اتخذ حزب العمال البريطاني منذ مجيئه الى الحكم بعض المواقف التي عززت انطباعاً شائعاً وقديماً في الأوساط العربية، وهو ان الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية هي، بين أحزاب الغرب وقواه السياسية، الأكثر تجاهلاً للحقوق والمصالح العربية، والأقل تفهماً لمشاعر العرب ولتطلعاتهم العامة، والأبعد انحيازاً لاسرائيل. هذا ما أوحى به الحماس الاستثنائي الذي أظهره رئيس الوزراء الاسرائيلي طوني بلير، ووزير المال غوردون براون، تجاه اسرائيل اثناء الاحتفالات التي جرت أخيراً بمناسبة مرور خمسين سنة على ولادتها. وقد خلت الكلمات التي ألقاها الزعيمان العماليان من أية عبارة أسف على الآلام والمآسي التي تعرض لها الشعب الفلسطيني نتيجة هذا الحدث، كما خلت من الاشارة الى واقع السياسة الاسرائيلية راهناً. ولكن هل يمكن تقويم سياسة حزب العمال البريطاني تجاه القضايا العربية بالاحتكام الى مواقف الحكومة العمالية الحالية وحدها؟ ان سجل علاقات حزب العمال البريطاني بالحركة الصهيونية انطوى، أحياناً، على مواقف متناقضة اتخذها الحزب من اسرائيل ومن المشاريع الصهيونية، ما كان يعكس طبيعة الحزب ككتلة شعبية واسعة فيها المتعدد والمتنوع من المصالح والطبقات والشرائح الاجتماعية والتيارات السياسية والعقائدية. كذلك، فإن مواقف الحزب سواء تجاه القضايا العربية وغيرها من القضايا الدولية، كانت تتعرض للتبديل بحسب الظروف الدولية وبحسب تبدل الأوضاع داخل الحزب نفسه. ففي النصف الأول من الأربعينات، أي خلال الحرب العالمية الثانية، لعب الحزب دوراً مهماً، تحت اشراف وزير الاقتصاد الحزبي العمالي هيو دالتون المتعاطف مع الصهيونية، في تدريب وتسليح الجماعات الصهيونية في اسرائيل. وقبيل انتهاء الحرب، عندما بدأ الزعماء الدوليون الثلاث روزفلت وستالين وتشرشل يضعون أسس النظام الدولي الجديد ويرسمون الخرائط السياسية لعالم ما بعد الحرب. ذهب حزب العمال بعيداً في تأييد الحركة الصهيونية الى درجة انه لم يدع الى اقامة "وطن قومي لليهود" فحسب بل دعا، علاوة على ذلك، الى تفريغ فلسطين من العرب عن طريق "تشجيعهم" على الانتقال الى البلدان المجاورة. غير ان الحزب الذي التقى بهذه الدعوة مع غلاة الصهاينة، لم يلبث ان تراجع عن هذه الفكرة عندما فاز في الانتخابات العامة وتسلم الحكم وأسند وزارة الخارجية الى ارنست بيفن. فخلافاً للمواقف السابقة تبنى بيفن فكرة قيام دولة واحدة في فلسطين، على الا تكون يهودية أو عربية، وعارض الجهود الصهيونية التي كانت تتجه الى تهجير أكبر عدد من اليهود الأوروبيين الى فلسطين بدعوى انها "المكان الوحيد الذي سيجدون فيه الترحيب والأمان". وبصرف النظر عن ردود الفعل العربية على سياسة بيفن آنذاك، فأن القادة الصهاينة اعتبروا هذه السياساة بمثابة كارثة تنزل على حركتهم وقارنوها بالمحرقة ورموا صاحبها بتهمة العداء للسامية، أي ان تلك السياسة لم تكن تعبر عن انحياز عمالي الى جانب الصهاينة. واتسمت سياسة حزب العمال بمثل تلك التناقضات في الفترات اللاحقة أيضاً، ففي منتصف الخمسينات، عارض الحزب بقوة حرب السويس الى درجة دفعت بعض النشطاء المتعاطفين مع الصهيونية من أعضائه، مثل ليون بريتن، الوزير المحافظ السابق، الى مغادرة صفوفه. الا ان الحزب ما لبث ان سار في سياسة التعاطف مع اسرائيل في ما بعد. ووصلت هذه السياسة الى أوجها، في "عصر اسرائيل الذهبي في بريطانيا"، بحسب تعبير الديبلوماسي الاسرائيل جدعون روفائيل، عندما تزعم هارولد ويلسون الحزب وأصبح رئيساً للوزراء. ولقد كان ويلسون شديد الاعجاب باسرائيل الى درجة انه فكر في ان يتقاعد في أحد الكيبوتزات، ودفعه هذا الاعجاب الى امداد اسرائيل سراً بما طلبته من الأسلحة رغم ان بريطانيا كانت تفرض حظراً رسمياً على بيع السلاح الى دول الشرق الأوسط. بعد ذهاب ويلسون من مركز الزعامة، بدأ الحزب يتجه الى تأييد القضايا الفلسطينية، الى ان تبنى في الثمانينات اعطاء الفلسطينيين حق تقرير المصير، وبات التعاطف مع الفلسطينيين من أهم مرتكزات سياسته الشرق أوسطية. غير ان هذه السياسة اخذت في التراجع مرة اخرى بعد وصول نيل كينوك الى زعامة الحزب الذي أعلن خلال زيارة لاسرائيل عن تفهمه لأسباب "تمسكها باحتلال الجولان"! هذه التحولات في مواقف حزب العمال تجاه القضايا العربية، خصوصاً تجاه الصراع العربي - الاسرائيلي، تبين ان الحزب لا يختط سياسة راسخة وأبدية من هذه القضايا، بل ان هذه السياسة تتغير بحسب معطيات متعددة. وهو من هذه الناحية لا يختلف كثيراً عن الأحزاب البريطانية الأخرى التي ضمت، في آن واحد، مناهضين ومتعاطفين مع العرب، والتي تقلبت في مواقفها تجاههم نتيجة مؤثرات لا تقل عن تلك التي أثرت على مواقف حزب العمال. فحزب المحافظين، مثلاً، يضم لورد غيلمور الذي ينتمي، كما يكتب سيمون مونتفيوري، مع عدد من الزعماء المحافظين "الى التقاليد الارستقراطية البريطانية العروبية التي تعود الى ريتشارد قلب الأسد والى الصليبيين من اتباعه الذين كانوا معجبين بزهد عدوهم صلاح الدين وبمناخ الحرية الصحراوية الذي جاء منه". ولكن الى جانب غيلمور ونظرائه، فإن الحزب ضم ونستون تشرشل الذي تصفه دائرة المعارف اليهودية بأنه كان صهيونياً منذ نشأته، وكذلك مارغريت ثاتشر التي كانت رئيسة ومؤسسة "أصدقاء اسرائيل" في دائرتها الانتخابية، كانت "بسبب تأييدها لاسرائيل" تكره، كما يقول مونتفيوري، غيلمور وأقرانه من المحافظين "العروبيين" صندي تلغراف 15/12/1996 وعملت على اقصائهم عن مواقع التأثير في الحزب وفي حكومتها. ومن الأرجح انه لو عاد حزب المحافظين الى الحكم اليوم، فإن سياسته العربية لن تكون مغايرة لسياسة العمال الحالية. فالجناح الثاتشري لا يزال ممسكاً بأعنة الحزب، وفضلاً عن ذلك، فإن العرب لم تعد لهم اليوم، بسبب تراجع مداخيلهم وضعف الروابط بينهم، الأهمية نفسها التي كانت لهم في السبعينات والثمانينات. كما انهم يبدون وقد فقدوا الأرضية الأخلاقية التي كانوا يشيدون عليها دعاويهم في المجتمع الدولي. فاسم العرب بات مقترناً في أذهان أوساط دولية عدة، بأعمال العنف والارهاب والمجازر وتهريب المخدرات والحروب الأهلية والاقليمية والافساد والتعصب الديني والقومي وبالحكومات المطلقة وبالهدر والتبذير . ولم يعد العرب يحسبون في عداد الشعوب النامية التي تكافح الفقر والتخلف. بل باتوا يحسبون وكأنهم من الدول الغنية التي لا تحسن استخدام مواردها والتي تهدد استقرار الآخرين الاقتصادي. اما قضية التحرر من الاحتلال والغزو والاستيطان التي حمل العرب رايتها لعقود من الزمن فقد اضعفها تحول العمل الفلسطيني من حركة مقاومة الى ادارة تحيط بها الانتقادات. ولم يعد من السهل الآن مطالبة الآخرين بالضغط على اسرائيل. في الوقت نفسه الذي يتخذ بعض المراجع العربية المعنية بهذه القضية سياسة متهاونة تجاه الاسرائيليين. وفي ظل هذه المعطيات، فإنه من الصعب ان يتوقع المرء تحسناً جذرياً في السياسة البريطانية، بل في سياسة العديد من الحكومات الغربية الأخرى تجاه القضايا العربية. اذا كان من غير الواقعي ان ينتظر المرء، في ظل الوضع الراهن، تبدلاً كاملاً في سياسة حزب العمال تجاه القضايا العربية، فإن ذلك لا يعني استحالة تحسن موقف حكومة العمال البريطانية النسبي في هذا المجال. ومن الضروري على هذا الصعيد الاشارة الى ان العمال ليسوا هم وحدهم مسؤولون عن التراجع في علاقتهم مع الدول العربية، بل ان المراجع العربية الرسمية والأهلية تتحمل أيضاً مسؤولية هذا الوضع لأنها أهملت توثيق العلاقات مع هذا الحزب الكبير والتاريخي عندما كان في صفوف المعارضة. فكل الجهود، أو القسم الأعظم منها كان ينصب على بناء العلاقات والصلات الحميمة مع حزب المحافظين وكأنه باق في الحكم الى الأبد. ولقد ثبت بالملموس خطأ هذه الحسابات وخطأ المنظور الفكري والتقديرات السياسية التي قادت اليها. فحزب العمال لا يحكم بريطانيا اليوم فحسب، بل انه من المتوقع ان يستمر في حكمها لفترة طويلة حتى ينجو حزب المحافظين من التيارات العقائدية التي افقدته أسباب قوته. فضلاً عن ذلك فإن الحكومة العمالية تترأس اليوم الاتحاد الأوروبي وهي تعتزم كما ألمح طوني بلير، في تصريحات متكررة، استخدام موقعها هذا للتأثير في السياسة الأوروبية والدولية. هذه الوقائع والتوقعات تضاعف من أهمية قيام الهيئات العربية المعنية بمراجعة سياستها تجاه حزب العمال البريطاني. والمطلوب هنا ليس الوقوع مرة اخرى في خطأ وضع كل البيض العربي في سلة الحزب الحاكم، بل بناء علاقات سليمة ووطيدة ومتوازنة مع سائر الأحزاب في بلد لا يزال يعتبر قوة دولية رغم ما تعرض اليه من تراجعات.