يجب ألا تنجرف مشاعرنا مع - أو نفرط في حسن الظن بتيار التصريحات الصادرة عن عواصم الغرب التي تدين قرار المحكمة الدستورية التركية بحل حزب "الرفاه" وحظر العمل السياسي على قياداته، فهذه التصريحات تستدعي إلى الذاكرة تصريحات مماثلة تباكى أصحابها من خلالها على اغتيال الديموقراطية في الجزائر منذ ست سنوات، بينما كان إعلامهم يرسل إلى الجيش إشارات مفادها أن الانقلاب على الشرعية أمر لا مفر منه. في كلتا الحالين لم تكن إدانات الغرب معبرة عن اهتمام أصيل بالحرية وحقوق الإنسان في أراضي المسلمين، بقدر ما كانت ضرورة يفرضها ديكور التحضر الغربي وزخارف الالتزام المزيف بالديموقراطية، تماماً كما نرى في ممارسات بعض الأنظمة العربية التي تتمسك شكلياً بأركان العملية الديموقراطية من انتخابات "مزورة" ومجالس تشريعية "مروضة" بينما العملية بأسرها لا تهدف إلا الى إضفاء شرعية وهمية على حكم الفرد والحزب الواحد. المقياس الحقيقي لاهتمامات أهل السياسة في الغرب بأي حدث يطرأ على الساحة الدولية هو ما يظهر من ردود فعل في صحافته وأجهزة إعلامه الأخرى. صحيح أن هناك حرية صحافة في الغرب، ولكنها، مثل القضايا الانتخابية، محصورة في إطار الأوضاع الداخلية. أما في ما يرتبط بالخارج، فالأجندة المطروحة عادة هي تلك التي تفرضها "النخبة"، ما يقود إلى تفاهم غير معلن بين أهل السياسة والإعلام على عدم الاختلاف، أو تقييده في حدود ضيقة لا تخرج عما تراه النخبة محققاً لمصالحها ومتفقاً مع أهوائها. فالإعلام يخفي الحقائق أو يخفف من وقعها على النفس عندما يتعلق الأمر مثلا بجرائم حرب ضد مدنيي العراق أو لبنان أو فلسطين، وهو يخدم أهداف السياسة العليا بمنع تغطية سواء بالكلمة أو بالصورة ما تفعله القنابل بالناس أو ما يفعله الجوع والمرض بالأطفال والشيوخ، وبالتالي يسهل عزل الرأي العام العربي والغربي عن الحدث وتجنب ضغوط كل منهما حتى تستمر السياسة من دون عوائق تهدد تحقيق أهدافها. هناك أيضاً سياسة تشويه الحقائق، والتي تجلت في سلوك الإعلام البريطاني إبان حرب البوسنة بما يخدم سياسة التواطؤ مع الصرب، وهذه مسألة أخرى لا مجال لها الآن. يزعم "العالم الحر" الذي تقوده الولاياتالمتحدة ومن ورائها بريطانيا أنه حامي حمى الديموقراطية وحرية الرأي والتعبير، فماذا جرى في الأيام القليلة الماضية عندما اعتدي على كل منهما؟ لقد صدر قرار حل حزب "الرفاه" يوم 16 كانون الثاني يناير وفي صباح اليوم التالي صدرت صحف السبت البريطانية التايمز - الاندبندنت - الغارديان - فاينانشال تايمز والأميركية واشنطن بوست - واشنطن تايمز - نيويورك تايمز - لوس أنجليس تايمز - هيرالد تريبيون وخبر الحل مطبوع على صفحاتها الداخلية وفي مواقعها على شبكة "انترنت"، ولكن، من دون تعليق أو تحليل أو مقال كان الاستثناء الوحيد إفتتاحية "نيويورك تايمز". أما نشرات الأخبار التلفزيونية الأميركية فأوردت الخبر في ثنايا الأخبار الدولية من دون إعطائه الأهمية التي يستحقها من إعلام زعيمة "العالم الحر" جاء الخبر في ذيل قائمة الأنباء الدولية في أخبار شبكة ABC. والتعليق على خبر معين بالرأي والتحليل هو دليل اهتمام بالحدث. وبغض النظر عن مضمون التعليق فإن كم التحليلات والافتتاحيات يعكس مدى ما يتمتع به هذا الحدث من أولوية على قائمة اهتمامات المؤسسة أو النخبة، فمثلاً لا يكاد يمر يوم من دون أن نقرأ تحليلاً عن لعبة القط والفأر بين أميركا والرئيس العراقي صدام حسين أو عن الأزمة الاقتصادية في آسيا، ولكن، يبدو أن هناك بعض الحالات التي يكون فيها السكوت أبلغ في التعبير من الكلام. إذ صدرت صحف الأحد البريطانية وغاب عن بعضها خبر حل "الرفاه"، وبحلول يوم الإثنين اختفت أخبار تركيا من جميع الصحف باستثناء "تايمز". ما هو سر تجاهل اغتيال الديموقراطية في تركيا ذات الموقع الاستراتيجي الخطير والعضو في "الناتو"؟ هل هو الشعور بالاسترخاء حيث أنه لم يصبح في تركيا ما يستدعي القلق والاهتمام،. وبالنسبة الى محاكمة روجيه غارودي الفيلسوف الفرنسي المسلم على خلفية كتابه "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية"، فقد يخيل للمرء من كثرة ما كتب أخيراً عنها في الصحافة العربية أن هناك تناولاً إعلامياً لها في الغرب مماثل من حيث الكم. إلا أن البحث في كبريات الصحف البريطانية والأميركية لم يسفر عن موضوع واحد له أدنى صلة بهذه المحاكمة - المهزلة التي جرت في باريس. وحتى الصحف التي يتوافر في مواقعها إمكان البحث الأرشيفي، لا توجد في أعدادها القديمة أو الحديثة كلمة واحدة عن الرجل سواء أجري البحث تحت كلمة "غارودي" أو حتى تحت كلمة "هولوكوست". النتيجة نفسها نخلص إليها بعد البحث في مواقع منظمة العفو الدولية ومنظمة "تبادل حرية التعبير الدولية" ومنظمة "بن إنترناشيونال"، والأخيرة هي أكبر المنظمات المدافعة عن حرية التعبير في العالم ولها 130 فرعاً وفي موقعها ملف كبير مخصص لسلمان رشدي يحتوي على تدوين زمني دقيق لمشكلته مع إيران ومعلومات عن اللجنة الدولية التي أنشئت خصيصاً لتبني قضيته. التعتيم على قضية غارودي ليس غريبا في حد ذاته، فهكذا بالتشويه يتعامل إعلام الغرب مع قضايا المسلمين. والغريب في الأمر فعلاً هو هذا الإجماع غير المسبوق على التعتيم، حتى أن كل ما أثاره المثقفون المصريون والعرب من احتجاجات وتظاهرات والتماسات لم يكن له أي صدى في صحافة الغرب. لو كان غارودي شخصية عادية لكان من السهل تبرير هذا الموقف المشين، لكنه، قبل إسلامه كان يتمتع بمكانة متميزة في دوائر المثقفين الفرنسيين، كما أن الأب بيار وهو الشخصية الأولى المحببة لدى الشعب الفرنسي ما زال يتمسك بتأييده لغارودي ورفضه التهم الموجهة إليه، فهل هذا التعتيم مدفوع بخوف من تعرية وجه الغرب الازدواجي في ما يتعلق بحرية التعبير، خصوصاً أن الذكرى السنوية لفتوى الخميني ضد سلمان رشدي لم يبق على الاحتفال بها غير أيام قليلة؟ أم هل هو الشعور بالعجز عن تبرير المحاكمة إذا ما سمح لمؤيدي غارودي بنشر آرائهم في الأجهزة الإعلامية؟ ثم هل هي مصادفة أن تبدأ المحاكمة في الوقت الجاري فيه الاحتفال بمئوية مقال "أنا أتهم" للأديب الفرنسي إميل زولا الذي نشر في 13 كانون الثاني يناير 1898 والذي هاجم فيه المسؤولين عن "تلفيق" تهمة التجسس للضابط الفرنسي اليهودي الفريد درايفوس، وفي الوقت الذي ظهر فيه تقرير من مركز "سايمون فيسنثال" المتخصص في اصطياد مجرمي الحرب النازيين يتهم سويسرا باحتجاز عشرين ألف يهودي من اللاجئين إليها أثناء الحرب في معسكرات سخرة. وفي الوقت الذي أعلنت فيه ألمانيا موافقتها - تحت ضغط حملة قامت بها "اللجنة الأميركية اليهودية" وشارك فيها بعض أعضاء الكونغرس والخارجية الأميركية - على دفع تعويضات لليهود من أحياء "المحرقة" الذين يعيشون في الكتلة الشرقية سابقاً. وفي الوقت الذي تثار فيه كذلك حملة إعلامية أخرى ضد كتاب البروفسور الأميركي نورمان فينكلشتاين "أمة متهمة"، وهو كتاب لا يختلف في مضمونه عن كتاب غارودي الذي قدم للمحاكمة بسببه؟ هل كان الدفاع وراء توقيت المحاكمة هو استغلال كل هذه الأحداث الأخرى للتغطية عليها؟ وإذا كانت المحاكمة قضية داخلية، فلماذا أحجم الإعلام الفرنسي عن تغطيتها لمدة عشرة أيام؟ لقد نشرت ست صحف بريطانية وأميركية مقالات عن الظلم الذي وقع على فرنسي يهودي منذ قرن مضى، أما الظلم الواقع الآن على فرنسي مسلم، فالواضح أنه أمر لا يستحق اهتمام مدعي التحضر.