة قسم الخدمات الخاصة بالتوجيه نحو حقول العمل المختلفة في جامعة نورث ايسترن يونيفرسيتي في بوسطون: "لو كان جميع المتخرجين من جامعتنا العام الجاري، وعددهم 1600 طالب، متخصصين في علوم الكومبيوتر لوجدوا جميعاً وظائف تنتظرهم، فالشركات الناشطة في هذا الحقل تقدم هبات لقاء قبول الطالب العمل فيها تراوح بين سبعة آلاف وتسعة آلاف دولار، وتقدم تعويضات نقل مسكن وأسهم من أسهمها ورواتب سنوية أولية تراوح بين 30 و50 ألف دولار". وتخلى أفرام تشيني، البالغ من العمر اثنين وعشرين عاماً، والذي نشأ وترعرع في ولاية وست فرجينيا، عن دراسته الجامعية في جامعة كارنيغي - مليون في بيتسبيرغ، ورحل إلى سيليكون فالي مهد صناعة الكومبيوتر الأميركية في كاليفورنيا منذ عدد من الأشهر، وكان ارسل موجزاً لسيرته لوكالة تشغيل موقت في مجال الكومبيوتر بواسطة انترنت وتلقى 25 دعوة للعمل. ويجني تشيني حالياً 40 دولاراً في الساعة الواحدة. ويقول هذا الشاب: "اشعر بانني استطيع أن أعمل في أي مكان، فأية شركة تستخدم الكومبيوتر تحتاج إلى أشخاص يتمتعون بما اتمتع به من خبرة وأنا أسبق عدداً كبيراً من الناس الذين لا يزالون في المدارس والمعاهد بمسافة بالغة الطول. فكل ما يحتاج إليه المرء في مجال عملي هو عامين من التجارب والخبرة أو الممارسة. ولا يستطيع أحد أن يقول إنه أمضى عشر سنوات في تصميم صفحات انترنت لأن انترنت لم تولد إلا منذ فترة أقل من عقد من الزمن. ويستطيع جيل الشباب أن يتميز على غيره إذا سارع إلى العمل". ومما يجذب إلى قطاع الكومبيوتر أيضاً طبيعته غير التقليدية، بل المعادية للتقاليد وللمتعارف عليه، فعدد كبير من عمالقة هذا القطاع مثل ستيف جوبز وستيفن وزنياك مؤسسا شركة أبل كومبيوترز وبيل غيتس تخلى عن الدراسة الجامعية أو هجرها لصالح العمل في القطاع. وغالباً ما تشدد الاعلانات عن فرص العمل المتاحة في شركات الكومبيوتر على عدم ضرورة ارتداء الملابس الرسمية وعلى ضرورة العمل خارج الوقت المعتاد، فضلاً عن أنها تشدد على احتمال ازدياد المردود المالي من العمل في شركات الكومبيوتر.