رئيس جنوب افريقيا أكثر شخصيات العالم شعبية في نهاية هذا القرن. تظن انك تعرفه وتقرأ سيرته مرات فتكتشف في كل مرة ما تجهله. الكتاب الذي صدر عن مسيرة نلسون مانديلا نحو الحرية جاب كل الانحاء، وكان الإقبال عليه قياسياً في كل مكان ولشهور طويلة. "رحلتي الطويلة من أجل الحرية" يصدر وشيكاً في ترجمته العربية عن دار "جمعية نشر اللغة العربية" في جنوب افريقيا. وأعد الترجمة عاشور الشامس. "الحياة" تنشر مقتطفات من هذه السيرة: سجن بوللسمور سجن أمني من الدرجة الأولى ويقع في أقاصي ضاحية توكاي على بعد بضعة أميال جنوب شرق كيب تاون. وتوكاي ضاحية مزدهرة مخصصة للبيض تمتاز بخضرة أرضها وبيوتها الفارهة الأنيقة. ويحتل مبنى السجن موقعاً متوسطاً في تلك المنطقة الخلابة من اقليم الكيب بين جبال كونستانتيابيرغ إلى الشمال وبساتين العنب الشاسعة إلى الجنوب. غير ان ذلك الجمال لا يراه السجين من وراء جدران السجن الاسمنتية العالية، وفهمت للمرة الأولى ما انتاب الكاتب البريطاني الشهير أوسكار وايلد من رعبة عندما أشار إلى "تلك الخيمة الزرقاء التي يسميها السجناء سماء". لم نتعرف على معالم المكان الجديد إلا في صباح اليوم التالي. خصص لنا نحن الأربعة أحسن قسم في السجن، وهو حجرة كبيرة مستطيلة الشكل، طولها نحو خمسين قدماً وعرضها نحو ثلاثين قدماً، في الطابق الثالث - وهو الأعلى - من المبنى حيث كنا بمفردنا في الطابق بأكمله. كانت الغرفة نظيفة حديثة البناء، بها قسم منفصل يضم مرحاضاً وحوضاً للبول وحوضين للغسيل وحمامين دوش. كان في الحجرة أربعة أسرة بمستلزماتها وأربعة مناشف وكلها كماليات فارهة بالنسبة لرجال أمثالنا قضوا ثمانية عشر عاماً ينامون على فُرش هزيلة على أرضية صخرية. كانت الغرفة مقارنة بجزيرة روبن كغرفة في فندق من فئة خمسة نجوم. كانت نقلة بعيدة ومفاجئة لم نعرف لها تفسيراً. والمرء في السجن يتوقع التغيرات المفاجئة ولكنه لا يتعودها. ورغم وجودنا على البر الرئيسي من البلاد، أحسسنا بعزلة أكبر. لقد تعودنا على الجزيرة وأصبحت محور نضالنا. صار كل منا يبحث عن السلوى لدى الآخرين وقضينا الأسابيع الأولى نقلب الأمور ونتساءل عن سبب نقلنا من الجزيرة. كانت مشاكلنا في بوللسمور أخف بكثير من تلك التي واجهناها في الجزيرة. كان العميد مانرو رجلاً طيباً متعاوناً سعى بكل ما في وسعه لتوفير ما نطلبه بقدر المستطاع. ولكن رغم ذلك لم نعدم من يهول المشكلات الصغيرة ويضخمها. ذكرت ليوني خلال إحدى زياراتها في عام 1983 انني اعطيت حذاء ضيقاً آلمني في اصبعي فأقلقها ذلك، وعلمت بعد ذلك بقليل بأن صحفاً كتبت تقول إن اصبعاً من أصابع قدمي بتر. ونظراً لصعوبة الاتصالات يصبح من السهل أحياناً المبالغة في المعلومات والأخبار وتهويلها في الخارج. فلو كان بامكاني الاتصال هاتفياً بزوجتي وتزويدها بالخبر الصحيح، لما راجت تلك الشائعات. زارتني هيلين سوزمان بعد ذلك بقليل فسألتني عن اصبع قدمي، فقلت في نفسي ليس من رأى كمن سمع، فخلعت جوربي ورفعت قدمي عالية كي تراها من خلال الحاجز الزجاجي وحركت اصبعي حركات سريعة لأثبت لها أنه بخير. أصبحنا في بوللسمور على اتصال أفضل بما يدور من أحداث في الخارج، وعلمنا ان النضال في تصاعد وان جهود العدو لكبته ومواجهته في تصاعد هي الأخرى. في عام 1981 هاجمت قوات دفاع جنوب افريقيا مكاتب حزب المؤتمر الوطني الافريقي في مابوتو في موزمبيق وقتلت 13 شخصاً من بينهم نساء وأطفال. وفي كانون الأول ديسمبر 1982 فجرت حركة "أمكا" مركز الطاقة النووية في كوبيرغ وكان تحت الانشاء، في ضواحي كيب تاون، واستهدفت عدداً من المواقع العسكرية والمؤسسات العنصرية في البلاد. كما هاجمت القوات العسكرية في الشهر ذاته أحد مراكز الحزب في ماسيرو في لوسوتو، وقتلت اثنين وأربعين شخصاً بينهم أكثر من عشر نساء وأطفال. كان كل من حزب المؤتمر الوطني الافريقي والحكومة يعمل على محورين: عسكري وسياسي. فعلى الجبهة السياسية، واصلت الحكومة استراتيجية "فرق تسد" بمحاولاتها التفريق بين الافريقيين والملونين والهنود، وفي استفتاء أجري في تشرين الثاني نوفمبر 1983 ساند البيض خطة بي دبليو بوتا لإنشاء برلمان من ثلاث غرف يضم، إضافة إلى البيض، ممثلين عن الهنود والملونين. وكان الهدف من ذلك استيعاب الهنود والملونين في النظام السياسي وفضلهم عن الافريقيين، غير أن العملية كلها كانت صورية لأن قرارات وأعمال الهنود والملونين البرلمانية خاضعة للنقض من قبل البيض. وصلتني إشارات من السلطات بأن الحكومة مقدمة على تقديم عرض يتعلق باطلاق سراحي، ولكنني لم اتوقع ان يأتي ذلك في اعلان رسمي من رئيس الدولة أمام البرلمان. كان ذلك، حسب تقديري، العرض المشروط السادس من نوعه على مدى السنوات العشر الماضية. بعد الاستماع لكلمة الرئيس في الاذاعة تقدمت بطلب لآمر السجن بلقاء مستعجل مع زوجتي ومحاميّ اسماعيل أيوب قبل أن اعد ردي على ما عرضه الرئيس. مضى اسبوع قبل أن يسمح لويني وإسماعيل بزيارتي فوجهت خطاباً في تلك الأثناء إلى وزير الخارجية بيك بوتا ارفض فيه شروط اطلاق سراحي. كما عكفت على إعداد ردي الرسمي على الرئيس. حرصت من خلال الرد على تحقيق أكثر من هدف، لأن عرض الرئيس كان محاولة لدك اسفين بيني وبين زملائي باغرائي بالقبول بسياسة يرفضها حزب المؤتمر الوطني الافريقي. أردت ان أوكد للحزب ولأوليفر تامبو على وجه الخصوص، ان ولائي للحزب أمر غير قابل للنقاش. وأردت ان أوحي للحكومة بأنني في الوقت الذي ارفض فيه عرضها نظراً للشروط المرتبطة به، فإنني أؤمن بأن المفاوضات وليس الحرب هي السبيل الوحيد إلى الحل. بعد أسابيع قليلة وجهت خطاباً إلى كوبي كواسي اقترح فيه عقد محادثات حول المحادثات، وكما هي العادة لم أتلق رداً. عاودت الكرة ولم يصل الرد، فاستغربت وأصبت بخيبة أمل. ولكني فطنت إلى ضرورة تحين الفرصة المناسبة لتوصيل رغبتي للجهات المعنية. وجاءت تلك الفرصة فعلاً في مطلع عام 1986. اخفق قادة دول الكومنولث البريطاني في اجتماعهم في ناسو في تشرين الأول اكتوبر 1985 في التوصل إلى اتفاق بشأن المشاركة في العقوبات الدولية ضد جنوب افريقيا. وكان ذلك تحديداً بسبب تصلب رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت ثاتشر في معارضة العقوبات. وللخروج من تلك الأزمة اتفق ممثلو الدول المشاركة على ارسال وفد من "شخصيات مرموقة" لزيارة جنوب افريقيا ثم رفع تقرير حول ما إذا كانت العقوبات هي الوسيلة المناسبة لإنهاء النظام العنصري هناك. شكلت مجموعة الشخصيات المرموقة من سبعة أعضاء أبرزهم الجنرال أولوسيغون أوباسانجو زعيم نيجيريا العسكري السابق، ومالكولم فرايزر رئيس وزراء استراليا السابق، ووصلت إلى جنوب افريقيا في مطلع عام 1986 في مهمة لتقصي الحقائق. لم أتسلم رداً مباشراً من كوبي كوتسي ولكن ظهرت مؤشرات في الأفق تدل على ان الحكومة تعد لتغييرات في وضعي الشخصي. ففي اليوم السابق لعيد ميلاد المسيح دخل زنزانتي المقدم غاوي ماركس نائب آمر السجن وقال بطريقة عرضية: - هل لديك رغبة يا مانديلا في جولة حول المدينة؟ لم أدرك بالتحديد ما كان يرمي اليه، لكنني لم أر ضرراً في الموافقة، فرحبت بالفكرة، تهللت أساريره وطلب مني أن أتبعه. مشيت الى جانبه عبر الأبواب الحديدية الخمسة عشرة التي تفصل بين زنزانتي والمدخل الرئيسي للسجن وخرجنا فوجدنا سيارته في انتظارنا أمام السجن. اتجهنا نحو مدينة كيب تاون وانطلقت بنا السيارة في الشارع الجميل المحاذي للشاطئ من دون ان يحدد وجهة بعينها، وكنا نخترق شوارع المدينة وكأننا في نزهة سياحية. شدّت نظري مشاهد الناس يروحون ويجيئون لقضاء حاجاتهم في ذلك العالم الفسيح. تهت ببصري بين الشيوخ والعجائز وهم يستمتعون بدفء الشمس، وبين السيدات وهن يتسوقن وبين أناس يقودون كلاباً. انها مشاهد عادية ولكن المرء يفتقدها في السجن، فصرت وكأنني سائح في بلد ساحر غريب. بعد نحو ساعة توقف الضابط ماركس أمام دكان صغير في أحد الشوارع الهادئة وسألني: - هل ترغب في شراب بارد؟ هززت رأسي موافقاً فدخل الدكان وبقيت بمفردي انتظره في السيارة. مرت لحظات لم أنتبه لما أنا عليه، وفجأة انتابني شعور بالاضطراب. انها المرة الأولى منذ اثنين وعشرين عاماً أجد نفسي خارج السجن من دون حراسة. خيل لي انني أفتح الباب وأقفز الى خارج السيارة وأجري ثم اجري حتى أتوارى عن الأنظار. هناك شعور داخلي يدفعني الى ذلك، وظهرت أمامي منطقة ذات أشجار كثيفة يمكنني ان اختبأ فيها. شعرت بتوتر شديد وبدأ العرق يتصبب من جبيني، وتساءلت: أين الضابط؟ تمالكت نفسي بعد لحظات وفطنت الى انعدام الحكمة في تصرف من هذا القبيل. انه تصرف غير مسؤول ومحفوف بالمخاطر. خطر لي ان العملية كلها ربما كانت مفتعلة لاختباري باعطائي فرصة الهروب، لكن من المستبعد ان يكون الأمر كذلك. زالت غمتي حين رأيت الضابط عائداً الى السيارة وفي يده علبتا كوكاكولا. استأنفت الاتصال مع كوبي كوتسي عام 1987 والتقيت به عدة لقاءات خصوصاً في منزله وفي أواخر ذلك العام تقدمت لي الحكومة بأول عرض محدد. اخبرني كوتسي بأن الحكومة تنوي تشكيل لجنة من كبار المسؤولين لعقد محادثات خاصة معي، وان ذلك سيتم بعلم رئيس الدولة بكل التفاصيل. سيترأس كوتسي نفسه اللجنة وستضم مفوض السجون الجنرال ويلليس، ومدير عام مصلحة السجون فاني فان دير ميرو والدكتور نيل بارنارد وهو أكاديمي سابق ومدير جهاز الاستخبارات. يلاحظ ان ثلاثة من أعضاء اللجنة من مسؤولي مصلحة السجون مما يعطي الحكومة في حال اخفاق المحادثات أو تسرب خبرها للصحافة المبرر للتنصل منها أو القول انها تتعلق بشؤون الأوضاع في السجن لا أكثر ولا أقل. استعرضت تلك الليلة جميع الحيثيات والمعطيات. كنت على علم بأن بي دبليو بوتا شكل جهازاً غامضاً عُرف بمجلس امن الدولة يضم خبراء في الأمن ومسؤولين في الاستخبارات. وقالت الصحف ان الغرض من الجهاز هو الحد من سلطة الحكومة وتعزيز سلطة الرئيس. كان للدكتور بانارد دور بارز في ذلك المجلس وأشيع انه من بطانة الرئيس بوتا المقربين، ولذا فإن اقصاء برنارد سيُقصي الرئيس بوتا من المحادثات وهو اتجاه محفوف بالمخاطر. فما لم يكن الرئيس جزءاً من هذه الطبخة لن تتقدم خطوة واحدة. أرسلت اشعاراً الى كوتسي في الصباح بأنني قبلت العرض. عقد أول اجتماع رسمي لمجموعة العمل السرية في أيار مايو 1988 في ناد فاخر للضباط بالقرب من سجن بوللسمور. كنت على معرفة بكوتسي وويلليس لكنني لم ألتقي من قبل بكل من فان دير ميرو والدكتور بارنارد. وفان دير ميرو رجل هادئ معتدل لا يتكلم الا عند الضرورة. اما الدكتور بارنارد فكان في منتصف الثلاثينات من العمر وكان ذكياً وعلى قدر كبير من البراعة وضبط النفس. اتسمت الجلسة الأولى بالتوتر، أما الجلسات التالية فقد سادها جو من الحرية والصراحة. كنت ألتقي بهم كل أسبوع تقريباً لبضعة شهور ثم أصبحت الاجتماعات غير منتظمة. كانت الحكومة تحدد الجدول الزمني للاجتماعات ولكنها كانت أحياناً تعقد بناء على طلب مني. جاءت الاجتماعات بنتائج ايجابية. فقد اخبرت في شتاء 1988 ان الرئيس بوتا سيلتقي بي قبل نهاية آب اغسطس. لا تزال البلاد في حال غليان. فرضت الحكومة الطوارئ في عام 1987 ثم في عام 1988، ولا تزال الضغوط الدولية في ارتفاع. سحبت شركات عدة عالمية أعمالها، ووافق الكونغرس الأميركي على عقوبات شاملة ضد جنوب افريقيا. كانت مرحلة عسيرة رغم تفاؤلي بالمحادثات السرية. زارتني ويني قبل فترة قصيرة وعلمت ان بيتنا رقم 8115 أورلاندو ويست، وهو البيت الذي تزوجنا فيه واعتبرته بيتي الخاص، أحرق في عملية تخريب متعمدة. فقدنا أوراقاً ومقتنيات وصوراً عائلية قيمة لا تعوض، بما في ذلك قطعة من كعك الزفاف كانت ويني محتفظة بها لي عندما أخرج من السجن. كنت دائماً اتخيل انني عندما أغادر السجن سأعيش ذكريات الماضي من خلال تلك الصور والرسائل، لكنها ضاعت. لقد سلبني السجن حريتي ولم يسلبني ذكرياتي، ولكن ها هم اعداء النضال يسعون الى ان يسلبوني ذكرياتي كذلك. في مطلع كانون الأول 1988 شددت الحراسات من حولي في المصحة. بدا الجو مفعماً بتغيرات وشيكة لا محالة. دخل الرائد ماريس الحجرة مساء التاسع من كانون الأول وطلب مني التحضير للمغادرة من دون ان يحدد لي وجهة بعينها. حزمت أمتعتي وبحثت عن الممرضات فلم أجدهن وأسفت على ان أغادر دون ان أودعهن. غادرنا المصحة في عجل وبعد ساعة من الزمن دخلنا سجن فيكتور فيرستير الواقع في مدينة بارل القديمة الهولندية الطراز على بعد 35 ميلاً شمال شرق كيب تاون في المنطقة المشهورة ببساتين العنب. يعتبر فيكتور فيرستر سجناً نموذجياً. دخلنا السجن ولم نتوقف حتى وصلنا طريقاً غير معبدة تؤدي الى بيت من طابق واحد في منطقة ذات أشجار كثيفة في القسم الخلفي من السجن. في الصباح استطلعت مقر اقامتي الجديد واكتشفت ان به حوض سباحة وغرفتي نوم أخرتين. تمشيت خارج المنزل أتأمل جمال الأشجار التي ألقت بظلالها عليه. أشعرني المكان بالعزلة التامة، ولم يفسد ذلك الجو الحالم سوى الاسلاك الشائكة التي تغطي أعالي الأسوار المحيطة بالمبنى والحراس الواقفين عند البوابة. لكن رغم ذلك فقد كان المكان جميلاً هادئاً، وفي منزلة بين منزلتي السجن والحرية. زارني عصر ذلك اليوم كوبي كوتسي وأحضر معه صندوقاً من عنب الكيب هدية بمناسبة دخولي بيتي الجديد. انها حقاً لمقارقة ان يحضر السجان هدية لسجينه، ولم تخف على أي منا. أبدى الوزير اهتماماً كبيراً براحتي وحرصاً على رضاي. جال في البيت كله يفحصه ونصح برفع السور المحيط بالمنزل زيادة في حمايتي. كما أخبرني ان سجن فيكتور فيرستور سيكون آخر مقام لي قبل ان يطلق سراحي، وأن الغرض من وجودي فيه هو توفير مكان مريح للخلوة واللقاءات الخاصة. تواصلت اجتماعاتي مع اللجنة وتوقفنا عند المواضيع ذاتها التي طالما حالت دون تقدم المحادثات وهي النضال المسلح والحزب الشيوعي وحكم الأغلبية. واصلت الحاحي على كوتسي لترتيب لقاء بيني وبين الرئيس بوتا. وافقت ادارة السجن على اجراء اتصالات محدودة مع زملائي في بوللسمور وفي جزيرة روبن ومع قيادة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في لوساكا. على رغم شعوري بأنني سبقت زملائي بأسواط بعيدة لم أكن راغباً في ان ابتعد عنهم كثيراً فأجد نفسي بمفردي في ميدان المفاوضان. وفي كانون الثاني يناير زارني زملائي الأربعة المقيمون في بوللسمور وناقشنا المذكرة التي كنت أنوي رفعها لرئيس الدولة. تضمت المذكرة أغلب النقاط التي طرحتها في اجتماعات اللجنة السرية ولكنني كنت حريصاً على ان يسمها الرئيس مني مباشرة ليعلم اننا لسنا ارهابيين سذجاً بل رجال عقل واعتدال. في 14 تموز يوليو زارني الجنرال ويلليميس ليخبرني بأنني سوف أقابل الرئيس بوتا في اليوم التالي وقال انه سوف تكون "زيارة مجاملة"، وطلب مني ان استعد لمغادرة البيت في الخامسة والنصف صباحاً. أعربت له عن سعادتي وأشرت الى انني احتاج الى بذلة وربطة عنق أقابل بهما الرئيس اختفت بذلتي التي حصلت عليها ابان زيارة لجنة الكومنولث فوافق، وبعد قليل جاء خياط فأخذ المقاسات المطلوبة. تسلمت عصر ذلك اليوم بذلة وربطة عنق وقميصاً وحذاء، وقبل ان يغادر الجنرال سألني عن فصيلة دمي في حالة حدوث أي شيء مفاجئ في اليوم التالي. اعددت نفسي للقاء الرئيس بأحسن ما استطيع. راجعت المذكرة والملاحظات المتعلقة بها، وقرأت في أكبر عدد ممكن من الصحف والمجلات لأطلع على آخر الأخبار والتطورات. بعد استقالة بوتا من رئاسة الحزب اختير خلفاً له أف دي دو كليرك ويشاع ان مناورات حادة تجري بين الرجلين. وربما فسر بعض الناس رغبة بوتا في مقابلي بأنها تقع في اطار جهوده لسحب البساط من تحت قدمي غريمه دو كليرك، ولكن ذلك أمر لا شأن لي به. راجعت في ذهني الحجج التي سيواجهني بها الرئيس وتلك التي سأرد بها عليه. فعلى المرء في أي لقاء مع الخصم ان ينقل بكل دقة وبالتحديد الانطباع الذي ينوي ان ينقله. كنت متوتراً قبيل اللقاء مع بوتا المعروف باسم "التمساح العظيم"، وسمعت قصصاً كثيرة عن حدة مزاجه. وكان انطباعي عنه انه نموذج الرجل الافريكاني المحنك العنيد الذي لا يؤمن بمناقشة زعماء السود او بتبادل وجهات النظر معهم، بل يؤمن باصدار الأوامر لهم واملاء الشروط عليهم. ويبدو ان الجلطة التي أصيب بها حديثاً لم تزد من خصاله تلك إلا حدة وقوة. عقدت العزم على ان أتصدى له إن عاملني بذلك الأسلوب وإن لزم الأمر ربما اضطررت للانسحاب والمطالبة بتأجيل اللقاء. تواصلت لقاءاتي مع لجنة المفاوضات السرية بعد تسلم دو كليرك الرئاسة. انضم الى المحادثات وزير التحول الدستوري غيريت فيليون وهو رجل متقد الذكاء حائز على شهادة الدكتوراه في الكلاسيكيات، وكان دوره وضع مداولاتنا في اطار دستوري. ألححت على الحكومة ان تقدم أدلة على حسن نيتها باطلاق سراح زملائي من السجناء السياسيين في بوللسمور وجزيرة روبن من دون شروط. وعدت الحكومة ان فعلت ذلك ان تتوقع منهم تصرفات ومواقف منضبطة. وقدمت دليلاً على ذلك غوفان امبيكي الذي أطلق سراحه من دون شروط في اعقاب عام 1987. في 10 تشرين الأول 1989 أعلن الرئيس دوكليرك عن اطلاق سراح وولتر سيسولو وسبعة آخرين هم ريموند مهلابا وأحمد كاثرادا وأندرو ملانغيني والياس موتسوليدي وجيف ماسيمولا وويلتون امكواي وأوسكار امبيتا. جاء لتوديعي صباح ذلك اليوم وولتر وأحمد وريموند وأندور الذين كانوا محتجزين في سجن بوللسمور. كانت لحظات مفعمة بالانفعال والمشاعر العاطفية، وكنت على يقين من انني عما قريب سألحق بهم. أطلق سراح اولئك الرجال رسمياً من سجن جوهانسبيرغ بعد خمسة أيام. حازت تلك الخطوة على رضا الجميع وثنائهم في الداخل والخارج، ورفعت خطاباً للرئيس دو كليرك عبرت فيه عن تقدير وعرفاني. شرع دو كليرك بصورة منظمة في تفكيك لبنات النظام العنصري لبنة لبنة. ففتح شواطئ جنوب افريقيا للمواطنين من كل الأجناس والأعراق، وأعلن ان قانون المحافظة على المرافق المنفصلة سوف يلغى عن قريب. وظل هذا القانون منذ عام 1953 أساساً لما عرف بنظام "التمييز العنصري الأصغر" الذي يميز بين البيض وغيرهم في حق استعمال الحدائق العامة والمسارح والمطاعم والحافلات العامة والمكتبات العامة والمراحيض العامة وغيرها من المرافق والخدمات العامة. وفي تشرين الثاني اعلن عن حل جهاز "ادارة الأمن القومي" وهو جهاز سري أسس في عهد الرئيس السابق بوتا لمحاربة القوى المناهضة للتفرقة العنصرية. في 2 شباط 1990 وقف اف دبليو دو كليرك امام البرلمان لالقاء الخطاب التقليدي لافتتاح المجلس وأقدم على ما لم يقدم عليه أحد من اسلافه قط. أعلن عن الخطوات الاولى في تفكيك النظام العنصري والتمهيد لدولة ديموقراطية في جنوب افريقيا. وأعلن بعبارات مثيرة رفع الحظر على حزب المؤتمر الوطني الافريقي وحزب المؤتمر القومي الافريقي والحزب الشيوعي و31 منظمة سياسية اخرى كانت ممنوعة. وأعلن عن الافراج عن السجناء السياسيين المحتجزين في قضايا لا تتعلق بالعنف، وأعلن الغاء عقوبة الاعدام ورفع الاجراءات المفروضة في اطار حالة الطوارئ، ثم قال: - حان وقت المفاوضات. انها لحظات ألهبت المشاعر. أعاد دو كليرك بحركة واحدة جريئة الامور في جنوب افريقيا الى وضعها الطبيعي، وتغير عالمنا بين عشية وضحاها. فبعد اربعين عاماً من الحظر والابعاد عاد حزب المؤتمر الوطني الافريقي منظمة شرعية، ولم يعد أحد معرضاً للاعتقال بحكم عضويته فيه أو بحمل لافتاته بألوانها الاخضر والاصفر والاسود او بالاشارة الى اسم الحزب. أخبروني في 9 شباط عن موعد مع دو كليرك ووصلت توينهيوس في السادسة مساء حيث استقبلني في مكتبه بابتسامة عريضة. تصافحنا وأخبرني بأنه سيطلق سراحي من السجن في اليوم التالي. وعلى رغم تكهن الصحافة في الداخل والخارج بذلك القرار الذي كان متوقعاً في أي لحظة، إلا انني فوجئت بالخبر لأنني لم اكن مهيئاً لسماعه ولم أعلم مسبقاً بأنه هو الغرض من ذلك اللقاء. نشب صراع حاد بين عقلي ودمي. كانت لديّ رغبة جامحة في مغادرة السجن في اول فرصة، لكن ليس من الحكمة الخروج الى العالم بهذه السرعة. شكرت دو كليرك ثم قلت ان خروجي غداً من السجن سيؤدي الى ارتباك شديد، لذلك فأرجو تأجيل ذلك لمدة اسبوع تستعد خلاله اسرتي ومنظمتي لخروجي. فبعد 27 عاماً داخل السجن لن يضيرني الانتظار اسبوعاً آخر. استيقظت يوم الافراج عني في الرابعة والنصف صباحاً، ولم أنم سوى بضع ساعات. وكان 11 شباط 1990 يوماً صحواً من أواخر أيام الصيف في كيب تاون. اختصرت برنامجي المعتاد من التمارين الرياضية واغتسلت ثم تناولت فطوري. اتصلت هاتفياً بعد ذلك بعدد من رجالات حزب المؤتمر الوطني الافريقي والجبهة الديموقراطية المتحدة في كيب تاون، وطلبت منهم الحضور للاعداد لخروجي وللكلمة التي سألقيها. جاء طبيب السجن لاجراء كشف عام سريع. لم أكن مشغولاً بالافراج عني ولكن بما سبق ذلك من ترتيبات وواجبات. وكثيراً ما تقتضي طبيعة الحياة ان تضيع اهمية المناسبات الخالدة تحت اكداس التفاصيل والرسميات. كانت هناك مئات الامور التي تحتاج لنقاش وترتيب في غضون فترة قصيرة من الزمن. وصل عدد من الرفاق من اعضاء لجة الاستقبال مبكرين وفي حالة تأهب عالية، كان من بينهم سيرل رامافوسا وتريفر مانويل. كنت أود ان أبدأ كلمتي بتوجيه الشكر لأهالي منطقة بارل على ما لقيت من عناية اثناء وجودي في السجن، ورأت لجنة الاستقبال غير ذلك، اذ ليس من اللائق أن أبدأ أول كلمة رسمية بتقديم شكري للسكان البيض في منطقة بارل المرفهة. رأت اللجنة ان أتحدث أولاً لأهالي كيب تاون في ميدان غراند بارايد. زودتني ادارة السجن بصناديق وأقفاص احمل فيها امتعتي. جمعت على مدى السنوات العشرين الاولى من سجني امتعة وممتلكات قليلة، ولكنني عوضت عن ذلك في السنوات الاخيرة خصوصاً من الكتب والاوراق، فحزمت امتعتي كلها في اكثر من 12 قفصاً وصندوقاً. كان الموعد الرسمي المحدد للافراج عني هو الثالثة عصراً لكن الطائرة التي تقل ويني ومن معها من جوهانسبيرغ لم تصل الا بعد الثانية. وصل عدد من الناس الى المنزل وبدأت المناسبة تتحول الى احتفال. اعد الضابط سوارت وجبة اخيرة للجميع الحاضرين وشكرته ليس فقط ما قدمه لي من طعام على مدى سنتين كاملتين ولكن على صحبته الطيبة. جاء الى المنزل ايضاً الضابط جايمس غريغوري وعانقته بحرارة. لم نتعرض للحديث في السياسة طول السنوات التي تولى رعايتي فيها في بوللسمور ثم في فيكتور فيرستر، ونشأت بيني وبينه علاقة لا تصفها الكلمات وسوف افتقد الطمأنينة التي احسست بها في حضوره. عزز رجال مثل سوارت وغريغوري وبراند ايماني بالاساس الفطري الانساني، حتى لدى اولئك الذين وضعوني وراء القضبان على مدى السنوات الماضية. بعد الثالثة اتصل بي هاتفياً أحد مذيعي هيئة اذاعة جنوب افريقيا وطلب مني ان اخرج وأمشي مسافة قصيرة مبتعداً عن البوابة كي تسجل كاميرات التلفزيون خطواتي نحو الحرية. اقتراح وجيه وافقت عليه، وأخذت منذ تلك اللحظة أحس بأن البرنامج ربما سار على غير ما كنت أتصور. في الثالثة والنصف تسرب القلق الى نفسي لتأخر بداية البرنامج. قلت للجنة الاستقبال ان الناس ظلوا في انتظاري 27 عاماً ولا أريد منهم ان ينتظروا اكثر من ذلك. غادرنا المنزل قبيل الرابعة في موكب صغير وتوقفت السيارة على بعد نحو ربع ميل من البوابة فترجلت وترجلت ويني واتجهنا نحو بوابة السجن مشياً على الاقدام. اقتربنا من البوابة وبدأت طقطقة آلات التصوير وكأنها أصوات قطيع من المواشي. انهالت علينا اسئلة الصحافيين وطوقتنا فرق التصوير التلفزيوني بينما ارتفعت أصوات انصار حزب المؤتمر الوطني الافريقي بالهتاف والتهليل. ورغم الفوضى كان الجو مفعماً بالسعادة والبهجة. ظهرت امامي فجأة آلة طويلة سوداء مغلفة بما يشبه الفراء حسبتها نوعاً جديداً من السلاح اخترع اثناء وجودي في السجن فجفلت منها، ولكن ويني اخبرتني بأنها لاقط الصوت. وصلت الى وسط الحشد الجماهيري الضخم ورفعت قبضتي في السماء فهاج الحاضرون. انها أول مرة منذ 27 عاماً. يا لها من لحظة تدفقت اثناءها في عروقي القوة والبهجة. قضينا دقائق فقط بين ذلك الحشد ثم ركبنا السيارة واتجهنا الى كيب تاون. وعلى رغم فرحتي بذلك الاستقبال العارم حزنت لعدم توديعي حراس السجن بالصورة التي كنت أود. شعرت في تلك اللحظة التي عبرت فيها بوابة السجن انني في الواحدة والسبعين من عمري ابدأ حياتي من جديد. وكانت تلك نهاية عشرة آلاف يوم في السجن.