مع اقتراب القرن العشرين من نهايته لا يأتي المرء بجديد ولا يحتاج لجهد عظيم ليستنتج ان الإنسان العربي، على الغالب، لا يشعر بالرضا عما انجزته الشعوب العربية منذ بدايات القرن وحتى الآن. هذا إذا لم نقل تتملكه حال من الاحباط والتشاؤم، إذ لا يبدو المستقبل واعداً بمقدار الطموحات والآمال العريضة. منذ تفتحت أعين العرب على العالم الحديث وعلى أوضاعهم الذاتية كانت، وما زالت، طموحاتهم كبيرة، ومن الطبيعي ان تكون العقبات والتحديات كبيرة كذلك. وحين يكون الاهتمام، حتى ولو لفظياً، متركزاً على القضايا والمهام الجليلة الاستقلال وتدعيمه والتنمية الاقتصادية والتعليم والتصنيع والوحدة وتحرير فلسطين وبعث أمجاد الماضي وغيرها من الشعارات والرسالات يتراجع الاهتمام بالإنسان حامل تلك القضايا ويصغر شأنه وتتراجع ذاته الفردية ويكاد يختفي صوتها، هذا إذا توفر الوعي بتلك الذات، أمام ضجيج المعارك الكبيرة وعلى جبهات الحياة كلها. الجزء الأكبر من تلك الأهداف مبرر ومشروع ويستهدف تحسين وتطوير حالة الفرد في النهاية، إلا أن غياب الايمان به وبحقه في الاختيار والتعبير لا يقود إلا إلى الاستبداد وتعثر مسيرة التقدم ورفع ثمن أكلافها وبالنهاية سقوطها. شكلت القضايا والمهام الكبيرة إضافة حديثة لتاريخ طويل لمجتمعات لم تتطور أحوالها عامة لتبلغ نقطة الاعتراف بالإنسان - الفرد كذات مستقلة تملك حرية التفكير والتجديد وغير متلاشية في الجماعة إلى حد الغياب. على هذا يمكن القول إن الماضي يتآزر مع الحاضر لدمج الفرد في الجماعة والحد من نموه ووعيه. فإذا كان من الطبيعي، في ظروف استثنائية ومصيرية، أن تتم تعبئة طاقات المجتمع وعلى حساب الجماعات والأفراد، ففي الأحوال العربية تحولت الظروف المصيرية إلى حالة شبه دائمة بسبب التحديات والمهام التي لم تنجز بعد وبسبب تراكم الأزمات بعضها فوق بعض. وفي حين تجد كثيراً من السلطات في عدة الظروف مبرراً لسياستها واستبدادها على سبيل المثال حالة الاحكام العرفية المطبقة بشكل شبه دائم منذ الاستقلال في بعض البلدان ومصادرتها للمجتمع ومعه الذات الفردية، فإن معظم المعارضة والفئات الناقمة والأجيال الباحثة عن حياة أفضل تجد منارتها وخلاص امتها في مشاريع وايديولوجيات شمولية ومخططات جماعية لا تعرف موقعاً مستقلاً للفرد ولا توليه اهتمامها ولا تعترف، عملياً، بالآخر المختلف الرأي. مع أنه من المطلوب أن يكون الإنسان - الفرد وفسح المجال لنمو ذاته وابداعاته في قائمة الأوليات والاستهدافات، وذلك لكي يقوم بدوره وبشكل ايجابي مساهم وفاعل في رسم وتحقيق وتعديل الأهداف العامة. رغم الصورة السابقة للواقع العربي نجد، ومنذ سنوات، نمو وتعمق وتوسع حجم الأصوات العربية المجاهرة بأفكارها الذاتية البعيدة، والمتعارضة في كثير من الأحيان، عما اعتادته الأمة والجماعة من تفكير سواء بالنسبة لماضيها أو حاضرها، أصدقائها وأعدائها، أو بالنسبة لمُثلها وذاتها. الأمثلة أكثر من ان تعد وتحصى وتمتد من السياسة والآداب والفكر وحتى السينما والدراسات التاريخية والفلسفية. لم تلد تلك الأصوات من عدم، فهي امتداد لتاريخ متواصل من نقد أحوال المجتمعات العربية وتأخرها والبحث عن الدواء المناسب لعللها، منذ بداية النهضة ومروراً بالنقد الذاتي المزدهر بعد هزيمة حزيران يونيو 1967 وانتهاء بحرب الخليح الثانية في 1991. هناك من الأمثلة ما نال من الشهرة والانتشار ما يكفي، من خلال ردود الفعل ضدها والمتراوحة بين النقد القاسي ومنع النشر وصولاً حتى التفكير. النماذج القليلة المعروضة في مقالنا لا تتميز عن غيرها إلا بكونها تعبر بوضوح عن الفكرة ومنشورة في السنوات القليلة الماضية. يشكل الفرد الفلسطيني نموذجاً شديد الوضوح على توفر الظروف العامة والمساعدة على تغييب ذاته واستمرار اندماجها بالجماعة ومُثلها الجماعية. فإضافة إلى تماثل العوامل الاجتماعية والتاريخية المحيطة به مع كثيرين في المجتمعات العربية، هناك عملية النفي المؤلمة لفلسطين وجوداً وأرضاً وشعباً وبالتالي افراداً. من تحصيل الحاصل ان يكون رد الفعل التمسك بكل ما يمثل القضية والهوية الجماعية، ففلسطين كانت، وما زالت إلى حد كبير، شرط كينونة الفرد الفلسطيني، شاء أم ابى، لأن العالم يتعامل معه نفياً واعترافاً وعلى هذا الأساس. تحقق حلم بعض الأفراد الفلسطينيين، عدة آلاف، بالعودة إلى أرض الوطن بعد اتفاق أوسلو. إلا أننا سنفاجأ بلهجة حسن خضر، في شهادة منشورة في فصلية "الكرمل" في ربيع 1997، وحديثه عن اشكالية علاقة الفرد بالجماعة. فلا العودة ولا الحلم ببناء الدولة المستقلة تحل الاشكالية فيقول: "مشكلة الهوية لم تعد قائمة فلا أرى سوى وجوه الفلسطينيين ولا اسمع سوى لهجتهم. في الأمر ما يثير الغيظ لأنه يجرد الكائن من ذلك الاحساس اللاذع بتفرد الهوية. التفرد الذي كان المنفى شرط وجوده والذي حلمت بغيابه". لا يتحسر على المنفى و"يكفي انني في فلسطين" ولكن يتحسر على ما وفره المنفى من فرصة لتحقيق الذات وتفردها رغم اندماجها في القضية وتمثيلها للجماعة. تلك المفارقة نتيجة تطور غير طبيعي لأحوال المجتمع فلولا المأساة والنفي القسري لما توفرت الفرصة. بذور الإحساس بالذات بدأت من المأساة العامة وترعرعت من خلالها وتدعمت بنيل قسط من التعليم ولعلها نمت، في حال الكاتب، من خلال العمل في صفوف الثورة وساعدت التجربة والزمن على انضاجها. التفرد في المنفى أنساه ضغط الجماعة ككل سواء لكونها بعيدة عنه أو نتيجة ما أحدثته الهجرة واللجوء من تفكيك وخلخلة في هياكل المجتمع وسلطان الجماعة. أما وقد عاد إلى الوطن وقد نمت الذات واحساسها باستقلالها، فلا يمكن إلا أن تشعر بضغط الجماعة التي أصبحت واقعاً معاشاً وبشكل يومي. رغم ان اتفاق أوسلو لم يؤد إلى انجاز الأهداف الوطنية الفلسطينية، أي ما تزال القضية الكبيرة موجودة ورغم الواقع الصعب، فإن هذا ليس كافياً لنسيان الانا الفردية. التجارب السابقة والوعي ورؤية مدن وعوالم أخرى تثير شهية الأسئلة وتحفز النقذ فتعود الذات إلى الواقع، المنسي سابقاً، لتضع أصبعها على الجرح: "لم أدرِ أن غياب التفرد لن يحرر الهوية من مآزقها بل سيثقبها بعنصر جديد هو تحديد العلاقة بالهوية الجماعية التي لم تكن موضوعاً للتساؤل من قبل". الذات المنفية في الجماعة والقضية والتي نضجت فيها ومعها لا تود، وقد زال المنفى الجغرفي وعادت لاحضان المجتمع، ان تنفي نفسها من جديد ولصالح الكل فتصرخ "التماهي من بعيد يمكننا من التحكم بشروط الانتماء اما الاندغام فلا يشعرنا سوى بثقل الهوية". أظن تلك لهجة لم نقرأ مثلها من قبل وما كان للفرد الفلسطيني ان يفكر على تلك الشاكلة ولا أن يعبر بتلك الصورة حتى لو راودته الأفكار. أمام عظم القضية وحجم المأساة لم يكن هناك مكان للفرد ولا لمشاعره الذاتية من وجود، فذلك ترف لا تسمح به الأحوال ولا تقبل به الانا قبل الجماعة. فالفلسطيني - الفرد أصبح مثالاً لوطن وقضية وشعب. يرتفع هذا المثل في أقصى حالاته لتصبح حياته وأفعاله ملكاً للوطن والحلم، فإذا عاش أو تعلم أو تزوج وانجب أو استشهد أو كتب، بالدم، فمن أجل فلسطين. قبل عودته إلى الوطن ما أظنه كان سيكتب، كما جاء في شهادته، عن صديقة خالد الذي صرخ الإنسان المتألم في داخله بالقضية وعبئها، في لحظة معاناة ذاتية، وقذف "خارطتها بحذائه ذات صباح بعيد وهو يصرخ باكياً: كفى... كفى ارحمينا". فالوطن صورة مثالثة والعلاقة به موقتة، ولا يمكن للفرد - المناضل ان يكون أقل مثالية. بالتالي ما كان ينظر لنفسه ولا كان مجتمعه، ولا المجتمعات العربية في نظرتها للفدائي، يتعامل معه بدءاً من الإنسان الواقعي، يضعف أحياناً ويخاف ويحب ويتعب كأي بشر على سطح الأرض، بل كنوع من السوبرمان في سلوكه وشجاعته ومثاله واستشهاده. مثال آخر عن نمو النزعة الفردية عبر عنه الكاتب والصحافي اللبناني حازم صاغية "الحياة" - 14/11/1997 بتصريحه الواضح دون لبس أو غموض "لست معجباً بالتقليد الثقافي العربي الذي يغدو المثقف بموجبه مقاتلاً ضد العدو، تماماً كجندي لا يتردد في الذود عن جماعته وقبيلته". "الأنا" تعلن عن نفسها وترفض دوراً كان القبول به وبحماس من بديهيات الأمور. بعد كل الهزائم والتراجعات وانكشاف الأوهام والأخطاء والخطايا والضحايا الكثيرة لا يمكن ل "الأنا قبول دور الجندي الذي لا يسأل ولا يتساءل فموقفه محسوم ومهمته واضحة. التجربة ونمو الذات خلقت جندياً" من نوع آخر يشك ويعتبر "هذا التقليد بالتعريف لا نقدياً ولا هو بالثقافي أيضاً. إنه أبعد من هذا جبان ورجعي. جبان لأنه لا يتحدى بيئته المباشرة أو يعبر عن أي معارضة لها ورجعي لأنه لا يفعل سوى ادامة الوضع القائم دون محاولة تغييره". في الاتجاه ذاته يمضي الكاتب التونسي العفيف الأخضر ليؤكد استقلالية الفرد وعدم قبوله بمقولة "المثقف يعبر عن ضمير الأمة" لأنها مقولة الأنظمة التوتاليتارية وهذه "تعريفاً هي تذويب الفرد في الأمة بجعله نسخة طبق الأصل ينطق بلسانها ويفكر برأسها الجمعي لا بنفسه" "الحياة" - 16/12/1997. بهذا الكلام تم الاشهار عن جمهورية الفرد المستقل الآمر الذي سبق وعبر عنه وضاح شرارة، في سيرة سياسية جزئية، "الرفاق" منشورة عام 1980، بقوله بعد خروجه من التنظيم السياسي الذي انتمى إليه ولهويته الجماعية "ثم لم أعد رفيقاً ... عدت إلى عرائي الشخصي والفردي والذاتي، إلى تاريخ سمته الأولى ما أعمله وما أقوله وما ادعيه، أنا، باسمي الخاص". تقف "الأنا" على مسافة من الجماعة، لم تعد مندمجة فيها بشكل آلي ولا مدافعة عن أخيها ظالماً أو مظلوماً وتعلن عن حقها في ابداء الرأي وقبول ورفض ما يتوافق مع العقل. لا يعني ذلك انسحاباً من قضايا المجتمع ولا دورانا حول الذات ومصالحها ونرجسيتها كما يمكن المسارعة إلى الرد وتوجيه الاتهام وإنما يعني البدء من نقطة مغايرة في النظر إلى الذات والجماعة وقضاياها. بعد الاعلان عن وجودها وحقها في التفحص الحر تستدير الذات لتعيد النظر بالذات الجماعية وعلاقتها بها وتحاول أن تتعقلها في ماضيها وحاضرها وطرق تربيتها وتفكيرها وبالتالي مستقبلها. تلك الذات ما عاد شعارها المثل السائر "أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب"، وإنما أنا وعقلي على كل ما هو غريب ولا عقلاني ولا انساني سواء مثله اخي أو ابن عمي أو الغريب. وباختصار تريد الانا إعادة تأسيس الجماعة ونظامها ليكون الانتماء تعبيراً عن خيار وحرية الفرد لا على أساس التقليد ومكان وزمان الولادة. الفرد المنسحب من التماهي مع الجماعة لا يذهب بعيداً ولا يرتاح وإنما يعود ناقداً لاساطيرها وفاضحاً لمعيقات تطورها. قد يخطئ وقد يصيب، بمقدار ما يملكه من رؤية وتجربة وتواصل مع الواقع، إلا أن فضيلته، إذا كان بالامكان التحدث عن فضيلة، تتجسد في محاولة الفهم والتعقل عوضاً عن الموافقة الآلية وفي البحث عن النواقص والاخطاء مقابل التبرير والتغطية وفي خلق حركة دينامية وليس الحفاظ على الجمود والسكون. لا بد ان يثير هذا الدور النقدي عاصفة من الاستياء والغضب وقرارات المنع والتحريم وكل ما يخطر على البال من اتهامات، فالجماعات والأمم، خصوصاً إذا كانت ضعيفة محبطة وتواجه أزمات متعددة، تبحث عما يعزيها ويطمئنها وعن تماسكها وعن الجندي المندمج المنفذ للأوامر، أو المتظاهر بتنفيذها وإن كان لا يخدم مصالحها بتستره على اخطائها ومساهمته في توارثها. أما "الأنا" الناقدة فتبدو كمن يحبط المعنويات ويعكر عرى التماسك والوحدة. لكن وكما قال قاسم أمين في بدايات القرن: "لو انتظر المصلحون دائماً رضا الرأي العام لما تغير العالم عما كان عليه من زمن آدم وحواء". بغض النظر عن محتوى ما تقوله تلك الأصوات، وغيرها في الماضي القريب أو البعيد، ومدى اتفاقنا أو اختلافنا معها، فإنها تعبر عن نمو النزعة الفردية في المجتمعات العربية التي لم تعرف الاعتراف بالفرد كقيمة في حد ذاته ومن الأهمية بمكان ملاحظة ان الفرد العربي الذي اعتاد نفي أناه ويلحق بها إذا اضطر لاستعمالها الجملة الشائعة "... وأعوذ بالله من كلمة أنا" هذا الفرد يطل برأسه قائلاً بصراحة ووضوح "أنا" امام المجتمع والمؤسسات والقضايا الكبيرة وكل من تحدث باسمه وخطط لاجله، من أجل تقدمه ورفاهه وحريته وكرامته كما قيل، وعملياً نفى وجوده وصادر حقوقه وعقله وأورثه المزيد من القضايا والأزمات، كما أنه يؤكد الموقف ذاته أمام من يسعى لتكرار تجارب الماضي وجعله ذرة جامدة في مركب كبير يسجنه في تراث الاستبداد والملل والعشائر والايديولوجيات الشمولية على اختلافها. * كاتب وصحافي فلسطيني.