قال: "هل تستطيع التعرف إلى ظلك، أو هل يستطيع ظلك بعد كل هذه السنين التعرف إليك..."؟ ورماها أمامي. صورة بالأبيض والأسود، خلفيتها جدار من الاسمنت، وفي المقدمة بضعة شبان ما بين السادسة عشرة والثامنة عشرة. قرّبت الصورة أتأملها... يا إلهي ما الذي أخرجها من خزان الذاكرة هذا! أقربها مجدداً وأبحث عني... نفخة سخرية خفيفة ويتقدم... كنزة مخططة بالجاكار وقميص يتنطح خارجاً بياقته من ياقة الكنزة، وفي اليد... آه كتاب! اللعنة، كتاب منذ ذلك الحين؟ ويثور الفضول، يثور بعنف. كتاب، في الوقت الذي كان يجدر به أن يحمل وردة لحبيبة... كماناً يعزف عليه تحت نافذة الحبيبة.. قلباً، ولكن، كتاب؟ وثار فضولي... أمعنت التحديق أريد معرفة الكتاب الذي ألح على فتى في تلك السن ليحمله متباهياً في الوقت الذي كان جاره في الصورة يتحدى المصور والمجتمع من خلال الكاميرا بسيجارة موضوعة على طرف الشفاه على طريقة جون واين. أما الآخر فكان يرفع إصبعين مختفيين خلف جاره بطريقة مبهمة لا تعرف إن كانتا إشارة النصر أم أنهما قرنان مازحان مفترضان. جئت بمكبر قرب الصورة، فتماوجت، وتمايلت وابتعدت واقتربت وأخذ الكتاب وحامله يقتربان، وكان اسم الكتاب:"اللامنتمي". قلبت الصورة أبحث عن تعليق، وقرأت "أواخر العام 1963". حملت الصورة إلى مصور طلبت منه أن يقتطع صورة الفتى ويكبرها. أردت أن أقرأ التعبير... الانطباع الذي كان على ذلك الوجه في تلك الأيام. أردت أن أستعيد معه الذاكرة وأرى لماذا كان يحمل كتاب "اللامنتمي". هذا الكتاب الذي كانت ترجمة عنوانه الخاطئة ضربة حظ فائقة لذلك الكتاب الذي صار هوية جيل في تلك الأيام، لأني عرفت في ما بعد أن اسم الكتاب بالنسخة الانكليزية هو The outsider والكلمة لا تعني "اللامنتمي" بل تعني "الغريب"، "الخارجي" وربما "الهامشي". أما اسم "اللامنتمي" فجاء بعد زمان كان الانتماء فيه صليباً. وهو يذكر جيداً أنه حاول قراءته لكنه سئمه بسرعة، فلقد كان كتاباً في نقد عدد من الروايات والنصوص الغربية التي لم يقرأها ولم تصل إليه، لكن الشلة كلها في ذلك الحين كانت تتباهى وتتفاخر حاملة كتاب "اللامنتمي" هوية وإعلان جيل عن خيبته ورفضه لكل ما جلبه الانتماء للجيل الذي سبقه بعقد أو عقدين، ثم طارده من بعد بالمباحث وبمحاكم الضمير... رمى الصورة المكبرة ب "لامنتميها" جانباً... وبهدوء وكنبع يشق طريقه الدافئ عبر الجليد قفزت إلى مقدمة الذاكرة: كان اسمها أمل، وكانت مطلقة في منتصف العشرينات من عمرها، وكانت المرأة الأولى يراها عن قرب تتحدث وتثرثر عن حياتها السابقة مع زوجها في غير مرارة كثيرة، كانت تتعامل مع الحياة ببساطة شديدة على رغم أن تهديداً غامضاً كان يحوم من حولها، فلقد تزوجت على غير علم من أهلها، ثم أكملت التحدي بأن استأجرت غرفة لم تؤجر سابقاً في بيتنا، وبذا دخلت حياتنا امرأة جديدة. كانت لا تأبه كثيراً للإيشارب على الرأس فتتركه ينزلق، ويكشف الجزء الأكبر أو كل الشعر البني المحمر بفعل الحناء كما كانت أمي تقول. ولكن أمل كانت تصر على أنه لونه الطبيعي. دخلت البيت فانقضت على بلادتي كالصاعقة. كنت في السابعة عشرة غارقاً في قراءات لا تنتهي. كنت أسمع من زملائي في المدرسة عن المباحث وغاراتهم الليلية ولا أهتم. كنت أسمع في الحارة عن الاعتقالات النهارية ولا أكترث. فقد كانت رسالة ما تنتظرني، رسالة أعرفها بشكل غامض، أعرفها منذ قرأت "رباعية الاسكندرية" التي أعارها لي مدرس اللغة الانكليزية مادحاً ومقرظاً، فأرهقت نفسي متحدياً القراءة بلغة لم أتقنها جيداً. لكن عناد البغل الذي ورثته عن أبي كما كانت الأم تلح ملمحة إلى ذلك الأب الذي غادرنا منذ زمن طويل، لأكبر دون رعاية إلاّ من أم انحط بها الزمان حتى اضطرت إلى تأجير غرفة من بيت لم يدخله غريب من قبل. وحين حذرتها الجارات من اجتماع شابين في بيتها أطلقت ضحكتها الساخرة: هه... هذا؟! وكانت على حق. فمنذ اكتشفت سحر الكتاب لم أعد أرى العالم إلا من خلال الكتاب. قرأت "رباعية الاسكندرية" فأذهلتني بجرأتها وعوالمها الغريبة وتذكرت أني أعيش في هذا العالم الذي يصفه داريل، ولكن، يا إلهي، لماذا لم أره كما رآه داريل؟ وقضيت ليلتين أناقش معلمي في الرسالة السياسية المتخفية في ثنايا الرواية و أعارني "الصخب والعنف"، فكررت القسم بيني وبين نفسي أن أكون روائياً، وأن أكرس نفسي لهذا الفن وحده. لم أكتب الشعر. وكان كل من حولي يسخرون مني ومن قراءاتي التي لا جدوى منها، فأنا لم أكتب قصيدة واحدة حتى الآن. وكانت الشلة كلها مؤمنة بأن الهدف الأسمى للمثقف هو كتابة الشعر. كنت أريد كتابة رواية كبيرة كپ"الجريمة والعقاب" كپ"رباعية الاسكندرية" كپ"الصخب والعنف"، لكني كنت أتململ آسفاً أني لا أستطيع كتابة روايتي الكبيرة وأنا أعيش في جو البلادة المجسدة. كان العالم من حولي يضطرب... في المدرسة، في الحارة، في المدينة، فالتظاهرات تتم يومياً تتحدى أولاً الانفصال، وتالياً التأخر في تحقيق الوحدة. تظاهرات تحولت إلى نشاط يومي للشباب، لكني كنت الوحيد المكتفي بكتابي تحت شجرة التين العملاقة العقيم التي لا عمل لها إلا أن تغطي باحة الدار يومياً بورقها اليابس وثمارها المرة. ... ودخلت أمل البيت. دخلته فزرعت فيه بهجة جديدة، وضحكات جديدة، وعباءات جديدة تزينها بخيوط الذهب والقصب قبل أن تعيدها إلى المعلم الذي يمر في كل بضعة أيام حاملاً عباءات غشيمة يستبدلها بالعباءات المطرزة. دخلته فنشرت ضحكاتها وشقشقاتها في الباحة التي لم تعرف ضحكة قلبية منذ سنين. أخذتُ أرفع رأسي عن الكتاب للمرة الأولى أتأمل الوجه الأسمر الممتلئ. أرى الأسنان البيض تضحك ولا أسمع الضحكات. فقد كان زجاج النافذة التي أقبع من خلفها يعمل مرشحاً للصوت، لكني حين رأيت الركبة ينكشف عنهاالثوب ارتفعت نبضات القلب، واحتقنت شرايين الركبة. وحين انحنت على البحرة تغسل وجهها وانكشف جزء من صدرها كان الاضطراب أكبر مني، اضطراباً لم أعرفه من قبل. وبدأت ألاحقها في تحركاتها في باحة البيت، على الدرج، عند البحرة. ألاحقها تغرز الإبرة في العباءة. ألاحقها تنحني لغسل ساقيها تبترد. ألاحقها... وكنت أعتقد أنها جاهلة بملاحقتي لها. وكنت جاهلاً كبيراً كالعادة. أخذ الكتاب يسلوني قليلاً. وأخذت أمل تحتل الأحلام والجانب الخالي من السرير، وفنجان القهوة الآخر، ولكني أبداً لم أجرؤ حتى على التلميح. كانت مكافأتي الكبرى حين غابت عن البيت، فتسللت إلى غرفتها، تسللت أتشمم بقايا الروائح. العرق الخفيف والعطر الخفيف والهمسات الهاجعة في الزوايا. تأملت المجمع المصدف المملوء بالحمرة والكحل والمراهم البيض. تأملت الإيشارب المنسي على العلاّقة... وأحسست بأني سأختنق من السعادة. أكل هذا الجمال في غرفة عرفتها طويلاً ولم يكن بها أي جمال؟! أردت أن أرمي بنفسي أتمرغ في سريرها، ثم خفت أن يفسد ترتيبه وتكتشف تسللي... سمعت حركة في البيت. وتسللت قابضاً بيدي على كنز من فرح. كنت جاهلاً كبيراً حين ظننت أنها لم تشعر بملاحقاتي لها. كنت جاهلاً كبيراً حين ظننت أنها لم تعرف بتسللي إلى غرفتها. كنت جاهلاً كبيراً حين ظننت أنها لم تدرك جبني وخجلي وقلة خبرتي، لذلك كانت صدمتي مريعة حين فاجأتني صباحاً في خفية الدهليز فانقضت علي مقبلة! ثم هربت إلى غرفتها حيث اختفت عن ناظري تماماً، اختفت في غرفتها لا تخرج منها إلا عند غيابي عن البيت... في تلك الأيام تعرفت للمرة الأولى على صديق اسمه الأرق... هذا الصديق الذي سيلازمني لما تبقى من العمر... هذا الصديق ألحّ علي بعد بضعة أيام من اعتزالها في غرفتها، فتسللت في وقت متأخر من الليل، تسللت أتجول تحت نافذتها حافياً أتسمع إلى حفيف أنفاسها، محاولاً ألا أصدر أي صوت، ولكن مفاصل أصابع القدمين الحافيتين كانت تطقطق لحسابهما الخاص إثر كل خطوة متسللة، وهكذا سمعتها تخاطبني للمرة الأولى، تخاطبني هامسة من خلال منخل النافذة، هذا أنت؟ هذا أنت؟ لكن صاعقة من جبن حلت علي، فجثوت على الأرض لا أريد لها أن تراني جثوت لا أتنفس ولا أطقطق بمفاصلي وتكرر الهمس، هذا أنت؟ وأحسست بقلبي ينشق. كانت تناديني بكل شوق الأنثى، ولكني كنت الغشيم الذي سأظله ربما إلى الأبد. ... تأملت الصورة المكبرة واليد حاملة كتاب "اللامنتمي". ورأيت مرارة على وجه الفتى... مرارة؟ طبعاً فلقد طلع عليه الصبح وهو في مجلسه المتخفي عن عيون تلك الواقفة وراء المنخل تهمس... هذا أنت؟ هذا أنت؟ في اليوم التالي تماماً انفجر العنف في المدينة عنفاً أحمق، عنفاً فيه كل أصالة الإنسان من قتل وتدمير وفتك... رصاص، مدفعية، دبابات، وأعولت الأم: يا إلهي هل ستعود الأيام الفظيعة ثانية؟ وفهمت أنها كانت تتحدث عن الخمسينات وأيام الانقلاب. توافد الجيران يريدون معرفة ما يجري. كانوا يظنوني أنا من لا يفارق الكتاب أعرف كل شيء... أليس الكتاب معرفة؟ ومن عمق أصداء الرعب. الانفجار الخارجي والرعب المستسلم في باحة البيت ذكرت أمل. بحثت عنها بين الموجودين ولم تكن. نزل علي رعب ثلجي. أتراها خارج البيت وفي يوم عنيف كهذا. أطللت من نافذة غرفتها متجرئاً هذه المرة. ولم تكن في الغرفة. اندفعت إلى الداخل وكانت المرة الثانية أقتحم غرفتها، ولكنه كان اقتحاما متأخراً ليلة واحدة فلقد بدا جلياً حتى لغشيم مثلي أنها قد غادرت البيت، فلم يكن في الغرفة إيشارب معلق ولا زجاجة عطر على رف النافذة. لم يكن هناك شرشف زهري ولا وسادة مطرز عليها قلبان وملاك يحمل قوساً يسدد بسهمه إليهما. لم يكن هناك تطريز عليه نوم العوافي... لم يكن في الغرفة إلا صدى لهمسة ترددت الليلة كلها. هذا أنت؟ هذا أنت؟ هذا أنت؟ ... اندفعت خارج البيت أبحث عنها. لُبتُ في الحارات أسمع الانفجارات وأرى دماء هنا وهناك وخراباً هنا وهناك، أرى الدبابات تقف عند مفارق الطرق والمصفحات... كنت أتحاشاها جميعاً أبحث عن أمل، ولكن بعد فوات الأوان. في اليوم التالي عثروا على أمل مقتولة. ولكن أحداً لم يستطع أن يجزم إن كانت قد قتلت على يد أهلها الباحثين عنها ينتقمون لشرفهم! أم أنها قتلت ضحية عبثية من ضحايا أواخر العام 1963. في اليوم التالي بدأت كتابة روايتي الأولى ذات الاسم المضحك "أملي لماذا قتلوك؟" تلك الرواية التي لم تنشر ولن تنشر طبعاً... لكني أخيراً عثرت على موضوع للرواية. عدت أتأمل الصورة المكبرة والكتاب المضحك المشدود جيداً في اليد، ولا أزال لا أفهم حتى الآن سبب اختيار المترجم لاسم "اللامنتمي" لذلك الكتاب الذي اشتراه الكثيرون وقرأه القليلون ولكنهم بمعظمهم أحبوا العنوان. روائي سوري.