كان يمكن لضجيج الاحتجاج العربي على محاكمة روجيه غارودي ان يكون ذا صدقية في ما لو صدر عن بيئات تعشق الحرية، وتدافع عن كل من يتعرض للمحاكمة بسبب رأي أو كتابة او قول. في هذه الحدود من الانحياز الى حق التعبير، يجوز الوقوف الى جانب غارودي او غيره، كائناً ما كان رأيه في المحرقة اليهودية او غير المحرقة. فالرأي، حتى لو استند الى تزوير تاريخي، لا يجوز ان يُحاكم صاحبه عليه، تبعاً لأحد الاجتهادات الأكثر ليبرالية. وعملاً بهذا الاخير يصبح التجريم القانوني، الفرنسي او الألماني، لمن ينفي وجود المحرقة او يشكّك بإعداد ضحاياها، موضوع ادانة. بل يخضع هذا التجريم إذّاك لرؤية نقدية ترسمه متخلّفاً او ناقص الديموقراطية او حتى مسوقاً بمشاعر الذنب وبعواطف لا صلة لها بالقانون تعريفاً قد يكون بينها التستّر المبالغ فيه على الذنب الفرنسي او الألماني او.... ومن هذا القبيل تصحّ المطالبة، كما يفعل بعض الليبراليين الأنغلو - ساكسون المشهورين بعدائهم للفاشية، بإجازة نشر وبيع كتب لاسامية كپ"بروتوكولات حكماء صهيون"، بل بإجازة وشم الصليب المعقوف وارتداء الزي النازي والتبشير بأفكار هتلر ما دام الأمر لا يترافق مع اقتناء السلاح واستعمال العنف. لكن الواضح ان الصراخ العربي ضد محاكمة غارودي ليس من هذا الصنف. فالبيئات الصارخة لم تُعرف بأي هوى ديموقراطي ملحوظ دفاعاً عن حق التعبير كائناً ما كان المحتوى المعبّر عنه. فهي نفسها التي توزّعت، مثلاً لا حصراً، بين مُطالب بالاقتصاص من سلمان رشدي على ما كتبه، وبين متواطئ بالصمت مع القرار الايراني. وهي نفسها التي تبدي حساسية بالغة حيال كل تعبير نقدي، او يُشتبه انه نقدي، في الكتابات او التلفزيون او السينما اذا ما بدا انه يطولنا نحن. ثم انها المدافعة عن نماذج تتفاوت بين السوفياتي والخميني والفاشي، وهي كلها من نقائض الحريات ونقائض الرأي. وهذا ما يسلّط الضوء على الصراخ المذكور بصفته استئنافاً للاختصاص العربي غير اللائق، اي المشاركة في نفي المحرقة او تقليل ضحاياها، والدفاع من ثمّ عن كل من يحاول ركوب هذا المركب الخشن. والموقع الموصوف اذا كان سيئاً انسانياً في حد ذاته، فهو أيضاً سيء معرفياً لأن قضيتنا إذّاك تصبح مساوية لتعميم الجهل والخطأ. الا انه كذلك سيء سياسياً لأنه يضعنا في معاكسة تيار عالمي جارف. وليست صدفة عديمة الدلالة ان فرنسا التي تحاكم غارودي، تحتفل بمئوية المقالة - الرسالة التي كتبها اميل زولا وصارت مانيفستو، كما تكتشف دورها هي الاخرى في سرقة الذهب اليهودي إبان الحرب الثانية. فإلى متى المضي في ضدّية تقوم على تعريف النفس وأغراضها بتحدي العالم وأغراضه؟