قد لا تكون المجزرة التي شهدتها ولاية تشياباس المكسيكية قبيل أعياد الميلاد، وذهب ضحيتها خمسة وأربعون من القرويين الهنود الحمر شيئاً يذكر اذا ما قيست بمذابحنا العديدة والمفجعة، من الأقصر الى جرائم الجزائر المتلاحقة، الى ما هناك مما هو حاصل بالفعل، أو ماثل بالقوة. لكن مجزرة المكسيك كان لها من الوقع أشده، حيث أثارت استنكاراً وادانة داخليين وخارجيين واسعين، وقد يكون لها بالغ الأثر على تطور الأوضاع في تلك البلاد. ذلك ان مجزرة الهنود الحمر لفتت الانتباه مجدداً الى منطقة تشياباس، تلك التي سبق لها ان قفزت الى صدارة الأحداث على حين غرة، في رأس سنة 1994، عندما استولى "الجيش الزاباتي للتحريد الوطني"، وما كان أحد قد سمع عنه شيئاً من قبل، على عدد من مدن وقرى المنطقة، معلناً بذلك ولادة حركة ثورية جديدة في أميركا اللاتينية. وهو ما عد في إبانه حدثاً مثيراً. فالحركة تلك قد برزت الى الوجود بعيد توقيع المكسيك مع كل من الولاياتالمتحدة وكندا، على اتفاقية نافتا، الرامية الى تحويل البلدان الثلاثة الى سوق ضخمة مفتوحة، في خطوة اعتبرت تكريساً ظافراً للعولمة ولليبرالىة الاقتصادية الجديدة، فجاء تحرك تشياباس رداً عليها. ثم ان الحركة أعادت الى واجهة الأحداث جموع الهنود الحمر، أولئك الذين كانوا قبل ذلك نسياً منسياً، بعد تعرضهم، طوال قرون، للابادة، جسدياً وكحضور سياسي أو في التاريخ. كذلك فالحركة بدت في الآن نفسه امتداداً للتراث الثوري الأميركي اللاتيني في هذا الصدد، وقطيعة مع ذلك التراث، على الأقل القريب منه، طالما انها كانت أولى ثورات ما بعد الماركسية تطرح مطالب التحرر والمساواة على نحو مستجد. وقد لقي الزاباتيون جزاء كل ذلك تعاطفاً عالمياً واسعاً، خصوصاً في أوساط المثقفين. ممن استهوتهم هذه الثورة التي لا تمارس عبادة العنف، وزعيمها ماركوس الذي يفضل استخدام "الكلمة" على استعمال السلاح، ويكتب بيانات هي الى القطع الأدبية أقرب، ويستغل شبكة انترنت على أوسع نطاق. هكذا، وبكلمة واحدة، بدا وكأن تمرد تشياباس قد أعاد الرومنطيقية الى فكرة الثورة وفعلها، وذلك أيضاً اختصاص اميركي لاتيني. فكان ان قابلت أوساط واسعة في العالم، كل ذلك بمشاعر العرفان والامتنان، وبإندفاعة تعاطف… الى حين. لكن الثورة الزاباتية ما لبثت ان آلت الى التعثر وبدأت تراوح مكانها، حيث بدأ الاهتمام العالمي يبتعد عنها شيئاً فشيئاً، وكذلك الأمر بالنسبة للطبقة السياسية في المكسيك. اما مفاوضاتها فقد استمرت ردحاً من الزمن لا تحرز أي تقدم، ثم توقفت بالكامل منذ الثاني من ايلول سبتمبر 1996، بمبادرة من الزاباتيين الذين قرروا تعليقها. واما المجزرة الأخيرة، فهي وان ذكّرت العالم بثورة ولاية تشياباس وسكانها من الهنود التزوتزيل، الا انها كشفت عن مدى بشاعة الواقع السياسي الذي برزت فيه تلك الثورة، وهي بشاعة ربما كانت غائبة عن الاذهان قليلاً أو كثيراً بالنسبة لرأي عام، عالمي وربما محلي، لم يحتفظ من الظاهرة الا بجوانبها الثورية الرومنطيقية. فكما كتب معلّق اميركي، دلت مجزرة الهنود الحمر الأخيرة، او انها كشفت النقاب، عن ذلك الجانب المعتم والمغفل في الحياة السياسية المكسيكية، وعن واقع طالما عمل على اخفائه. ذلك ان المكسيك تعيش انفصاماً: فمن ناحية، هناك مكسيك العاصمة وربما المدن الكبرى، وهذه تجري فيها حياة سياسية حديثة أو أقرب الى الحديثة من أحزاب سياسية متنوعة متعددة الاتجاهات تنشط وتتحرك، ومن صحافة تكتب ما عنّ لها تقريباً. ومن ناحية اخرى هناك مكسيك الأرياف، النائية والفقيرة كما هو شأن ولاية تشياباس، بشكل خاص، وتلك يسيطر عليها طغاة محليون، من الحزب الحاكم غالباً، ان لم يكن حصراً، يسومون الناس اضطهاداً واستغلالاً، ويسلطون عليهم عنفاً قاسياً، خارج كل قانون، ما كانت المجزرة الأخيرة الا أحد مظاهره النافرة. فقد أظهرت التحقيقات الأولية والاعتقالات التي اضطرت السلطات الى القيام بها على اثر موجة الاستنكار العالمية التي لم يتخلف عنها لا الرئيس بيل كلينتون ولا البابا يوحنا بولس الثاني، ان مرتكبي المجزرة المذكورة أعضاء محليون في "الحزب الثوري المؤسساتي" الذي ما انفك يحك البلاد من دون انقطاع منذ 1929، وان الأسلحة التي استخدموها متأتية من مخازن الجيش النظامي. بل ان أحد رهبان المنطقة الكاثوليك قال انه اتصل برئيس بلدية بلدة شينالهو المجاورة ما ان بدأت المذبحة، وانه فعل ذلك مرتين، الا ان السلطات المحلية أحجمت عن التدخل، ممكّنة القتلة من متسع من الوقت، استغرق ساعات لاتمام ما جاؤوا من اجل اقترافه. لكم يذكر كل ذلك بسابقات جزائرية معلومة؟! لقد كان من نتائج انتخابات تموز يوليو الماضي المكسيكية، ان حدّت، لأول مرة في تاريخ البلاد، منذ 1929، من انفراد "الحزب الثوري المؤسساتي"، بالحكم، حيث أحرزت احزاب المعارضة عديد المقاعد، وسيطرت على عديد البلديات، بما فيها بلدية العاصمة مكسيكو، التي أصبح رئيسها من المعارضة. لكن ذلك لا يعني الا المكسيك الظاهرة، تلك التي في المؤسسات التمثيلية القائمة في المدن الكبرى. غير ان الأمر في المكسيك الخفية وربما الحقيقية، على غير هذا النحو تماماً، حيث لا يزال الحزب الحاكم يضطلع بالشأن العام، على نحو ما كان يفعل منذ نحو سبعين سنة، مستنداً في ذلك الى سلطات محلية والى مجموعات مسلحة وموالية له تماماً ولا تتردد عن شيء في سبيل ابقاء الأوضاع على ما هي عليه. واذا ما حدث لإحدى المجازر ان استرعت انتباه العالم، أو جلبت استنكاراً وانتقاداً، فإننا نجد الحكم يبدي غيرة على السيادة الوطنية، يتناساها عادة، عندما يتعلق الأمر باستجداء المعونات الاجنبية مثلاً، ولكنه يتذكرها عندما يؤاخذ على عجزه عن حماية مواطنيه، أو عن اجرامه في حقهم، على ما فعل وزير خارجية المكسيك عندما رد على انتقادات الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي والمنظمات الانسانية الدولية، بدعوى انها تمثل تدخلاً في شؤون بلاده. لكن ذلك الانفصام بين حياة سياسية تجري في العاصمة، أو في بعض المدن الكبرى، بحد أدنى من التعددية ومن الأطر المؤسساتية، وبين اخرى تجري في بقية البلاد وفق أقسى المقاييس الاستبدادية، قد لا يكون خاصية مكسيكية. فالأمور يبدو انها بصدد الاستقرار على نصاب من هذا القبيل في الجزائر، حيث تمكن الحكم من استعادة عمل المؤسسات في العاصمة، في حين لا تزال بقية البلاد نهباً للعنف وللحرب الأهلية، وكذلك الحال بالنسبة لعديد البلدان والحالات الأخرى عبر ما كان يعرف بالعالم الثالث. واذا ما صحت هذه الملاحظة، فإن ذلك قد يمثل آخر ما اهتدى اليه الخيال الاستبدادي، وهو خصيب خلاق في مثل هذه الحالات، من اجل تحقيق البقاء، منذ نهاية الحرب الباردة: حد أدنى من تعددية ومن مؤسسات تمثيلية منفصلة عن الواقع وتعمل في الفراغ، كتنازل طفيف للعالم الخارجي وواسطة للتعامل معه. واستبداد مطبق في ما عدا ذلك، أي في ذلك الحيز الخفي والغالب، والذي يمثل قاعدة السلطة الحقيقية من البلاد. قد لا تكون مجزرة المكسيك شيئاً يذكر قياساً بمذابحنا الكثيرة، ولكنه اقد تكون التعبير عن كونية الاستبداد ووسائله وقدرته على التأقلم مع زمن العولمة هذا.