1- أصوات الليل المنخفضة يحاول الانسان عبثاً التمرد على احلامه، فأحلامه أقوى منه بكثير. انطباع، ليس في قدرة الانسان السيطرة عليه ولا على فهمه، يناقض مراراً وعلى حين غرة أعظم تأملات فكره، بل يكذب هذا الانطباع قدرات النفي الشجاع كلها لدى الانسان. ترى هل من فيلسوف جريء لم يسمع احياناً في دامس الليل، وبشيء من القلق، هذه الأصوات المبهمة، وكأنها تتواعد في الظلام. يقال ان شيئاً ما يعيش في المادة خفية بلا صوت، ويتخذ، ما ان يصمت كل شيء، صوتاً حتى يكلمنا: لغة لا تحدد، وقورة كالصمت، مظلمة ظلمة الدياجير. رسالة المستقبل أو الماضي الملغزة، لغة تقلق العقل ايضاً. ان ما لم يعد يروعنا لهو بقدر ما لم يكن: إنه المجهول على الدوام. 2- الماضي نتساءل ما الذي يحصل للأيام التي لم تعد وهل يقوم فؤاد الانسان مقام القبر لها. كلا، صدقوني. كل شيء ليبدو ميتاً، لكن، في الحقيقة ما من شيء يموت. فالأمس لا يزال موجوداً على رغم انكم لم تعودوا ترونه. أيامكم المغمى عليها غائبات لن تعود، لكنها ليست ضائعة. فهي تعلق صورها في نفوسكم، كما في محراب، وكثيراً ما تعود اليه لتتعاطى كؤوس الحديث كما في السابق، حالما تنامون، وحالما تحلمون، وتغير ترتيب الغبار الذي يغطي صورتها. الماضي يعيش تحت ثلج الاعوام. انه الماء الجاري الذي يتدفق تحت ترس الجليد، الماء الجاري حيث يتعرج فيه، كالأسهم الارجوانية والذهبية، مثل لفيف الاحجار الكريمة الجوابة وكالأزهار التي تهرب ولا تذبل، ألف سابح صامت، همُ الذكريات. 3- السفينة المتجمدة يروي بعض الرحالة أنهم صادفوا، وسط أصقاع الجليد الشمالية، سفينة قديمة جمدتها الشتاءات. لقد ولجوا، بذعر ممزوج بالتهيب، هذا المركب الفارغ والبارد، حيث بدا ان الزمن قد بدل كل شيء: الأشرعة، العتاد والحبال، انهم يرسمون بأسلوب رصين وقوي، المشهد الذي كنا لمحناه من الظهر، عبر الفتحات الثلجية التي تبدو وكأنها درابزين السفينة. كانت السفينة ثابتة بلا حراك، وكنا نرى الى مدى بعيد الجبال الطوافة، التي ينقض واحدها على الآخر محدثة ضجة هائلة. غالباً ما أتذكر هذه الصورة، وأنا أدخل مساء في كنيسة، في هذه البوارج الجسام المصنوعة من الحجر، مرساتها ملقاة وسط عواصف العالم وترنحه، التي تتحدى صواعق صواريها الصوانية واشرعتها المرمرية، نشعر وكأن ذعراً غريباً يستولي علينا، ما ان يخطر في بالنا ان هذا المركب المتحجر، مع انه لا يتحرك من السيول، يفضي بنا الى مرفأ الأمان. عن الفرنسية عبدالقادر الجنابي * جول لوفيفر دومييه 1797 - 1857 شاعر رومانسي فرنوسي. أهميته اليوم تكمن في ما اذا بودلير تأثر به في ميدان قصيدة النثر، اذ ان دومييه كان أصدر سنة 1854 "كتاب المستطرق" الذي يشبه في موضوعات عدة كتاب بودلير "سويداء باريس" الصادر عام 1868.