أذاعت وكالات الأنباء، منذ بعض الوقت، خبر إسهام الرئيس السوفياتي الأخير، السيد ميخائيل غورباتشوف، في شريط سينمائي قصير يدعو الى تناول البيتزا، الطبق الإيطالي الأصل الذي انقلب أميركياً شأن أشياء كثيرة سابقة صارت الى المصير نفسه. وأتبعت الوكالات نفسها، في الأسبوع الأخير من شهر عام 1997 الأخير، الخبر بصورة تُري غورباتشوف، في معطف الأمين العام وقبعته، وحفيدته جالسين الى مائدة وحولهما هامات الآكلين وظلالهم. وعمدت بعض الصحف العربية التي نشرت الصورة الى شرحها في نص يسخر من رأس الإمبراطورية، السابق والسابقة، ولا يكتم تشفيه به. وألمح الشرح الى تذرع غورباتشوف باحتياجه الى عائد الشريط الدعائي، لتمويل مركز أبحاث يرعاه، مسوغاً لأدائه وحفيدته الدور الذي يؤديانه في الشريط. وينم الشرح على الصورة، الى السخرية والتشفي، بازدراء المال والحصول عليه من طريق الترويج المأجور. ويقارن الإزدراء هذا، ضمناً، بين المال وبين السلطان، ويرفع شأنَ السلطان بإزاء المال، ويحط من مرتبة المال. وتضمر المقارنة أمراً آخر أقل ظهوراً. فالمال المحقَّر والمزدرى إنما هو المال الذي يحصَّل بواسطة التجارة والأعمال، أي بواسطة المال نفسه وتداوله السوقي وجريانه من سلعة الى سلعة، أو من عمل الى سلعة فمال. وهذا شأن المال الرأسمالي. وما يُنعى على الأمين العام السابق للحزب الشيوعي السوفياتي، ورأس أعظم الإمبراطوريات تسليحاً في التاريخ وأشدها فتكاً وأجمعها سلطاناً، هو سوقيته، على المعنى الحقيقي أي الحرفي وغير المجازي للكلمة. فالرجل الذي كان يتربع في سدة ثلاثة عشر ألف رأس نووية، ويحشد نحو ثلاثين ألف درع بين وسط أوروبا وشرقها القريب، ويسلط مئات الصواريخ القارية على جواهر التاج الأوروبي، نزل عن السلطان العظيم هذا طوعاً ومن غير مكافأة. فتقوَّضت السلطنة العريضة لا لعلة إلا جهر آكل البيتزا وحفيدته، اليوم، بتركه التلويح بقوته القاهرة إذا خرجت الأمم المقهورة والمغلوبة عن طاعة القوة واحترامها. وهذا الرجل، وكان هذا قدره، تخلى عن مهابته لقاء ما يراه الشرح على الصورة، بعد نيِّف وستة أعوام على سلطانه، غامضاً. وهو يبالغ في السقوط والهُوّي، فينشد "حفنة دولارات" من وراء الظهور في شريط سينمائي، شأن عارضة أزياء "مبتذلة" أو ممثلة إغراء تفوقها "ابتذالاً"، إذا جاز الأمر. فلا يسقط في الإبتذال الرأسمالي وحده بل يهوي الى أحط منه، الى الإبتذال الأنثوي في صيغته الرأسمالية. ومن يترك السلطان الى كسب المال، القليل، كأنه يترك الرجولة والفحولة الى الأنوثة وضعفها وعورتها. وهذا يستحق الإشفاق، بعد السخرية والتشفي، قبل إغضاء الكرام عن عزيز قوم ذل لولا أن جنايته لم تقتصر على نفسه فتعدتها الى "الإتحاد السوفياتي العظيم" و"شعوبه" الهانئة والسعيدة. وعلى الضد من طلبه المال من طريق السوق والعمل يُكبر تحصيله، أي مصادرته، من طريق السلطان. فلا يُذكر أن الساخرين والمتشفين اليوم سخروا، في الأمس، من ولع ليونيد بريجنيف، سلف غورباتشوف الأسبق والجامع الى الإمبراطورية بعض اللآلئ الأفريقية والآسيوية، بسيارات السباق الأوروبية، الرأسمالية بديهة - فالرأسمالية وحدها تبدد العمل والعلم والصنع والمال لأجل إنتاج مثل هذه الصغائر. أما الإمتيازات العينية التي كان يتمتع بها أهل القوة، الحزبية و"الفكرية" "العقدية"، نسبة الى العقيدة، من دور وسيارات وحاشية وموارد غير منظورة وإرث معنوي وثقافي وسياسي ينقل الى الأولاد وأحلاف عائلية متينة - وهذه كلها استثمرها أصحابها، حين دقت الساعة الرأسمالية، فسطوا، "طبقة جديدة" كاملة في روسياوالصين وبولندا والمجر وتشيخيا على الأرزاق العائدة الى "الأمة" من قبل وورثوها هم عن "الأمة" - هذه الإمتيازات العظيمة لم تثر في نفوس شرّاح اليوم إلا الإعجاب وبعض الغبطة. فسرى في كل النخب المتربعة في سدة "الديموقراطيات الثورية"، المتطورة تطوراً "لا رأسمالياً" والقاصدة "الديموقراطية الشعبية" ومحجتها، سرى يقين بأن "الديموقراطية"، ثورية كانت أو شعبية، لا تتم "لا رأسماليتها" إلا باقتطاع بعض الفائض من نتاج الشعب العامل والكادح وصرفه الى رخاء القادة الساهرين على رسوخ "القاعدة المادية" للتطور المرجو والحامل معه الرخاء والوفرة للشعب كله. وعلى هذا فالإقتطاع والتوزيع إنما هما استثمار منتج في مستقبل الدولة والمجتمع وتطورهما. وإذا بالغ بعض وجوه هذه النخب، وريثة حركات "تحرر" وطني أو اجتماعي، فأظهروا البذخ، واقتنوا الفاخر من السلع الثمينة مثل اليخوت وكانت هذه حال الرئيس اليوغوسلافي جوزيف بروزتيتو، "صديق" العرب، لم يلمهم شراح اليوم ومنكروه إلا على إظهارهم البذخ والإسراف، دون مِلك يمينهم وحدهم ما ملكت هذه اليمين. أي أن العيب هو الدَين بالمال والثراء والبذخ لغير السلطة، وتحصيلها من غير طريق السلطان. ويعيب الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية، القارية أي صين بيجينغ بكين، السيد شين غوفانغ، على تايوان، الجزيرة، صين تايبه، توسلها بما يسميه الناطق الحاذق "ديبلوماسية الدولار"، كناية عن المساعدات النقدية التي تسديها الجزيرة لبعض الدول الأفريقية الفقيرة لقاء إبقائها على اعترافها بالجزيرة دولة مستقلة بهيئتها. والحق أن السيد شين غوفانغ لا يصنع غير ترديد القول السلطاني نفسه في علاقة المال بالسلطان. فالإحتفال بافتتاح سفارة بيجينغ في بريتوريا، عاصمة جنوب أفريقيا، بعد قطع العلاقات السياسية بين بريتوريا وتايبه، إنما يتوج تعاظم المبادلة التجارية بين البلدين من عشرة ملايين دولار بائسة في عام 1992 الى نيف وسبعة بلايين مليارات دولار زاهية في عام 1997. ولا يغفل الرئيس الطاهر والنقي، السيد نلسون مانديلا، عن الأمر، فيقول: "إن جمهورية الصين الشعبية هي واحدة من أكثر الدول كثافة سكان. وهي عضو دائم في مجلس الأمن". وعلى هاتين المقدمتين بنى زعيم المؤتمر الوطني الأفريقي، وهو حزب حركة التحرر الأفريقية الجنوبية وطليعتها التي حملها نصيرها الكاتب الأبيض بريتين بريتينباك على "الستالينية" وتهمتها، بنى النتيجة اللازمة: "إن من مصلحة جنوب أفريقيا أن تكون لها علاقات مع هذا البلد" ذي الميزان التجاري العظيم. وعليه فليس السيد غورباتشوف، بائع البيتزا والدلاّل عليها، أشدَّ سوقية من بريجنيف، سلفه اليافع والمتوثب، أو من تيتو، محرر كرواتيا وصربيا من الفاشية، أو من التقي النقي المنصرف عن بهرجة السلطان الى التأمل بعد أن ترك السلطان بأيدٍ أمينة أحصى ن. س. نايبول بينها بعض أقرب الأقرباء الى "ماديبا" مثل أولاد أخته السيد مانديلا - ناهيك بماوتسي دونغ، نزيل المدينة "الحرام" المحرمة ومنتخِب صبايا مدرسة الباليه والمسرح لفراشه الطري والثمانيني، على ما كشف طبيبه الخاص، وبابن نيقولاي تشاوتشيسكو "القائد" الذي جعل من "زهرة مكسيكو"، بطلة الجمباز الرومانية والأولمبية، حطام امرأة وهي في الثانية والعشرين... أما الدلالة نفسها، أو الدعاية، وهي ما ينكر على السيد غورباتشوف الإنحطاط إليه بعد الإنكار عليه استبدال الميغ - 29 بالبيتزا "الساخنة"، فلعل بينها وبين الدعاوة والتحريض غير وجه شبه وأكثر من وجه شبه واحد. فالسيد صدام حسين، "فتى العرب" على قول ميشال عفلق، والمنازع على لقب فارسها أو فارسهم، على قول السيد ياسر عرفات، إذ يدلِّل على صورته وأزيائه ومسدسه، ويدعو الى نفسه وأولاده وعشيرته ورهطه، لا يقترف الدعاية، ولا يقربها القرب الحرام والنجس الذي يُظن في خاتم الأمناء العامين الظاهرين حين يناقش "البيريسترويكا" في مطعم البيتزا والى طاولته. وما ينبغي أن يخلص إليه من هذا هو لزوم البذاءة المأكلَ الأميركي والهجين، شأن كل ما هو أميركي، على الضد من لزوم القداسة صورة الحاكم، ولو تربع الحاكم على تلال من الأشلاء وطاف على سواقٍ من الدماء الحرام. وعلى نحو دعاوة حاكم العراق الى نفسه وسلطانه، وتوسله بالصور والأنصاب والقصور والعربات المذهبة وتلفزيون الإبن وصحيفته الى دعاوته هذه، يتوسل غيره وشَبَهه بالمجسمات والصور والكتب والأعلام والشعارات والشعائر والإحتفالات والمسيرات والأشرطة والزيارات الصحافية المصورة والمؤتمرات والأخبار المخترعة - الى دعاوة أشد وطأة من الدعاية التجارية. وما يُنكر على الدعاية، من حملها السلعة على معنى متعسف تفرضه بواسطة "التشريط" البدائي والغريزي، يصح إنكار أكثر منه على الدعاوة السياسية والإيديولوجية المصورة والمكتوبة. فما تسعى فيه الدعاوة، صدامية كانت أو قذافية أو خمينية أو شيوعية أو جماعية أو قومية، وغيرها من مثلها، ليس إلا إفحام المشاهد أو السامع، وتسليمه لما يرى ويسمع، وانضمامه الى الجسم الكبير من المفحَمين والمسلِّمين والمفتتنين المبهورين بالقوة، وبالضرورة المتأتية من القوة. فدأب السلطان الصادر عن نفسه وعن حقه هو إظهار استوائه على الهيئة التي يستوي عليها، قاهراً ولا راد له، من غير تعلق بغير نفسه. ولا يستقيم الإستواء على هذه الصورة إذا حدس المشاهد أو السامع في دَين يدين به الإستواء، وصاحبه، الى سبب من أسباب الحياة العادية والسائرة، والى شيء من أشيائها. والسلعة، وما يتصل بها من صنع وتجارة وترغيب وتسديد ثمن ومشاركة عامة وعلانية، هي نقيض السلطان هذا، على رغم تهمتها بالصنمية والتحجر على ظاهرها الماثل وبالتكتم على صيرورتها سلعة. وقد تكون الضغينة عليها، في بعض مجتمعاتنا، وجهاً من وجوه العبادة السلطانية، السائدة في معظم هذه المجتمعات. وهي، على الأرجح، وجه من وجوه أباء الضعف الديموقراطي، والأنوثة الديموقراطية، والسواد المساواة الديموقراطي. وهل يرى رائينا، ولو في أكثر مناماته سادية، صدام حسين، أو معمر القذافي، أو عنتر الزوابري، بائع فول طعمية بزاوية من زوايا الدقهلية أو بروكلين أو الدائرة الخامسة؟ أو تاجر قماش؟