اختلفت آراء المهتمين بالشأن السوداني بخصوص الدستور الذي تمت اجازته من أجهزة الحكم في السودان، وأجازه كذلك استفتاء شعبي عام. اختلف الناس أيضاً حول نزاهة ومشروعية اجرائه. وقد كنت ضمن البعض الذي اعتقد ان مجرد احتكام الحكم في السودان إلى دستور مهما كان شكله أو مضمونه في ظل عجز المعارضة الخارجية وتشرذمها خطوة في المشوار الطويل نحو العودة إلى سياسة الانفتاح، حكم القانون، وإعادة قارب الدولة للسباحة في مجرى التاريخ. فالدستور الجديد في المغزى لا المحتوى، كان جديراً بالتأييد، ليس لأنه نهاية المطاف، ولكنه بلا شك نقطة بداية نحو الهدف الأبعد. لأسباب أجملها فيما يأتي: أ - قَيَّدَ السلطة، بعد ان كانت مطلقة، مبنية على الأوامر الدستورية أو بعبارة أدق الأوامر الجمهورية الموقتة. ب - حمل في داخله بذرة نظام تعددي مهما اجتهد أهل الحكم والمعارضة في تلحين ذلك واخراجه من المحتوى الدستوري. وهذا لا يتم ولا يتأتى إلا بمزيد من الضغط الداخلي باستيعاب الممكن والمتحصل عليه والانطلاق نحو المطلوب. إذ ليس المفترض في السياسة ان يثق كل طرف في الآخر الحكم والمعارضة فكلاهما جماعة سياسية ذات أهداف ومصالح متناقضة. ج - حمل في داخله أيضاً أداة للتعديل والتغيير. والبناء الدستوري لا يتم بضربة لازب من أول وهلة. فالتراكم القانوني والدستوري هو السبيل الوحيد الذي يمكن ان يؤدي إلى التراضي والاستقرار. أهل الحكم، ومنهم العميد بكري حسن صالح، صرحوا بعد اجازة الدستور مباشرة، بأن قانون المحكمة الدستورية العليا، وقانون الأحزاب سيصدران في وقت أقصاه شهران من تاريخ إعمال ونفاذ الدستور على أرض الواقع، ما يعني بأن كل هذا ربما كان لا يتجاوز نهاية شهر آب اغسطس الماضي. لم أكن متفائلاً بما سمعت. ومثلي آخرون قرروا الإمساك عن الكتابة، لنعطي الحادبين على الاستقرار وانقاذ مصير البلاد من الوهدة التي هي فيها فرصة. تعود أسباب عدم التفاؤل في أساسها إلى أن السطح الذي يبدو متماسكاً في الحكم والمعارضة على السواء. كانت به أخاديد وألغام من أقليات هنا وهناك تحت قشرته الظاهرة. في معسكر الحكم أقلية متشنجة، حكمت البلاد بصورة نخبوية وبأسلوب تعبوي، في سنين الحكم الأولى، قبل أن يصطدموا بجدار الواقع المحلي والاقليمي والدولي، وفي تلك الفترة خلقوا لأنفسهم واقعاً سلطوياً ومراكز قوى في أجهزة القرار المركبة الشائكة، أصبح التخلي عنها الآن محفوفاً بمخاطر عدة منها على سبيل المثال لا الحصر: 1- التخلي عن "الامتيازات" التي كانت في أيديهم ومنها الحكم المطلق للبلاد دون رقابة حتى من التيار الإسلامي العريض في البلاد. 2- الخوف الغريزي من أن يصبحوا كباش فداء لاخطاء من صنع أيديهم، لا يتحمل التيار الإسلامي العريض الذي يحاول جاهداً استعادة التوازن الذاتي الآن نتائجها. 3- أن يؤدي الانفتاح الحقيقي إلى إبراز حجمهم الحقيقي في مراكز القوى وصنع القرار، إذ أن حجمهم كان مضخماً ومنتفخاً بأدوات السلطة حالة الطوارئ، الوضع الاستثنائي، والخطاب الديماغوغي التعبوي. هذه المجموعة هي مزيج من الارستوقراطية العسكرية الجديدة، والبيروقراطية السياسية التي أظهرت النتائج الملموسة لانجازات الحكم، عجزها وعدم قدرتها على إدارة شؤون الحكم في السودان، بتعقيد تركيبته السكانية ومحيطه الاقليمي العاصف، ومشاكل حكمه وإدارة اقتصاده المتوارثة. هذه المجموعة اعتمدت أيضاً بواسطة خطابها التعبوي على مجموعة أخرى من "الانقياء" الذي آمنوا بفكرة الدولة الرسالية وحربها الجهادية المقدسة في الجنوب وغيره من بؤر التوتر الملتهبة في جسم الدولة. حاربوا وماتوا أو استشهدوا من أجل هدف مقدس آمنوا به. والتراجع النسبي الآن للحكم نحو المربع الأول الذي انطلقوا منه صبيحة انقلابهم على السلطة الشرعية في حزيران يونيو 1989، ينذر بانقسام التيار الإسلامي، أو ربما إلى بروز ظاهرة جديدة على الحركة الإسلامية في السودان هي ظاهرة "التكفير" ومهما قللنا من شأنهم أو قلل الآخرون من ذلك، فإن جماعة صغيرة راديكالية من هذا التيار - اذا لم يتم معه التعامل بحنكة وحذر - يمكن ان تعصف بالاستقرار والتنمية لسنوات طويلة ان لم نقل لعقود مقبلة. ولنا من تجارب العالم والمحيط الاقليمي شواهد كثيرة تغنى عن الاسهاب. ورغم المأزق الذي وجدنا كلنا - دون استثناء - انفسنا فيه، كان هنالك أمل ما يراودنا بأن شيوخ الحركة الاسلامية، وتيارها الغالب المعتدل ربما استطاع التعامل مع التيار المتشدد، وبؤرة "التكفير" المحتملة، خصوصاً بعد ان أسهمت بعض المبادرات الوطنية - وأخص مبادرة الحوار الشعبي الشامل - واسهامات لجنة الفكر الوطني في إبراز إرادة هذا التيار وارتفاع صوت عقلائه - وهو الغالب - وسط جلبة الخطاب التعبوي السابق للمبادرات، وهي مسألة وقت فقط، لكنها أيضاً لا يمكن ان تصبح دون نهاية أو دون أي ضوء في نهاية النفق المظلم. كنت اعتقد ان المعارضة، ممثلة في بعض قيادات التجمع ذات الثقل "لا الكيانات الهلامية والتنظيمات القزمة" يمكن ان تسهم في دفع حالة الانفتاح إلى نهاياتها، إلا أن بعض الحسابات الخاطئة، والمتمحورة حول "الذات" أعادت الأمور خلال الشهرين الماضيين إلى حالة الجمود التي نحن فيها الأن، لأسباب أهمها: 1- رغم التناقض الظاهر، وغياب الرؤيا، وعجز الوسائل، لا يزال بعض قادة التجمع يرون فيه حكومة ظل "منتظرة". 2- الخطاب السياسي للتجمع "استئصال النظام من جذوره... الخ"، إضافة إلى التحرشات العسكرية الحدودية - والتي يعترف القادة العسكريون للتجمع، أنها لن تسقط النظام"، أفادت العناصر المتشددة في النظام بمحاولة الابقاء على الخطاب التعبوي طاغياً، وأبقت على حالة الطوارئ والاستثناء في كل مناطق البؤر الملتهبة ونخشى ان تعم البلاد بأسرها، وأخشى ان تؤدي بعد حوادث التفجيرات الأخيرة إلى تعليق جزئي أو كلي للدستور وحالة الانفتاح النسبي التي ذكرت في أول هذا المقال. 3- بعض القيادات السياسية التاريخية استطاعت قراءة الواقع السياسي الحالي في الداخل، من حيث بلورة المواقف والرؤى والقيادات الجديدة التي أفرزتها حالة المعاناة طوال العشر سنوات الأخيرة "لا يستثنى من هذا حزب" وأخشى أنهم رأوا ان أجواء الوفاق في الداخل إن وصلت إلى مبتغاها، ستكون على حساب القيادات التاريخية الموروثة، أو ربما إعادة صياغة الوسط السياسي بصورة جديدة سيصبح أولئك أول ضحاياه، ففضلوا التمترس خلف استحكامات الخطاب السياسي للتجمع، رغم غياب الرؤيا والأهداف والفعل الناجز. 4- بعضاً ممن ذكرت اعلاه سيعمل على تلغيم أي أجواء للوفاق "متذرعين بعدم الثقة" من دون فحص أو تمحيص المواقف للابقاء على حال الجمود. وهذا موقف المستفيد الأوحد منه هي العناصر المتشددة، والابقاء على حال الطوارئ أو القوانين الاستثنائية وما لها من آثار سلبية جانبية ومباشرة على الحراك السياسي والاجتماعي. رئيس الجمهورية، ورئيس المجلس النيابي، ورئيس لجنة الفكر الوطني، ما زالت لديهم الفرصة بتسريع الايقاع ونزع فتائل الألغام، بإعلان قانون المحكمة الدستورية، وقانون تنظيم العمل الحزبي، للبدء في خطوات الانفتاح على أرض الواقع، ومن دون ذلك ستستمر حالة الجمود وتزداد حالة الاستقطاب الاقليمي، أو ربما أخذ الصراع بعداً لن يكون للحكم أو المعارضة فيه يد بعد ذلك. * باحث وأكاديمي سوداني.