في مقطع مكثف من مقاطع كتابه الدائر على شخصية وكينونة الشاعر الفرنسي بودلير، صاحب "أزهار الشر"، ذهب فيلسوف الوجودية والانتفاض والتمرد، جان - بول سارتر، الى القول بأن حالة بودلير الأصلية، أي وضعه وسلوكه وموقفه، هي حالة إنسان مائل الى ذاته وعليها، مثله مثل نرنسيس المستغرق في تأمل صورته في الماء. وفي المقطع ذاته الذي وضع بمثابة تقديم لإحدى طبعات ديوان "أزهار الشر"، يرى سارتر كذلك بأن الواحد منّا عندما ينظر الى الشجرة ويتأمل في تفاصيلها فإنه ينسى نفسه، أمّا بودلير فإنه يرى نفسه وهي تنظر الى الشجرة. بودلير هو الإنسان الذي لا ينسى نفسه على الإطلاق، وحياته لا تعدو أن تكون سوى سيرة اخفاقات الوهم هذا. ورأى سارتر أيضاً أن جذر هذه الحال البودليرية تعود الى الشعور بوجود مسافة لا رأب لها بين بودلير والعالم المحيط به، والمسافة هذه تشي بانقسام وانفصال حميمين، وبتنازع دائم بين وعي متبصر ورزين للذات وبين وعي انعكاسي واستبطاني للأنا نفسها بحيث تصبح سائر الأشياء التي يتحدّث عنها بودلير ذرائع وشاشات تتقدم كما لو أنها حلبة يخوض فيها الشاعر معركة من أجل تملك ذاته والتحقق من طبيعتها وماهيتها. على هذا النحو رأى بودلير أنه في آن معاً "الجرح والسكين"، "الجلاّد والضحية". هذا التوصيف السارتري لغربة بودلير عن ذاته ولسعيه المحموم الى تملكها بواسطة شعر يتمتع بأعلى درجات الوضوح والصراحة المعذِّبين بكسر الذال والمعذَّبين بفتح الذال يصلح في بعض وجوهه، وفي حدود الإقرار بصلاحيته وقيمته، لقراءة رواية الكاتب اللبناني بالفرنسية غسان فواز، والصادرة حديثاً عن دار "سوي" في باريس بعنوان "تحت سماء الغرب"، وهي الرواية الثانية لفواز إذ نشر قبل عامين روايته الأولى لدى الدار الفرنسية ذاتها وبعنوان "الأنوات المتبخّرة للحروب الخاسرة". رواية فواز الجديدة تدور في باريس هذه المرة وعلى امتداد عقدين من السنين تقريباً، من عام 1976 الى عام 1996. وإذا ما نظرنا الى الجانب الحكائي الصرف من رواية "تحت سماء الغرب" فإنها ستبدو لنا دائرة على علاقات ومصائر ثلاث شخصيات رئيسية، لبنانية تنتمي الى اليسار أو اليسار المتطرّف أدركت الحرب الأهلية في بيروت والتسعت بها الى هذا الحد أو ذاك، ثم قدمت الى باريس بدعوى الدراسة الجامعية. لدينا إذاً رجلان وامرأة، الرجل الأول هو الراوي نفسه الذي يتحدّث في صيغة المتكلم، وهو بلا اسم صريح إذ يكتفي بتسمية نفسه "فلان"، لكننا نعلم من خلال بعض الإشارات السريعة أنه مسيحي ومن عائلة ميسورة، أمّا الرجل الثاني واسمه محمد، فهو مسلم بطبيعة الحال ومن وسط اجتماعي متواضع، ويستفاد من بعض الإشارات أنه من جنوبلبنان، إذ يقول عنه الراوي، بنبرة يمتزج فيها التودد والصلافة، بأنه قادم "من وراء البقر" في الجنوباللبناني وبأنه حين انطلق يناقش مطولاً في صالة المحاضرات الجامعية التي يشرف عليها الفيلسوف الفرنسي الراحل فرنسوا شاتليه، بدا مضحكاً بلغته الفرنسية الركيكة والمتعثرة. في القسم الأول من الرواية يخبرنا غسان فواز أشياء عن مغامرات الرجلين الممعنين في اصطياد النساء، على تفاوت في براعة وجرأة كل واحد منهما إذ يبدو محمد أكثر احترافاً وادماناً من "فلان". ثم يلتقي الذئبان - الرجلان في المدينة الجامعية بنعجة - امرأة لبنانية قادمة من بيروت، ثم يتبين أنها ليست كسائر النعاج، واسمها "رانا". يقع الرجلان - الصديقان - الذئبان في هوى "رانا" الى حدّ الولع والهيام، بينما تروح النعجة "رانا" تتأرجح بين الاثنين الى أن تقرّر الزواج مع محمد وتسافر معه الى الجزائر، ثم يدعوان "فلان" الى المجيء بعد احتدام الخلافات والمشادات العنيفة بينهما، وتعود رانا الى باريس مع "فلان" ليعيشا قصة عشق عاصفة فيما يأخذ محمد في الانهيار والتساقط التدريجي وتنتابه رغبات في العودة الى أحضان الجذور الدافئة للثقافة التقليدية، الى أن ينتهي به الأمر الى الانتحار، وفي غضون ذلك تقرّر "رانا" فجأة التخلّي عن "فلان" للذهاب مع كهل أميركي ثري الى الولاياتالمتحدة. كان يمكن لرواية غسان فواز أن تنتهي عند هذا الحدّ، أي في الصفحة 285 بعد إخبارنا عن مراسيم دفن محمد. إلاّ أن الكاتب ارتأى، لاعتبارات غير روائية على الأرجح، أن يستكمل الرواية بحكايات تصلح لرواية ثانية نرى فيها "فلان" يخضع لتحقيق بوليسي فرنسي إثر حصول جريمة في غابة يرتادها المنحرفون وتشاء المصادفة أن يكون "فلان" جالساً على حافة البحيرة مستغرقاً في تأملاته الهاذية لدى وصول رجال الشرطة فيقومون باعتقاله بعد ضربه واهانته. وفي المخفر يتولى التحقيق معه، وفي مناخ عبثي وكافكاوي بعض الشيء، ضابط شرطة اسمه "أوربي" وهو من أصل جزائري ومن تلك الفئة التي تعاونت مع الاحتلال الفرنسي والمعروفة بإسم "الحركيين". وفي الرواية الثانية هذه نكتشف أن الراوي قد بات مولعاً بالكتب ويعمل موظفاً في مكتبة عامة وتنشأ علاقة بينه وبين موظفة اسمها آنا، ثم تأتيه ذات يوم فتاة نروجية لتقول له، بحسب ما أخبرتها أمها قبل وفاتها، بأن أباها هو أحد الصديقين - الذئبين: "فلان" ومحمد، وبما أن الأخير مات، فإن "فلان" لن يتوانى عن تحمل مسؤوليته كأب. لكن الفتاة مغرمة بشاب فرنسي وبعد حصول التعارف وبعض اللقاءات المشتركة تسافر الفتاة مع صاحبها الى البلد الذي ذهبت اليه رانا: الولاياتالمتحدة. ويبقى صاحبنا الراوي وحيداً وفي حالة أشبه بالهذيان يلقي شتائمه المثقفة على حضارة الجرذان تلك التي تصنع من المواطن جرذاً يعيش الحياة كما لو أنها مخبأ وجوف وعتمة لا سطح لها ولا نور فيها. وبتضافر الروايتين، إن لم يكن أكثر، يصبح لدينا 475 صفحة من القطع الكبير والكلام المرصوص والمحتشد الذي يجد سوغه ظاهرياً في تناسل الحكايات وتكاثر المشاهد والتعريج على شخصيات ثانوية، لاعتبارات غير روائية في بعض الأحيان، نقول ظاهرياً لأن مسوّغ الرواية وحبكتها ووحدتها وخيطها تدور في الحقيقة على الجملة السردية ذات النبرة المزدوجة التي تدمج بين لغة المونولوغ الداخلي والاستبطاني وبين لغة خارجية تتعهد الشخصيات وتنامي اللحظات الدرامية، بل يسعنا القول أن اللغة الأولى وهي في غاية المزاجية المتقلبة تطغى على اللغة الثانية، الروائية في معنى ما، وتسعى الى الاستحواذ عليها، بعبارة أخرى، ينصب غسان فواز لقارئه فخاً أدبياً إذ يوحي اليه بأنه يكتب رواية علاقات ومصائر لبنانية ويساروية في باريس، مستنداً الى عناصر ووجوه معيوشة، فيما هو يروي في الحقيقة تقلّبات وحرقات وتشفيات ومصارع "عاشق" واحد هو الراوي نفسه، بالأحرى الروائي نفسه. إذ أن المسافة بين الكاتب والراوي واهية جداً، وعلى هذا النحو يتصل متن الرواية بهوامشها وحواشيها وتعليقاتها واستفاضاتها، وهي كلّها من عنديات الأنا الكاتبة المتأرجحة بين كآبة بودليرية متأسية وبين دونكيشوتية يساروية ممسرحة ورنّانة. ومعنى هذا أن غسان فواز يوغل في استعراض أساليب في السرد تذكرنا حيناً بهذا الكاتب أو ذاك خصوصاً سيلين وكلود سيمون، وهو يفعل ذلك بذكاء كبير ومفرط، لكنه لا يتفطن ربما الى أنه يثقل النصّ الاستعراضي بزوائد كثيرة لا تستدعيها عمليات الملء والتعبئة المعهودة في أي عمل روائي. ولهذا على الأرجح لا نراه يعير اهتماماً كبيراً، في المعنى الروائي بالطبع، لما تحتمله الشخصيات ولصلاحية وقيمة تناقضاتها وتمزقاتها. فالمرأة "رانا" مثلاً تكاد تكون من دون سماكة نفسية حقيقية. إنها رواية أمزجة إذاً، والأمزجة هذه ليست كثيرة وملتصقة بكائناتها المستقلة، إذ هي كلها مشدودة الى كائن سيد وواحد هو الراوي بالذات، فهذا الأخير لا يفعل في الحقيقة سوى استعراض أحوال وتقلبات مزاجه القلق كي يعثر على ذاته وأناه، حتى في المواضع التي تدور خارج هذه الذات، حتى الاستغراق في التفاصيل والتعبير عنها بلغة حسية وشهوانية بارعة وحاذقة، نجده على الدوام يتنقل بين الكبرياء والأسى، بين الهشاشة والعلاقة الكلبية، بين الاحباط وبين المكابرة، بحيث تجري الأمور كما لو أن الراوي مهدّد بضياع أناه فيكافىء ذلك بابتكار ملامح شخصيات ومناسبات وذرائع يتوكأ عليها كي يروي وجوه انقسام وتمزق حميمين. فالراوي "فلان" يخبرنا مثلاً بأنه في فترة معينة، وبقوة الأشياء كما بنازع داخلي، راح يتعوّد على استنفار وتعبئة ذاتيه الاثنتين بالأحرى "الأنا" في صيغة المثنى في صورة متصلة "الأنا العادية التي كانت تموضعني في الواقع - أم أنها كانت هي غير الحقيقة؟ - مثرثراً وماشياً في الظاهر بصحبة محمد و"الأنا" الأخرى، التي كنت أتحصّن فيها في صورة طوعية بهذا القدر أو ذاك، محركاً تأملاتي، صوري ومعالم حنيني. هاتان الدائرتان اللتان تغمران الواحدة الأخرى بالتناوب، بحسب اختيار الزمان والمكان، كنت أجهد كي أعيشهما في آن معاً عندما أكون قبالة محمد، وبالتوازي، جاعلاً من حضورنا غياباً ومن غيابنا حضوراً...". الى ذلك، ثمة مفارقة تخترق رواية "تحت سماء الغرب" وهي تتعلق بالضبط بالصفة اليساروية للأنوات المؤسطرة. فالصفة هذه تكاد تكون بدون مادة حقيقية، بل هي أشبه بالإشاعة التي تختلق مادّتها عن طريقة عبارات خطابية، إلاّ إذا أردنا الاقتناع بأن جلب مومس من الشارع القريب للمطبعة حيث يعمل "فلان" وأصحابه، والدخول في صراع مع القوادين، أمر كبير، ولا نريد بقولنا هذا استثارة محاكمة "شعبوية" لصفة يساروية تكاد نخبويتها وبذخها وارستقراطيتها تفقأ العين. بل ثمة تعليقات مبثوثة هنا وهناك، تبلغ درجة من الصلافة لا تطاق. على أن القارىء الفرنسي قد لا يعنيه هذا، فهو على الأرجح سيجد في الصفة المذكورة مادة لإشباع فضوله وتلصصه وتهويماته واستيهاماته الجنسية، خصوصاً وأن اليساروي يتقدّم في الرواية بوصفه محترف انتهاكات تطاول تقريباً كل شيء، فما بالك عندما يكون الأمر دائراً على العشق ومصارع العشاق. والحق أن ادعاءات الراوي وتحذلقه في التبرير والمجاملة الذاتية، كما في المقطع الذي يتحدّث فيه عن المنفى والغربة، سعياً الى وضوح تبلغ شدّته درجة العماء. إذ لا شيء يدلّ على أن الراوي اليساري التقى مرّة واحدة بواحد من "المدمنين" على الحدّ الأدنى للأجور، أو بعامل مهاجر يرسل نهار الأحد نظرته الحائرة والزائفة بحثاً عن متكأ لا اسم له سوى الغربة، في المعنى الواسع للكلمة والقابلة لشتى القراءات. غربة القريب أم غربة الغريب ؟ كنت قد مشيت بما فيه الكفاية كي أبقى على قيد الحياة وحيداً. فخلال جولاتي الطويلة، في ليالي أرقي، كنت قد استولدت دفاعات جديدة، مكوّراً ظهري على طريقة سائق العجلة الهوائية حيناً وعلى طريقة الملاكم حيناً آخر، كنت أتأمّل في ما حصل لي كي أعيش وحيداً حياتي حتى النهاية التيقن من استدامة الحال يستثير تطويل الدفاعات، علماً بأنني لم أكن أصلح لذلك، وهل هناك من يكون صالحاً لهذا؟ ففي المدرسة كما في الحرب يكون المرء متعدداً" على أي حال، ما من أحد في لبنان يعيش وحيداً في أي وقت كان. وفي المدينة الجامعية في باريس كذلك لا يكون المرء وحيداً، وكان لديّ صديقي محمد وأنتِ. ثم فجأة هذا الفراغ! وعندما يصل الناس الى هذا "القطوع" فإنهم عادة يتزوجون أو يتساكنون، ينجبون طفلاً، ويظنون خيراً بالتالي في الشخص الذي يكون بجانبهم، و/أو أنهم يتركون أنفسهم فريسة للعمل و/أو للطموح. أما الطموح البالي، الملصق، الأجساد العابرة. المشدودة فوق فراش، كتاب، قنينة، فهي في المقابل محتويات عزلة معيوشة في الوجدان والوعي" وإذ لا تحجب المعيوش على مثال الشغل المستحوذ على كل شيء أو مثل حياة الأسرة، فإنّها تغذّي هذا المعيوش، وتزيد من حدّته ومضاء الشعور به والحاجة إليه. الدفاع عن الذات يبدأ بهذا الاعتراف بالعزلة، والاعتراف بالوضع الموسوم بميسم الموافقة والرضا، أي هذا الذي يسمّى بكل بساطة تحمل المسؤولية: لم أكن أصلح لهذه الزيجات التي يعقدها الآخرون، لهذا الالتصاق بامرأة في السّراء والضرّاء" والعثور على صديق جديد، وحقيقي، كان يبدو لي أمراً متعذراً. المرأة لهي شيء يبتلعك داخل مادّته اللزجة والرجراجة - لاصقة، محمومة، أخطبوطية -، وهي في نسيجها الأساسي مشتركة مع العلكة والنابالم، وأنت قد انتهيت وأضعت سنّ السذاجة بحيث لا "ترى الآتي"، ولا تتعذّب إلا في وقت متأخّر، بعد أن يكون الرأس قد "افترس... والصديق في مثل هذا العمر لهو مثل السنّ الخالية من الحليب، ما أن تذهب حتى يصبح من الصعب تبديلها إلا بواسطة "جسر" مبتذل، ناهيك عن ضرورة وجود قاعدة صلبة كي يترسخ هذا الجسر - في كل الأحوال لا أرى أن الأشياء في هذا العالم تسير خلاف ذلك، ولا أرى نفسي مضطراً الى انتحال صورة جرذ. تلك كانت دفاعاتي في البداية: أن أفهم بأنه لم يكن ممكناً أن أفعل شيئاً آخر، وأن أفعل بالتوافق مع هذا اليقين، أن أمشي، وأمشي... لوحدي، من دون اعتقاد مؤكد، سياسي أم ديني أم جتماعي أم... لا شيء غير بعض القناعات الموضعية الصالحة للاستخدام كركائز، حادة شرسة، جسورة بالضرورة، مثلها مثل العكازات التي نقضي الوقت في تلميعها وشحذها مثلها مثل المعاول... وبواسطة هذه أمشي كيلومتراتي الطويلة.... إنّه "مذاق المنفى" أو الغربة هو ما راح يبدو لي في صورة مطردة زائفاً وبالياً ومتصنعاً، وذلك بقدر ما كانت "حرب لبنان" آخذة في مواصلة ضياعها، وبقدر ما كنا منذئذٍ آخذين في العيش في باريس لا بالبقاء أحياء فيها. إن نسيج المنفى الملتبس والمغشوش عن عمد كان يستثير انتفاض الإنسان المغلق على نفسه والممتنع على الآخرين وهو ما كنت قد صرت عليه، وأعني بذلك خصوصاً الخلط المتواطىء الذي كان يرعاه النسيج هذا، أي الجانب الآثم منه، القائم على الانتفاع الرخيص. وكنت أقدِّر بأن اللبناني في باريس لا يحقّ له ذلك، هذا إذا كان هناك من يحق له ذلك، وإذا كان هذا الحق نفسه موجوداً في صورة لا تكون تعسفية. الفلسطيني المقتلع من وطنه، الإسباني، التشيلي الذين هربوا في الأوقات المناسبة من سطوة الدكتاتوريات المجرمة والمُحكمة، والإنسان المدني الذي يحاول الإفلات من الحرب الشاملة المطبقة على بلده، هؤلاء يسعهم أن يزعموا لنفسهم هذا الحق... على أن "المنفى" في حالتهم ومستواهم ينمّ في الواقع عن حالة الفقدان المباشر لما بين أيديهم عن الاقتلاع، عن المهانة واليُتم" انه شعور أكثر شمولية، أكثر أصالة وأكثر شرعية، بالتأكيد من المنفى الذي ينسبه الناس اليه، وها هنا يكون العسف مقلوباً، في كل الأحوال ليس هناك وجه صلة حقيقي بين هذا وبين "المنفى" المنحط المعقود للإنسان الذي يسعى الى البقاء في "المغترب"، والمتأتي من الواقعة البسيطة الداعية الى الاستمرار في الحياة خارج بلده من دون القدرة لسبب أم لآخر على الاستقرار في "موطنه" - إنه شعور ناجم إذاً عن العشق الحارق للأرض الأصلية... ذاكرة مسكونة ببطن الأم!... الأرض "الأجنبية" تصبح على هذا النحو "أرض منفى" بالضرورة لن يقيم فيها، ويصبح المنفيّ ذاك الإنسان الذي لا يكف عن النظر خلفه، تاركاً "الأسف" يلوي رقبته، بعد أن استولى عليه شوقه الدائم الى أرض أجداده وطفولته ولهذا السبب من دون شك نرى إجماع الناس على احترام هذا الشعور هنا في فرنسا، وهو احترام يزداد حضوره لدى العنصريين وكارهي الأجانب المستعدين للعمل من دون هوادة من أجل "مساعدة" المنفيين على وضع حد نهائي لغربتهم. هذا النوع من الكذب المواسي للذات ما عاد يعنيني أبداً إثر عودتي من بيروت، المنفى هراء! إنّ حياة الإنسان مصنوعة كلها من الانقطاعات، والانفصالات وأشكال الابتعاد: إن القروي القادم من منطقة البريتاني الفرنسية "صاعداً" الى باريس لهو في الأمور الجوهرية منفي مثلي، ولا شيء يفرّق بين حالينا سوى سلطة الدولة القومية والسلوكات الاجتماعية القائمة على النبذ ذي الطابع العنصري بقدر يزيد أو ينقص، وهذه الزمور هي التي تجعلني أشعر بأنني أقل منه استقراراً في بيتي في باريس نفسها" هل ينبغي فوق ذلك أن أعمّق الهوة من خلال تلفيق هذا الشعور الموصوف بشعور المنفى؟ إنّ ردّة فعلي الشخصية والعادية حيال النبذ الذي أشعر به، الذي ألحظه أو أظن الإيحاء به من حولي، تستثقل إذاً أن تلتحف بأي شعور من طراز "شعور المنفى" وان كان هذا يحصل حتماً، في "صورة إنسانية"، من وقت لآخر..." إن ردّة فعليّ تختار عندئذٍ أن تندرج بوصفها مقاومة - حيال ضرب من "الظلم"، حيال تعسف يصاحب فكرة حق تمنحه الدولة وفكرة التفضيل القومي، وهما أمران عفا عليهما الزمن! إنها ردّة فعل قائمة على المواجهة إذاً. مقابل أناشيد المنفى أفضّل رطانة وبلاغة التصريح بأنني هنا في بلدي، واضعاً نفسي في مجابهة مع أولئك المسكونين بحوافز أنانية والذين يتجاهلون حقي، ويصرّون على تحويلي الى إنسان منفي، إذا لم يكن الأمر على هذا النحو، فأين هو بيتي إذاً؟ البلد الذي ولدت فيه؟ في حال ما رجعت إليه بعد خمس عشرة أو عشرين سنة، هل سيكون بعد على حاله؟ وبطاقة الهوية التي سأحملها من بعد أو التي سيردونها إليّ، هل ستكفي كي تنزع منّي الشعور الجديد ب"المنفى"، وهو شعور لا مناص منه، وسوف يقيّدني ما إن أشرع في الاستقرار مجدداً؟" - وكنت في تلك الفترة أعود بالضبط، ولم يسعني أن أتعرّف عليه، "بلدي". لا أتعرّف اليوم إلاّ على الذكرى التي بقيت لديّك وهذا، هو المنفى الحقيقي، القطيعة التي لا رأب لها مع الزمن الذي يمرّ، هذا الشيء الذي يفصلنا عن ذاكرتنا، لا عن أرضنا، وهو انفصال لا تقاس مسافته بالكيلومترات. أنا المنفي عن طفولتي التي ما عاد يسعني الالتقاء بها إلا عن طريق الذكريات" وبعد بضع سنوات سأصبح المنفي عن مرحلة البلوغ في العمر والتي سوف أغادرها هي أيضاً نهائياً... وصولاً الى الموت في النهاية، الى المنفى الأخير. في كل لحظة نتغرّب عن ذاتنا داخل ذاتنا. في كل مرّة يطاول فيها الموت موضعاً قريباً منّا، نتغرّب عن أولئك الذين نحبّهم. والناس يعيشون هذا وأنا أعيش هذا بعمق وألم، تلك هي الحياة. هل اقتلاع وجودنا في كل ثانية، وتبدّد روحي الطفولية، ومغادرة جسدي البالغ، هل كل هذه الأمور تشكّل منفى أقلّ شأناً من المنفى الجغرافي؟ في مطلع الألف الثالث، ألم تعد المسافة الفضائية فكرة نسبية بالكامل؟ ألم يكن المنفى رديف الزمن الثابت آنذاك، والمحادثات البدائية، والمناطق المكتفية بذاتها؟ ولكن هنا!... هنا، الأرض لي، الكوكب كله أصبح قريتي، مثله مثل الحياة، وسوف أخسرهما في الوقت ذاته، ما عاد الإنسان يتغرّب فوق الأرض، إنّه يعبر الفضاء كما يعبر الزمن، وكلّ متر مربّع من الفضاء العمومي مثل كل ثانية من الزمن في باريس أو في نيويورك - أو في بكين، أو في...، لي الحق فيه كما لي الحق في كل متر مربّع عمومي في بيروت بالمناسبة أشير الى أنني لم أنجح في منع نفسي عن التفكير بأن لي أنا أزيد من هذا الحق، إزاء الدولة الديموقراطية وثرواتها، تعويضاً عن كل سنوات الاستعمار واللاديموقراطية التي استعبدت ماضيّ عندما كان "الديمقراطيون" المتأصلون يجنون أرباحاً، هم، على حسابي. ظلّت هذه عقيدتي" وحدها القوة تستطيع أن تذكرني بوجود الحدود الجغرافية - هذا المذهب البدائي -، وعندما يحصل لي في صورة عادية جداً، أن أشعر بسطوة إحساس لا يرد بالغربة فإنني لا أنظر خلف ذاتي بل في داخلها. وعلى هذ النحو من التشرد أمضي في المدينة وفي الحياة من دون أصدقاء، وبعكازات مسنونة في رأسي، مصطحباً سخطي، ملسوعاً بلهب جروحي - وعندما يحصل لي أن أتوقف مدة خمس ثواني أستسلم في أثنائها للتأمل في يعسوب فوق ورقة في شجرة دلب، فإن الثواني الخمس هذه لهي المدة التي في أثنائها تكون الحشرة اليعسوب وطني. عن الفرنسية: حسن الشامي