من يقرأ أو يسمع ما يقال في الرئيس اللبناني المنتخب، خليفة السيد الياس الهراوي، الرئيس الموشك على الرحيل، يحسب أن الولاية الجديدة لا تطوي الولاية لسابقة ولا تخلفها وحسب، بل تبتدئ جمهورية جديدة، ونظاماً جديداً، ويكاد يكتب المرء: دولة جديدة. فما يقال في خليفة السيد الهراوي، المزمع رحيلاً، يبعث على الظن أن سلفه، السيد الهراوي إياه، لم يترك فعلة مذمومة لم يرتكبها، ولم تسنح له شنيعة لم يقتنصها ولم يلغ فيها. والحق أن هذا لا يقال، ولا يصرَّح به. فهو لو قيل كان معناه أن السنين التسع المنصرمة، وهي من صنع أصحاب القول، أي من صنع "صانعهم" على المعنى اليوناني وولي أمرهم، سنون عجاف وبائسة وسخيفة. والقضاء في هذه السنين بهذا، أي بالبؤس والسخف، يخالف ما ذهب إليه الدعاة وأهل السياسة طوال العقد من الزمن. فهم لم يألوا جهداً ولا نصباً في إقناع مواطنيهم، أو قرائهم وناخبيهم وأنصارهم، بأن عهود الظلم والإجحاف والتعسف طويت إلى غير رجعة، وأنهم محظوظون حظاً عظيماً لأن عصرهم هو هذا العصر، ووقتهم هذا الوقت. ومرد قسمة الحظ هذه إلى معاصرة السياسة التي يخفق إسم السيد الياس الهراوي علماً عليها، أو أحد الأعلام الخفاقة عليها. فالرجل، على ما يجمع أهل الإجماع المأذونون، اجترح ما لم يكن غيره ليقدر على اجتراحه. فرضي بدستور يحمله، هو رئيس الدولة، على قريب من نكرة" وعقد عقوداً، وتعهد عهوداً، باسم من لم يكلفوه، لم يقبل أحد قبله عقدها أو تعهدها" وزاد اللبنانيين أعداداً تنصل وزراء الداخلية من التبعة عن زيادتهم" ورعى هجرة من هاجروا وتركوا وهجرةَ من جاؤوا من غير دعوة" ووصف مواطنيه بضعف الرشد وسوَّغ الوصاية والولاية عليهم، ولم يسأل عن وقت ترفع فيه الوصاية، على خلاف العهود كلها... لكن هذا كله، وهو مضمون ولايته وعهده وحكمه، لا يدَ له فيه، ولا مِنَّة. فالرجل "التاريخي" قُلِّد الولاية طائعاً، وهو على بينة من "القرارات" التي تنتظر توقيعه وإمضاءه إياها. والمحتفلون بخلفه، اليوم، وكأنهم ينعون عليه ما صنع، لم ينكروا يوماً عليه صنيعاً، ولا طعنوا. فهم أشد أنصار ما أجراه الرجل، أو ما أجري عن يده ولم ينكر إجراءه. وهم دعاة ما صنع، وما كفت يده عنه، جميعاً. فهم، وهو، يصدرون عن إرادة واحدة" وهم، وهو، يسعدون بإطاعة هذه الإرادة والإمتثال لها. فلماذا الإبتهاج بالخلف وكأن السلف نكص، أو أخلَّ بعهد، أو قصَّر في طاعة؟ ومن أين يأتي الخلف بما لم يتوفر للسلف؟ يذهب الظن الآثم بالواحد إلى أن تقنية الدعاية غلبت على "السياسة" اللبنانية غلبةً حملت أهل هذه "السياسة" على الإختلاط والشَّبَه. فهم يحسبون أن السلعة الجديدة لا ترُوج إلا إذا بُخست السلعة القديمة حقها من الإستعمال والنفع. فينبغي أن يصيب السلعة القديمة "هلاك معنوي"، وهي في عزها المادي، لتحل محلها السلعة الجديدة، ويروج سوقها، ويُقبل الناس عليها. فهم لن يتركوا قديمهم ومألوفهم إلى خيرٍ منه إذا احتسبوا زيادة منفعة في ما لم يألفوا بعد، وإذا اقتصر أمرهم على هذا الاحتساب. أو هذا يقين أهل الدعاية. فبنوا على هذا اليقين مذهباً في الترويج يقضي بإهلاك السلعة السابقة، والإزراء بها، وهم صانعوها، أو وكلاء صانعيها، في الحالين. وهذا أصل في الدعاية: فهي تعظِّم وتجمِّل كل ما تتناوله، وكل ما يوكل إليها أمره، أي أمر بيعه. وليس في مستطاعها التعظيم من غير انقطاع، إذا حُملت على المنطق المتماسك وعلى أصل الهوية، أي على التمسك بإثبات صفات بعينها لموصوفات بعينها من غير خُلف ولا تناقض. بل إن أحد شروط الدعاية النسيانُ والطيُّ والتدافع، أو إثبات صفات متدافعة ومتنافية لشيء واحد. فهي تحاكي، من هذا الوجه، منامات النائم، وأهومة المهوِّم. وهي تشبه هذه وتلك. وعلى هذا النحو من الوجدان و"الوعي" تريدنا "السياسة" وصناعتها. فنحن على خير وجهٍ، "سياسةً" وعروبةً وقوميةً، إذا كنا على الحال التي تبعثنا عليها الدعاية وتحملنا: من نسيان، وعجز عن إثبات التدافع، وتعويل على الجديد، وتركٍ لأصل الهوية. وهذا ما كنا نحدس فيه منذ بعض الوقت: خيرُنا أكثرُنا نوماً ومنامات وأحلاماً وتصديقاً. * كاتب لبناني.