في المحاضرة الثالثة وتحت عنوان (المنفى الفكري: مغتربون وهامشيون) يتطرق سعيد إلى تحول المنفى خلال القرن العشرين من الحالة الفردية إلى الحالة الجماعية؛ حيث يتم نفي مجتمعات وشعوب بأسرها بأسباب الحروب والمجاعات والأوبئة، ويأتي على ذكر الأرمن، كمثال للشعب الذي تم نفيه عدة مرات ومن أكثر من مكان. فبعد أن كان الأرمن ومعهم اليونانيون والإيطاليون واليهود جزءًا من النسيج الاجتماعي في جزء كبير من دول الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، تم اقتلاعهم من تلك المجتمعات بسبب صعود المد القومي الذي وجد أنهم يرمزون للعدوان الجديد للإمبريالية الأوربية. ولا شك أن ما يجعل المنفى أشد قسوة وأقل احتمالا هو أن المنفيّ يدرك تمامًا، في ضوء ما نعيشه في هذا العصر من تقارب اتصالي وجغرافي بفضل سبل الاتصالات المتقدمة ووسائل المواصلات الحديثة، أنه ليس منفيًا من أرضه فحسب بل إن هنالك كثيراً مما يذكره ويعيد تذكيره بحالة النفي تلك. وعادة ما يُقسّم المنفيون في ضوء علاقتهم بمنفاهم إلى فئتين، الأولى: هي تلك التي لا تنجح في التواؤم والانسجام مع بيئتها الجديدة كليًا أو لا يراد لها ذلك مثل الفلسطينيين والمهاجرين الجدد من العالم الإسلامي إلى أوربا والأفارقة في إنجلترا. أما الفئة الأخرى فهي التي تنجح في تحقيق قدر كبير من التواؤم والانسجام في مجتمعها وبيئتها الجديدة، بل إن الأمر قد يصل ببعض أفرادها للوصول إلى أعلى المراتب الاجتماعية والسياسية مثل هنري كيسنجر القادم من ألمانيا النازية، وزيبيجنيف بريجينسكي، القادم من بولندا الشيوعية، وكلاهما كما هو معروف، كان له دور بارز في رسم معالم السياسة الأمريكية الخارجية. لقد كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية مصدر جذب واستقطاب لعديد من المثقفين والكتاب والعلماء الأوربيين خصوصًا أنها لعبت دور المخلّص والمنقذ إبان الحرب العالمية الثانية. وقد أسهم عدد كبير من العلماء وذوي الاختصاص في الدراسات الإنسانية والاجتماعية في إثراء الجامعات الأمريكية بدراساتهم وأبحاثهم وكتبهم من أمثال ليو سبيتز وإيريك أيورباخ إضافة إلى عديد من العلماء الذين كان لهم دور مؤثر في سباق التسلح الذي كان مستعرًا بين القوتين العظميين إبان الحرب الباردة كإدوارد تايلر وديرنرفون براون. غير أن ما يرغب إدوارد سعيد في تسليط الضوء عليه من المثقفين هم أولئك الذين لا يستطيعون أن ينخرطوا في التيار السائد أو أنهم يختارون ذلك بملء إرادتهم. يشير سعيد بعد ذلك إلى مسألتين مهمتين فيما يتصل بالمنفى. الأولى: هي أن حالة النفي لا تقتصر على أولئك الذين يُهجرون قسرًا أو يهاجرون طوعًا إلى بلاد غير بلادهم، بل إنها قد تمتد لتشمل أشخاصًا انتموا طوال حياتهم إلى مجتمع ما دون أن يحسوا بالاندماج فيه والتواؤم معه. أما المسألة الأخرى فهي أن المنفيّ يشعر بالسعادة بفكرة التعاسة، حسب تعبير سعيد؛ حيث تكون حالة البؤس والاستياء دافعًا إلى الإبداع، ويضرب لذلك مثلا الروائي جوناثان سويفت الذي عاش منفيًا في أيرلندا بعد خروج المحافظين من الحكم وفقدان النفوذ في إنجلترا فكان أن أنتج عمليه المهمين (رحلات جاليفر) و(رسائل تاجر أقمشة) إبان إقامته فيها. في. إس. نايبول يُذكر كمثال آخر للمثقف المنفي الدائم الرجوع إلى جذوره الذي لا يفتأ يوجه سهام نقده إلى الاستعمار وما بعده دون أن يغفل انتقاد الأوضاع والتوجهات التي لا تتوافق مع رؤاه وأفكاره في المجتمعات التي تنبثق جذوره منها. أما المثال الأبرز للمثقف غير المندمج بالنسبة لسعيد فهو ثيودور أدورنو الذي يعتبره الضمير الثقافي الأبرز لأواسط القرن العشرين. غادر أدورنو بلده الأم ألمانيا في منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين بعد فترة قصيرة من استيلاء النازيين على السلطة. كان أدورنو يمثل الثقافة الأوربية في أرقى صورها؛ فقد كان متبحرًا في الفلسفة والموسيقى وعلم الاجتماع والأدب والتاريخ والتحليل الثقافي. أقام أدورنو في نيويورك ما بين عامي 1938 /1941، وبعد ذلك في جنوب كاليفورنيا. ورغم أنه عاد إلى فرانكفورت عام 1949 إلا أن سنوات إقامته في أمريكا وسمته بطابع المنفى للأبد. لم يكن أدورنو متوائمًا مع الثقافة الشعبية الأمريكية فكان يبغض موسيقى الجاز والسينما الأمريكية وعادات الحياة اليومية وهيمنة الحس الباراجماتي، مع ميله الواضح للفردية ووعي الفرد. في ذلك المنفى الأمريكي «البغيض» أنتج أدورنو رائعته العظيمة (الحد الأدنى للأخلاق) بحسب توصيف سعيد لهذا الكتاب الذي هو عبارة عن مجموعة من الأجزاء غير المترابطة التي يبلغ عددها 153 مقطعًا يصعب تصنيفها وفق الأجناس الكتابية المعروفة، فهي ليست سيرة ذاتية وليست فكرًا متمليًا وليست عرضًا منهجيًا لرؤية الكاتب للعالم. إن أسلوب كتابته «متكلف وممحص إلى درجة الإفراط. إنه في المقام الأول مجزأ، متقلب، متقطع؛ لا حبكة فيه ولا ينتهج تسلسلًا محددًا سلفًا». لم يكن أدورنو، كما صرح لاحقًا، يطمح لأن يكون ذا تأثير على العالم، بل أن يقرأ إنسان ما يومًا ما في مكان ما، ما كتبه، تمامًا كما كتبه. لقد اتخذ أدورنو من الكتابة وطنًا بديلاً يقيم فيه بعد أن فقد وطنه. فالكتابة وطن من لا وطن له، حسب قوله هو. إحدى مزايا المنفى التي يشير إليها سعيد هي بهجة الإصابة بالدهشة وعدم التسليم سلفًا بأي شيء، وأن تتعلم أن تكون فاعلًا في ظروف عدم الاستقرار التي تعيق وتشل معظم الناس. يتمتع المثقف المنفي كذلك بمنظور مزدوج؛ فهو لا يرى الأشياء بمعزل عن بعضها بعضًا لأنه يرى الأمور ويزنها من حيث علاقتها بما تركه وراءه في بلده الأصلي، وبما هو ماثل أمامه الآن في منفاه. إن هذا التمازج يمنح المرء فكرة أكثر كونية عن كيف يفكر ويعبر عن قضايا حقوق الإنسان في حالة ما بمقارنتها بحالة أخرى. يدعو سعيد المثقف لأن يكون هامشيًا حتى وإن بدا عديم المسؤولية أو مفتقرًا إلى الجدية؛ لأن الهامشية تحرر المثقف من المحاذير والمخاوف وحسابات الربح والخسارة والتخوف من إثارة سخط المؤسسات بكافة أشكالها وصورها.