قراءة ثالثة للكتاب، من حيث شواهده الشعرية وامثاله التي يتمثل بها ابطال الحكايات عربيهم واجنبيهم، رجالاً ونساءً وتكرار تلك الشواهد والامثال، تدل على ان مبدع الكتاب واحد، لا مجموعات من اساطير الشعوب الراقية جُمّعت ووضعت في كتاب. كما ان تاريخ تلك الاشعار والامثال، تساعدنا، كثيراً، في تحديد زمن التأليف. فلو كان ثمة مجموعة من المؤلفين تعاقبت على تأليف هذه الحكايات، لظهرت في كل حكاية اشعار وامثال تختلف عما وقع في حكايات اخرى. ولو امتدت حكايات الكتاب الى القرن العاشر للهجرة على ما يريد بعض الكتّاب تصويره، لظهرت اشعار من ذلك القرن او ما سبقه. اما توقف الحكايات عند اشعار القرن الرابع وما سبقه، فيدل دلالة ساطعة على زمن التأليف، بل ومكانه ايضاً. منذ الحكاية الاولى تظهر الاشعار، وهي ما بين عشق وعتاب ومديح ووصف وشجاعة وفروسية، يستشهد بها ابطال الحكايات على ما هم فيه، او بما ينسجم وحالهم ومتطلبات لحظتها. الاشعار بعضها يُذكر لمرة واحدة، وهذه اشعار قليلة لا تزيد عن خمسين نصاً. فأما الاشعار الاخرى او التي تزيد عن ثلاثمئة نص، فقد اعيد بعضها مرتين، وبعضها اكثر من ذلك. كما ان بعضاً منها اعيد بتغيير طفيف، بسبب رغب المؤلف في التنويع، ولن كان الكتاب من تأليف مجموعة من المؤلفين، لما برزت هذه الظاهرة، اذ سيكون لكل واحد من المؤلفين قاموسه الشعري المغاير، الى هذه الدرجة او تلك لقواميس الآخرين، فيستغني بما لديه من اشعار عن اعادة اشعار المؤلفين الآخرين او تغيير بعض حروفها. وعلى سبيل المثال، فان قول الشاعر: قل للمليحة في الخمار الاسود ماذا فعلت براهب متعبّد يظهر مرة بهذا اللفظ، ومرة بألفاظ اخرى: قل للمليحة في الخمار الاسود ماذا فعلت براهب متزنّر اي يلبس الزنار، وهو الحزام. وسبب التغيير وجود بيت آخر على قافية الراء يريد مؤلفه ان يستشهد به. ومن امثلة هذه الالعوبة، ما وقع في قول الشاعر: يا موت زُر ان الحياة ذميمة ويا نفس جدّي ان دهرك هازلُ حيث ان الراوية غيّرَه وألحقه بأبيات على قافية الطاء،. لأن ذكر هذا الشاهد مع تلك الأبيات يؤكد المعنى الذي يريد المؤلف ايصاله الى القارئ، وهو سوء توزيع الثروة، ووقوع المفكرين والمبدعين والافاضل في قبضة الفقر والجوع والفاقة، وتلك الابيات هي: هو الرزق لا حلّ لديك ولا ربطُ ولا قلم يجدي عليك ولا خطّ تحطّ صروف الدهر كل مهذب وترفع من لا يستحق له الحطّ فيا موت زر ان الحياة ذميمة اذا انحطت البازات وارتفع البطّ فطير يطوف الارض شرقاً ومغرباً وآخر يعطي الطيبات ولا يخطو ولو كان قد تعاقب على تأليف الكتاب اكثر من كاتب واحد لاستغنى الكتاب عن هذا التغيير ولكان الكاتب الآخر قد لجأ الى الاستشهاد على هذا المعنى بقول الشاعر: أفاضل الدهر أغراض لذا الزمن يخلو من الهم اخلاهم من الفطنِ ولاتخذ المؤلف الثالث، من قول الشاعر: ولو كانت الارزاق تجري على الحجا هلكن اذن من جهلهنّ البهائم وسيلة لاداء المعنى الذي أراده، ولما احتاج الى هذا التغير حين تضطره الحكاية الى الاستشهاد على غرض يشابه سابقاً له، اذ ان قاموسه الشعري، ومحفوظاته، وميله الى شاعر معين، وذوقه في انتقاء الاشعار ستكون مغايرة للمؤلفين الآخرين، على فرض وجودهم الذي يقول به باحثون متعددون شرقاً وغرباً. ويتخذ المؤلف هذا التغيير، سواء وقع منه ام من الشاعر الذي يُنسب الشعر اليه، وسيلة لاثبات الفصاحة والبلاغة، لبطل حكايته او بطلتها فقد يعيد ابياتاً بمعنى واحد والفاظ واحدة باستثناء القافية، وهي اللعبة التي شعر بها شعراء القرن الرابع وما قبله، على ما تظهر في اشعار بديع الزمان الهمذاني ت 498 ه. ومن امثلة ذلك، هذه الابيات الجميلة والمختلفة في عزوها كثيراً، غير انها لا تتعدى القرن الرابع للهجرة بأي حال من الاحوال، حتى اذا كان وهم بعضهم فنسبها الى متأخرين: قولي لطيفك ينثني عن مضجعي وقت المنام كي استريح وتنطفي نار تأجّج في العظام دنف تقلبه الأكف على بساط من سهام أمّا انا فكلما علمت فهل لوصلك من دوام حيث يمسك الراوية المعنى ويغيّر القافية الى: قولي لطيفك ينثني عن مضجعي وقت الوسن كي استريح وتنطفي نار تأجّج في البدن دنف تقلبه الأكف أما أنا فكما علمت فهل لوصلك من ثمن ومرة اخرى يتم التغيير الى: قولي لطيفك ينثني عن مضجعي وقت الرقاد كي استريح وتنطفي نار تأجّج في الفؤاد دنف تقلبه الأكف على بساط من سهاد أما أنا فكما علمت فهل لوصلك من سداد ومرة رابعة تمسك بطلة الحكاية المعنى والألفاظ وتغير القافية، بناء على طلب الخليفة هارون الرشيد، فتقول: قولي لطيفك ينثني عن مضجعي وقت الهجوع كي استريح وتنطفي نار تأجّج في الضلوع دنف تقلبه الأكف على بساط من دموع أما أنا فكما علمت فهل لوصلك من رجوع ولو كان عصر التأليف متأخراً عن القرن الرابع كثيراً، لوجدنا استشهاداً اضافياً على هذه الابيات التي اوصلها بعض شعراء القرن السابع الهجري الى ثمانين بيتاً. وهناك مجموعة من الاشعار تكررت في سبعة مواضيع في الكتاب كقول الشاعر: ان يوم الفراق قطّع قلبي قطّع الله قلب يوم الفراق وقول الآخر: لا يكتم السرّ الا كل ذي ثقة والسر عند خيار الناس مكتومُ السر عندي في بيت له غلق ضاعت مفاتيحه والبيت مختومُ ومثله قول الآخر: فالى متى هذا التجنّب والجفا فلقد جرى من أدمعي ما قد كفى فلكم تطيل الهجري لي متعمداً ان كان قصدك حاسدي فقد اشتفى وكذلك هذه الابيات التي يرقى زمنها الى القرن الثالث للهجرة: الدهر يومان ذا أمن وذا حذرُ والعيش شطران ذا صفو وذا كدرُ قل للذي بصروف الدهر عيّرنا هل عاند الدهر الا من له خطر… أما ترى البحر تعلو فوقه جيفُ وتستقرّ بأقصى قاعة الدررُ فإن تكن عبثت ايدي الزمان بنا ونالنا من تمادي بؤسه الضررُ ففي السماء نجوم لا عداد لها وليس يُكسف الا الشمس والقمرُ ومما ورد ذكره خمس مرات، فقول الشاعر: نصحت فلم أفلح وغشوا فأفلحوا فأوقعني نصحي بدار هوانِ فإن عشتُ لم أنصح من بعدي بكل لسانِ وقول الآخر يصف أقواماً طغوا وتجبّروا وظلموا: تحكموا واستطالوا في تجبرهم وعن قليل كأن الحكم لم يكنِ لو انصفوا أُنصفوا لكن بغوا فبغى عليهم الدهر بالآفات والمحن واصبحوا ولسان الحال ينشدهم هذا بذاك ولا عتب على الزمنِ ومثله هذه الابيات في الشكوى والتسليم الى القضاء والقدر: ما ترحمون عزيز قوم ذل في شرع الهوى، وغني قوم افتقر ما حيلة الرامي اذا التقت العدى فأراد يرمي السهم فانقطع الوتر واذا تكاثرت الهموم على الفتى أين المفر من القضاء والقدر ومما ورد ذكره ثلاث مرات، وهو عدد كبير من الشواهد، فنكتفي منه بما يلي: قبلته فاسودت المقل التي هي فتنتي واحمّرت الوجناتُ يا قلب ان زعم العواذل انه في الحسن يوجد مثله قل هاتوا وقول الشاعر الغزل: وسكرت من خمر الغرام ورقّصت عيني الدموع على غناء الحادي أسعى لأسعد بالوصال وحق لي ان السعادة في بدور سعادِ لم أدر من اي الثلاثة اشتكي ولقد عددت فاصغ للاعدادِ من لحظها السيّاف ام من قدها الرمّاح أم من صدغها الزرادِ قالت وقد فتشت عنها كل من لاقيته من حاضر او بادي انا في فؤادك فارمِ طرفك نحوه ترني، قلت لها: وأين فؤادي؟ ومن طريف ما يلاحظ على شواهده المكررة انه احياناً يذكر جزءاً في موضع ما، ثم لما يحتاج الى اعادته في موضع آخر يضيف عليه ابياتاً اخرى من القصيدة الاصلية نفسها، ثم اذا كرره بعد ذلك زاد فيه ايضاً. فمرة يروي قول الشاعر: زر من تحب ودع مقالة حاسدِ ليس الحسود على الهوى بمساعدِ لم يخلق الرحمن احسن منظراً من عاشقين على فراش واحدِ ثم لما تحوجه حكاية اخرى الى الاستشهاد على المعنى المراد اعاد البيتين وزاد عليهما: متعانقين عليهما حلل الهوى متوسدين بمعصم وبساعد واذا صفا لك من زمانك واحد فهو المراد وعش بذاك الواحدِ وفي حكاية ثالثة، يعيد الابيات السابقة ويكملها بقول الشاعر ذاته، ومن القصيدة ذاتها: واذا تألفت القلوب على الهوى فالناس تضرب في حديد باردِ فاذا وصل الى موضع فيه وعظ وارشاد وأدخل على القصيدة بيتين آخرين هما: يا من يلوم على الهوى أهل الهوى هل يستطاع اصلاح قلب فاسدِ يا رب يا رحمن تحسن ختمنا قبل الممات ولو بيوم واحد وليس هذا التكرار والتغيير خاصاً بالشعر بل نراه متسقاً في امثال النثر ايضاً، فلقد اعاد كثيراً الامثال التي تضرب للتحذير من اصدقاء السوء، ومن تقلّب الزمان، وغدر الاصحاب والخلان، والرضا بالقضاء والقدر، وما الى ذلك من معان انصرف القدماء الى تجذرها عن طريق الامثال، كقولهم: بعينك لا بروحك. وبالمال ولا بالحال. يا محسناً لمن أساء كفى المسيء فعله. لا تتكلم فيما لا يعنيك تسمع ما لا يرضيك. على اننا نلاحظ في كل هذا ان المؤلف كرر ابياتاً بعينها اربع عشرة مرة، وهي لشاعر واحد، هو العالم اللغوي ابو الحسين احمد بن فارس المتوفي سنة 395 للهجرة. ومن ذلك قوله: ونفسك فز بها ان خفت ضيماً وخل الدار تنعي من بناها ورواه مرة "وخل الدار تنعي من بكاها". وكذلك قوله: تلبّس ثياب الرضا بالقضا وخل الامور لمن يملكُ أي لله تعالى. تقدر أنت وجاري القضا ءِ مما تقدره يضحكُ وأعاد قول الشاعر نفسه: اذا ازدحمت هموم الصدر قلنا عسى يوماً يكون لها انفراجُ وتمثل هذه الابيات آخر ابيات الكتاب زمنياً، لأن ابن فارس توفي في سنة 395 للهجرة كما سبق ان ذكرنا، كما انها تمثل اهتماماً خاصاً من المؤلف بها، لأنه اعادها اكثر من غيرها. ولا نظن بأن المصادفة هي التي قادته الى ذلك، ولا ان ابيات ابن فارس اجمل من غيرها. وأدل على ذلك المعنى من سواها، فثمة ابيات اكثر جمالاً وعذوبة، وأقرب الى مواضع الاستشهاد من أبيات ابن فارس، ومع ذلك عني بها المؤلف كثيراً واعادها اكثر مما اعاد غيرها. فهل لهذه الاعادة دلالة تسعفنا في الوصول الى تخوم تحديد اسم مؤلف "الليالي" وعصره وبيئته؟ نحسب ذلك، لأن الاهتمام بشعر ابن فارس وتكراره اكثر من غيره، يدل على صلة خاصة بين المؤلف وبين ذلك العالم اللغوي الجليل، على ما سنراه لاحقاً.