1 ربما ،مر عرضا اسم الكاتب والروائي الأسباني ، ومؤسس ورئيس الجمعية الإنسانية ليبر برس ، المراسل الثقافي، والمستشار الأدبي في منشورات ليبرس ديل سيفبيه ، كارلس ماكراخ اي بروخا . اسم طويل ومربك ، ومن الجائز يحمل بعض النعوت في اللغة الأم ، ولذلك بعض الأسماء لا تبقى في الذهن قط، على الخصوص ، الروسية في حقبة المائة عام الاخيرة حين تمت ترجمات لا تحصى إلى العربية . كنت أقرأ وأجمّع الأسماء ذات المقاطع الطويلة والمنتهية بحرفي السين والياء في ورقة وأقوم بتقسيم الاسم إلى درجات وطبقات فأختار الأكثر بساطة وبهجة . كاتبنا الأسباني هذا عملت هكذا معه فاستسلمت لمقطع اسمه الأخير بروخا الذي يذكرني بشيء من المكر والدهاء . وسرعان ما يتضاعف العرفان بالجمال في روايته هذه ، في كل جزيئة من هذا العمل تتجلى فتنة خالصة من الشوائب رقراقة هذه الرواية ، والمؤلف لديه حرية خالصة لكي يدع القارئ معصور الفؤاد وهو ينخرط معه في هذا العمل الذي لم يدع لي ناشره من قول مضاف ، : «» رواية مذهلة عن الحب والحرب والموت ، وعن قيم التضحية ومجابهة الظلم وقبول الآخر المختلف، وأيضا عن الكلمات والازهار والكتب . رواية تصعد إلى ذرى فنية وإنسانية برقة العبارة وسلاستها ، ولكن بقوة الأمل الإنساني وروح التضامن والايمان بالحق والعدالة «». صورة المؤلف موجودة أيضا ، وبعض الصور خداعة ؛ بمعنى، انها تخفف من منسوب الأسى والشجن لكي لا يطفح خارج الكادر ، والعوينات الطبية وحدقتي القارئ المبللتين بدمع يفصح عن نفسه حال الانتهاء من القراءة . 2 هذه الرواية الثانية التي أقرأ ترجمتها للشاعرة صباح زوين ، والصادرة عن دار نلسن . تتجلى شعرية وحساسية وثقافة المترجمة في العثور على سلطة النسيج الروائي المضفور بالرشاقة والشغف والمرارة ، فأندمج وبدون عسر بما يسمى بالقضايا الكبرى ، وكلها موجودة في رواية تقع في 117 صفحة ومن القطع المتوسط ، ومدبرة بعناية بجميع ما بقي من تراكمات تفاصيل التفاصيل من أساسيات الوجود فنلاحظ ، ان كل عمل إبداعي صحيح يتجه ولوحده أن يكون قضية كبرى . رجل فنلندي يتاجر بجميع أنواع البهارات والتوابل ، الاعشاب اليابسة والزيوت ، ومن غير تونس ودول الشمال الإفريقي يمتلك ثراء هذه الأسواق بتلال من كل ما يخطر على البال . يتعرف هذا الغريب في أحد الأيام على رجل يعمل في سلك البوليس ، وفي أثناء تبادل الحديث يخبره الأول انه يعاني من آلام لا تطاق في ظهره ويريد من يدله على أفضل من يقوم بالتدليك ، فيشير عليه بالآنسة ملاك ، أخته الممرضة في المستشفى العمومي قائلا له : جربها فقد تشفى على يديها . من هنا يبدأ برق وبريق الرواية بين ملاك تونسية تتمتع بسخونة طبيعية من الشمس الإفريقية القابلة على اذابة صقيع هذا الفنلندي شبه الغشيم . فتعقد معه اتفاقا وهو ممدد في غرفة ظليلة ، لا تدعه يرأها ، لكنه يهجس بها ، وبحركتها ، ورائحتها وابخرتها : «» أنا لا أضع حجابا ، حجابي هو الظل ، هو غروب هذه الغرفة . سوف ترى وجهي وأنا أرى وجهك ، فقط في حال نجحتُ في تذليل ألم ظهرك . الصوت ، صوتنا ، سيكون خيط النور في هذه الغياهب ، أنا سأخبرك أشياء عن بلدي ، ربما حكايات قد تكون حقيقية كما قد تكون مجرد أساطير ، أيضا قد أطلب منك أن تخبرني بعض حكاياتك «» . 3 هذا المناخ يشي بتربة بديعة وصالحة لعمل روائي فذ كهذا . الأرض تحرث بمقتضى أصابع أنثوية تستبدل يوميا الزيوت ، تبدأ بالقرفة مخلوطة بماء الزهر ، أو الزنجبيل بحبات الهال ، وبمقتضى موسم الحصاد كانت الحكايات بين الاثنين وافرة ، ممتعة ، عميقة ، وشاسعة جدا . ملاك قارئة ممتازة لتاريخ بلدها ولأبجديات النضال الإنساني، وعلى الخصوص قضايا هذه الأمة ، أمتنا العربية . فيقول عنها ولها : «» هل كانت هذه ممرضة مهتمة بظهري وتعالجه، أم فيلسوفة أم أيضا شاعرة . لم أكن أعلم في ذلك الحين أنها كانت إلى هذه الدرجة مميزة ، أنها امرأة فريدة . وفي أي حال ، اكتشفت لاحقا أن تونس بلد شعراءٍ كبار «» . بالتدريج يبدأ الرجل واسمه آلكي بالشفاء ، لكن يفتك به مرض الغرام ، فيسعى لبلورة هذا الأمر الصاعق بالذهاب إليه وبالطرق الرسمية ، فتتم الخطوبة . وفي بيت العائلة الكبير سوف يراها ولأول مرة . طوال الصفحات التي كان التدليك يقوم على المنادمة ، وتبادل المعارف ، وتفجر الحواس ، وهي ترفض أن تريه وجهها . الاستيهامات الأولى في بعض الأحيان ، تمنحنا بعض الحماسة لرجل مر في خيالنا ، أو امرأة شرعت نافذتها خطفا ثم غابت ، هذا الاستيهام هو قيمة بحد ذاته ، يقبل بها بعضنا كوعد يسكننا إلى الموت ، ولذلك ، يظل هذا الالحاح لدى الكثير منا ، وبدون استثاء ملاذنا الأخير ، ولكن ، اذا حدث وتم اللقاء في أحد الأيام بالأصل ، وبعد التي واللتيا أن نصاب بالفزع ، ثم بالانكار التام ! 4 «» كنت أذهب إليها متشوقا لسماع صوتها الجميل ، مفتتنا بحنان كلماتها ، بحكاياتها وأسرارها ، وكانت كل مرة تزداد رغبتي في رؤية وجهها ، ولو أني كنت في الوقت ذاته خائفا من اكتشافه ما جعلني أبعده عن مخيلتي بغية تجنب خيبة ما ، ربما ، فيما بعد «» . ملاك كانت تقوم بترويض ألمه ، وشيء من غفلته وبرودته ، فكان يُطبخ وينُقع على نار الأصابع والزيوت وهي تخبره بصوت رقيق جدا : «» الألم لا يأتي فقط من جسدك . إنه ينبع أيضا من روحك . أعرف ألمك من صوتك وكلماتك ، وأنا أحاول شفاءك عبر مخيلتي وقوة أصابعي وحرارتها «» أول ما يبصرها وهي واقفة بين باقي شقيقاتها اللاتي وقفن بالصالون لتحيته ، ميزّها ، تراءت له الإطلالة ، النضارة ، ذبذبة الكيمياء ، وعوارض خلاقة لا ترى بالعين المجردة . أشهر إسلامه وتزوجا . في الرواية بضعة صفحات تتحدث عن قرية قيبيا الاردنية حين دخلها الجيش الإسرائيلي «» فجروا المنازل مع من في داخلها الخ «» وحين يسألها الرجل وهي تروي له القصة : لماذا ؟ تجيبه قائلة : «» ليس من جواب دقيق لتفسير العنف . الإنسان يحمل العنف في عروقه وشرايينه . قبل إتمام الزواج لها ، كانت لملاك بعض الشروط ؛ لا تنجب الأطفال لبضع سنوات ، ان تبقى حرة ضمن المؤسسة الزوجية . كانت تعرف أنه سيوافق لكي يجعل الالتياع بينهما متعاظما ، هكذا فسر الأمر من جانبه . 5 أية رواية ايجازها أو اختصارها لا يعول عليه ، وهو دائما أمر غير مفيد ولا نافع ، وأحيانا بلا أية قيمة نقدية. فالعمل الجميل هو الذي نوافق على السكوت أمامه ، وهو إشارة إلى القيمة الفنية ، ومع هذا علينا ، ودائما أن نغامر وندون ، من الجائز، لأنفسنا وقبل القارئ . الروائي كان يكتب أمامنا ، والكتاب بلا فواصل ولا أرقام للفصول . وحين نعرف ان في حياة أسرة ملاك جرح ما زال ينزف ، هو استشهاد شقيقها عبدالرزاق ، عندما ذهب في البدء للقاهرة ، ثم ينتقل للبنان متطوعا مع الفدائيين الفلسطينيين ، وضد القوات الإسرائيلية . وفي العام 1984 تعلم العائلة انه قضى في مدينة بعلبك ودفن هناك . ملاك لا تصدق الأمر . وفي العام 2006 حين شنت الدولة العبرية حربها الغاشمة على لبنان تتطوع ملاك ضمن وفد تونسي من الاطباء والممرضين . اقنعت زوجها بمهامها النضالية والإنسانية . هو غادر إلى سان فرنسيسكو لحضور معرض دولي خاص باختصاصه ، وهي تغادر لبيروت . أول مرة لا أريد تكون الشخصية المركزية شجاعة وذات طاقة للمقاومة باسلة جدا . أول مرة كنت أساوم المؤلف لو يدع مآثرة فروسية ملاك لعمل روائي قادم من الاعمال النادرة التي تخز الكبد ، وتوجع الروح ، حين يتوغل الألم فيضفي على صفحات الخاتمة وما قبلها نوعا من الكتابة التي كنت أراها قد اجتازت ممالك القتل ، وأرض الابالسة . كان المؤلف يكتب باستمرار مستغرقا في ان لا نسمع انتحابه . رواية تخبر كل شيء : عن سلع البهارات ، وتسليع البشر في حروب شكلت لنا ، نحن أبناء هذه الأرض ، تاريخا من الافناء والهوان الذي لا لبس فيه ولا اشتباه ،. عن دول تختفي وتتطابق مع قانون كوني يقول : ان العدم أبقى من الوجود . «» يوم نموت ، وكما كل بقية الأشياء ، هذه الكلمات والاحلام تختفي إلى الأبد ، تنزلق من بين أصابعه تتحول إلى غبار ، إلى نسمات هواء لتعود إلى الرمل والرياح . فأنا آلان ، آلكي قربك وبين يديك ، لست أكثر من كتاب من دون رغبات وأحلام وكلمات ، لست أكثر من صفحات رقيقة كأنها حرير . صفحات تتحول نثارا ذهبيا بين أناملك ، كتاب كتلك الكتب التي تختفي كل يوم لتتماهى بالرمل في «» مكتبات الرمل «» .