نجحت سورية في تفادي ضربة عسكرية ووقف حملة التصعيد التركية ضدها، ومسلسل الانذارات التي تقاسمها الرئيس سليمان ديميريل وحكومة يلماز وكبار جنرالات الجيش، ووقف حرب نفسية شنتها بتناغم كامل وسائل الاعلام في انقرة والمعارضة التركية الاسلامية. واذ اعتبرت دمشق انها حاصرت الزوبعة واعادت الأمور الى نصابها، بتوقيع اتفاق أضنا، ما زال زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله اوجلان هاجس تركيا حتى وهي مقتنعة بوجوده في مكان بعيد عن الحدود، برحيله الى ضواحي موسكو. ولا يعرف هل ستستخدم مع روسيا - كما فعلت مع سورية - لغة التهديد والوعيد ! في سعيها الى اعتقال اوجلان لمحاكمته بوصفه زعيماً "إرهابياً" نجح في تحريض ملايين من الاكراد على مقاومة التمييز والعيش تحت جزمة العسكر؟ بموازاة الالتباس لدى الجنرالات الذين قرروا تلقين اوجلان درس كارلوس، نسبت واشنطن الى نفسها فضل تهدئة الحدود السورية - التركية بنصائحها، وهي تنتظر ثمناً تدفعه دمشق: ترحيل فصائل فلسطينية تصنفها الادارة الاميركية "ارهابية". البازار اذاً مفتوح، وبصرف النظر عن صحة ما يردده الاعلام التركي بلغة المنتصر عن مهلة اخرى لدمشق لتطبيق الاتفاق الأمني الذي جاء تحت ضغط الانذارات، تعكس هذه الوثيقة، الى جانب قرار الجانبين اشراك لبنان الغائب في "مكافحة ارهاب حزب العمال"، مكسباً لكليهما معاً: لتركيا التي تجاهلت الخلاف على تقاسم مياه الفرات واحداً من عوامل تأزيم العلاقات، ولسورية التي تفادت اثارة الطرف الآخر شكواه من "مطالبتها" بلواء اسكندرون. أما البعد الاسرائيلي في مخاوف السوريين من كماشة التحالف العسكري بين انقرة والدولة العبرية، والدور الذي رشح له في حال نشوب حرب، فلم يكن حاضراً في الاتفاق، بدليل ما جاء على لسان وزير الخارجية السوري فاروق الشرع. وهذه نقطة اخرى سجلت لمصلحة الاتراك الذين لم يروا في التحالف سوى شأن من شؤون السيادة، فيما هو يعزز قبضة التطرف الاسرائيلي ضد العرب. يُفهم من اتفاق المجتمعين في أضنا على مبدأ المعاملة بالمثل، في اطار ضبط الحدود المشتركة، اقرار ضمني من تركيا بأنها كانت تسمح بنشاطات أو عمليات تنطلق من أراضيها ضد أمن سورية، وان العكس صحيح أيضاً ولو من دون قرار رسمي سوري. وبين تغييب السياسي وهيمنة الأمني، نجحت دمشق في تفادي الضربة وتجنبت أنقرة اختبار قوة غير مضمون حصر مداه، وحققت انجازاً اذ تعتبر أنها انتزعت للمرة الأولى ورقة أوجلان من الجيران. والوساطة المصرية، الى جانب الحشود العسكرية الضخمة على حدود سورية، سبقت المرونة في لهجة دمشق التي باتت تتجاوز التنديد بالاستفزاز. فالمطلوب عدم استعداء تركيا، ولكن ما الذي سيحول دون تكرار عرض العضلات كلما احست ان بين أيدي السوريين، والعراقيين ايضاً، ما يمكن انتزاعه بالتهديد وبتوثيق التحالف مع اسرائيل؟ المحزن، فيما العرب عرب دائماً في قفص الاتهام، تناسي حقيقة ان الاتراك أتراك، ولا أحد يردعهم عن إرهاب الدولة كالذي يمارسونه ضد مواطنيهم الأكراد، ويمارسه عشرة آلاف من جنودهم في شمال العراق، بحجة استئصال "إرهاب اوجلان".