آخر اشاعة تُروج في تركيا ان سورية تنوي "ترحيل أوجلان الى العراق". اما الحقيقة التي اكدتها واشنطن فهي توغل عشرة آلاف جندي تركي في شمال العراق، ليكملوا طوق كماشة حول سورية بحشود برية وقوة جوية تركية ضخمة نشرت جنوب الاسكندرون. والكلام الأميركي الذي جاء بعد صمت حيال الازمة بين دمشق وأنقرة ظاهره قلق من "غزو" لسورية، وباطنه تعاطف مع تركيا وتفهم لاصرارها على تنفيذ مطالبها تحت ضغوط التهديد والوعيد. وليس أوضح من الرسالة التي وجهها مارتن انديك من القاهرة، وهو يحرم الوساطة المصرية عملياً من زخمها: فالصبر مطلوب من الحلفاء الأتراك في حربهم على "الارهاب" الكردي، ولكن فقط بانتظار "جدية" السوريين في استجابة المطالب... وإلا فالبديل الحرب. الجميع في تركيا - باستثناء الاكراد - يشارك في حملة تهييج "قومية" ضد سورية، وهاجسه ان الفرصة المتاحة الآن قد لا تتكرر بسهولة لانتزاع ما لم يتسن انتزاعه خلال سنوات طويلة تأرجحت فيها العلاقات بين البلدين بين فترات باردة وأزمات صامتة. وأغرب ما في تلك الحملة ان ينضم الى المايسترو اسلاميو حزب "الفضيلة"، ورثة نجم الدين اربكان الذي تمكن الجنرالات من اخضاعه ليضعوا في عهده حجر الأساس للتحالف التركي - الاسرائيلي. في المقابل ليس غريباً ان يتدخل الاميركيون للدفاع عن هذا التحالف ومحاولة تبرئته واسرائيل من دوافع ايقاظ انقرة الأزمة النائمة مع سورية، والتهديد بسلسلة انذارات توحي باستحالة التراجع عنها. لكن المحيّر هو اقتناع دولة الجنرالات بوجود فرص واقعية لانتزاع المطالب التركية قسراً من السوريين. فإذا صحّ جدلاً افتراضها وجود "ابو" زعيم حزب العمال الكردستاني في سورية كيف يمكن تسليمه اذا تنقل بين أرمينيا وشمال العراق مثلاً، او اليونان وقبرص؟ والمطلب - الشرط الثاني، وقف الحملات على التحالف، هل يمكن دمشق ان تذعن له فتوقع بالتالي صك قبوله، اي التسليم بالهيمنة الاسرائيلية - التركية؟ اما الشرط الثالث فيقتضي ابرام صك الاعتراف خطياً بالسيادة التركية على الاسكندرون الى الأبد... بعده ما الذي يمنع الدولة اليهودية من استخدام انياب التحالف نفسه وبوارجه وطائراته في السعي الى تنازل مماثل عن الجولان؟! انها اشبه بشروط "انتحارية"، تؤكد ان المخاوف من العلاقة بين انقرة وتل أبيب، والتي ولِدت من رحم اميركي، لم تكن مجرد هواجس أو مبالغات، فكيف اذا تدخل السفير التركي لدى الأردن ليمارس دوره وراء المايسترو على طريقة شمشون، ويهدد بضرب اي بلد يدعم سورية. باختصار، الشروط ذاتها التي تدعو سورية الى الانتحار وليس فقط التخلي عن دعم قضية الأكراد في تركيا، ترخي اجواء تشاؤم باحتمالات انفراج الأزمة. فالمطلوب ليس فقط رأس "ابو" بل اذلال دمشق بابتزاز تركي يدعمه تحريض اسرائيلي ورضا اميركي. وإذ تخطئ انقرة في اعتقادها ان تسليم اوجلان سينهي قضية 11 مليون كردي، واضح ان سورية اخطأت ايضاً حين غيّبت من حساباتها خطورة ترك الازمات مع الجيران الأتراك نائمة، وزمام المبادرة في يدهم.