أماطت قضية استدعاء برزان التكريتي الى بغداد بعد الغاء تمثيله للعراق في منظمة حقوق الانسان التابعة للامم المتحدة في جنيف اللثام عن طبيعة الازمة الراهنة التي تحيط بعملية توزيع وتعيين السفراء والموظفين العراقيين في السلك الديبلوماسي الخارجي. وجاءت هذه الخطوة وسط صراعات مكشوفة وأزمة داخلية تعصف بالوضع العراقي، مما يترك ذلك شعوراً بأن تعيين نحو عشرين سفيراً وموظفاً ديبلوماسياً جديداً في مناطق مختلفة من العالم لا يخرج عن اطار هذا الصراع الذي يدبّ في اوساط المؤسسة العليا الحاكمة في العراق. ويفسر بعض المتابعين للشأن العراقي اجراء صدام بسحب الثقة الديبلوماسية عن برزان التكريتي بأنه اجراء انتقامي اراد فيه اهانة برزان وابطال ادعاءاته بكون وجوده في جنيف لا يتعدى حدود الضرورات الانسانية المتعلقة بعلاج زوجته من مرض السرطان، اذ بادر صدام بتعيين ابن برزان محمد في البعثة الديبلوماسية في جنيف كدليل على اهتمام صدام بالعائلة التي يرعاها برزان، وارسل توجيهاته الرسمية لتبليغ البعثة بهذا الاجراء. واثارت هذه الحادثة برزان ايضاً فقام بتمزيق ورقة التعيين واعتبر هذه المحاولة اساءة اليه. ولكن القضية التي شكلت طعنة نجلاء في مشاعر برزان هو الاجراء الذي تم بتعيين فاضل صلفيد في البعثة، وتوجد عداوة قديمة بين برزان وفاضل تعود الى ايام الحرب العراقية - الايرانية، حين قتل برزان بالتعاون مع شقيقه وطبان اثنين من اخوة فاضل صلفيد حينما كان برزان نائباً للمخابرات العراقية. فهناك عداوة دم بينهما. وسبق لفاضل صلفيد ان اعتقل بتهمة رشوى وتلاعب في الاموال. ودفعت هذه الاجراءات برزان الى الثورة حينما وصلته انباء التغييرات في السلك الديبلوماسي، فما كان عليه سوى جمع اوراقه وحاجياته والاختفاء عن الانظار من خلال تأجير شقة موقتة لمدة ستة اشهر بين جنيف ولوزان، ومنذ ذلك الحين غادر بيته ومقر البعثة وتوارى في شقته المجهولة يدير علاقاته عبر الهاتف النقّال. وتشير بعض المعطيات التي في حوزة قيادي عراقي معارض ان هناك شعوراً في بغداد بأن برزان على وشك ان يتزوج بأخرى، لكن الشيء الذي يعيق زواجه هو حال زوجته الراهنة "ام محمد" وهذا ما دعا مركز القرار في بغداد الابقاء على العائلة والاستمرار في علاج زوجته والفصل بين الحالتين، لذلك ينبغي ان يعود لوحده. طبيعة الصراع الدائر منذ امد بعيد بين عدي وبرزان لم تخمد أوارها، فعدي لا زال يتوعد بالقصاص من عمه، ويقول لبعض حراس عدي بأن برزان ينظم وضعه للتوجه الى احدى بلدان اميركا الوسطى، لأنه لا يثق بإمكانية توفير مستلزمات الامان الشخصي في المغرب او مصر، فضلاً عن ان نسبة عليا من امواله واستثماراته موجودة اصلاً في بعض هذه البلدان. وتختلف اشكالية برزان عن الاشكالية الاخرى المتعلقة بتعيين السفراء والموظفين الديبلوماسيين الجدد، فهناك اعتقاد بأن جزءاً من هذه التعيينات جاءت بفعل الصراع بين اقطاب الحكم، وخصوصاً بين طارق عزيز ومحمد سعيد الصحاف، لذلك تفسر قضية انهاء خدمات نزار حمدون واستدعائه الى بغداد على انها جزء من هذا الصراع، فنزار حمدون من المحسوبين على طارق عزيز، بيد ان منصبه المقبل الذي يتوقعه بعض المطلعين سيكون بمثابة التعويض له عن المركز الحالي، حين وعد بأن يكون وكيلاً لوزير الخارجية العراقي. التنقلات الاخيرة مرتبطة ايضاً بتطور القضية العراقية، فهناك تحول محدود لصالح النظام، وانطلاقاً من هذا الواقع فان استعدادات النظام تجري باتجاه تعبئة المراكز الديبلوماسية كالسفارات بطاقم مخابراتي لمواجهة المستجدات وخصوصاً نشاط المعارضيين العراقيين، وهذا الاجراء لم يكن جديداً، فالمعروف عن السفارات العراقية منذ استلام صدام لدفة الحكم انها مراكز امنية واستخباراتية قامت بعمليات معروفة ضد دول وشخصيات اجنبية وعربية وعراقية، ولذلك فان تعيين واحد من ابرز مؤسسي منظمة "حنين" الامنية التي كانت وراء اغتيال العديدين، ومن ثم مؤسسة "العلاقات العامة" وهذا اسم وهمي للمخابرات، وهو فاروق حجازي السفير الجديد في تركيا انما يعني ان النظام يفكر بصورة جدية في قطع الطرق الحساسة على دول الضد والمعارضة العراقية، فتركيا تحيط منطقة كردستان العراق التي تشكّل عقبة كبيرة في استكمال سيطرة النظام على كامل الاراضي العراقية، ومن هذه المنطقة بالذات ينطلق الكثير من النشاطات العراقية المعارضة، فضلاً عن ان تركيا بحد ذاتها تعتبر من النقاط الرئيسية في السياسات الاقليمية خصوصاً في منطقة الخليج العربي وايران. وتقول مصادر المعارضة العراقية ان للحجازي تجربة قديمة ومتراكمة في المجالات الاستخباراتية، وكان يعتبر احد ابرز تلامذة سعدون شاكر او رئيس لجهاز المخابرات في العراق، وعمل فترة طويلة مع برزان حينما كان رئيساً للمخابرات ايضاً، والمعروف عنه تفانيه في خدمة النظام وساهم في ادارة الوضع الامني اثناء احتلال الكويت حين شارك في الحضور ضمن طاقم غرفة العمليات التي ادارت احتلال الكويت كممثل للمخابرات العراقية. وساهم ايضاً في عمليات ارهابية ضد دول الخليج وعمل ايضاً كضابط مخابرات في بيروت وانقرة وبون وغيرها من الدول الاوروبية، لذلك فان استلامه مركز سفير في تركيا سيمكنه من تنظيم اعمال تخريبية وارهابية ضد المعارضة العراقية والدول العربية. وهناك آخرون صدرت قرارات تعيينهم عبر اجهزة المخابرات باعتبارهم ضباطاً متخصصين في السلك الديبلوماسي امثال السكرتير الاول الجديد في سفارة النمسا محمد مصعب عبدالستار وخليل ابراهيم الجبوري القنصل الديبلوماسي في باريس، وغيرهم. المشكلة الراهنة تعكس طبيعة التعامل مع قضية مهمة وذات ابعاد حضارية كقضية السلك الديبلوماسي من منظور امني واستخباراتي، وربما يكون العراق البلد الوحيد الذي جعل من الديبلوماسية ملحقاً تابعاً للاستخبارات، لذلك فان الديبلوماسي "المدني" حتى وان كان سفيراً يتسلم اوامره من ضابط المخابرات في كل سفارة عراقية. وهذه المهمات الحساسة تخضع لقرارات مراكز الصراع المختلفة، حسب درجة تأثير كل حلقة من حلقات المتصارعين، لكن الشيء المشترك الذي لا يختلف عليه اولئك هو قضية المخابرات في السلك الديبلوماسي التي يرعاها صدام حسين رعاية دقيقة ويعتبرها الجزء الاساسي في عمل المؤسسات الديبلوماسية في الخارج لمواجهة الاعداء من اي جهة كانوا، ويبدو ان تجارب الماضي لم تغيّر شيئاً في توجهات النظام المستقبلية، فربما يستعيد النظام وضعه السابق على مدى السنوات المقبلة، وبذلك تستعيد اجهزة المخابرات العاملة في السفارات وضعها السابق ايضاً ومن هنا تكمن المخاوف الحقيقية في اوساط المعارضين فاجتماع المال والعلاقات الحميمة بين العراق والدول الاخرى سيطلق يد المخابرات في تصفية بؤر المعارضة بمختلف الطرق والوسائل، لذلك فان اشكالية النموذج العراقي انما ترتبط بوجود النظام الحالي او عدم وجوده، ومن هذا الباب يمكن قياس الاشياء الاخرى. * كاتب عراقي مقيم في بريطانيا.