في أحد الأحياء الثرية بالعاصمة الجنوب أفريقية كيب تاون وبين مساحات خضراء تنبض بالحياة تجد لوحة مكتوب عليها «هنا ... مكان للبدايات الجديدة» وأية بدايات! فلو سرت قليلاً إلى الداخل ستجد نهايات مُتخمة بالروائح الكريهة والأوبئة المنتشرة في غرف تكتظ ب80 معتقلاً بينما لا تتسع الواحدة منها إلا ل19، هذا أقل وصف لغرفة في سجن «بولسمور» الذي جالت فيه كاميرا شبكة «سي أن أن» الإخبارية وخرجت بتقرير خاص يصف الوضع المزري واللإنساني في هذا السجن الذي يعتبر من بين الأسوأ في العالم، حيث وُضع الرئيس السابق للبلاد نيسلون مانديلا. وكشف التقرير أن عدد سُجناء بولسمور يفوق قدرته الاستيعابية ب300 في المئة أي 3 أضعاف، فيوجد فيه 4284 سجيناً علماً أنه لا يتسع إلا ل1619، وهو أمر طبيعي إذا علمنا أن جنوب أفريقيا تحتل المرتبة ال11 في كثافة السجون وال26 عالمياً في كثافة السكان، ما يعطي صورة مأسوية عن الوضع خصوصاً إذا علمنا أن العاصمة كيب تاون التي تعتبر ثالث أكبر المدن الجنوب الافريقية سجلت المرتبة ال9 في جرائم القتل للعام 2015، واعتُبرت من بين أخطر 10 مدن في العالم، حسبما أورد التقرير السنوي الصادر عن معهد «المكسيك الوطني للأمن العام». تزدحم غرف السجن المستطيلة الشكل بالأسرّة المكونة من 3 طوابق والذين يفترشون الأرض أكثر ممن يحظون بالأسرّة، ولا يوجد إلا مرحاض واحد في إحدى زوايا السجن يصطف السجناء طوابير إلى أن يأتي كل منهم الدور، وفي سقف الغرف حبل منصوب لتعليق الغسيل الذي في غالبيته أصفر وهو الزي الرسمي للسجناء، والذي ما أن يجف يكون مكدساً بالجراثيم التي تعم المكان، فالطعام وبقاياه والأوساخ وكل ما قد يخص السجناء داخل 4 جدران فقط! أما الحر والبرد الشديدين فلهما حكاية أخرى في هذا السجن الذي تتعالى فيه أصوات السجانين صراخاً بالتعليمات والشتائم عندما يخرج أحد المعتقلين من صفّه لدى اعتزام الخروج مرة واحدة للاستراحة والتنفس خارج هذه الغرفة التي تعج بالأمراض الجلدية والنفسية والرئوية خصوصاً السل المزمن الذي أُصيب به مانديلا، وداء «اللولبية النحيفة» الذي تنتقل البكتيرية المسببة له عن طريق الفئران، فلا توجد أغطية كافية في فصل الشتاء ولا تهوية كافية في فصل الصيف، ويقول كلايف وهو أحد السجاء «هذا المكان للحيوانات وليس للبشر» حيث الإهانة والضرب والتجويع وانعدام الرعاية الطبية، ويعاني كلايف ،وهو أحد السجناء، من محاكمة إدارية لا نهاية لها، ويتم تأجيلها مراراً. والغريب أن غالبية المعتقلين يمكنهم الخروج بكفالة 50 راند (5 دولارات) فقط، لكن وضعهم المادي السيء لا يسمح لهم بدفعها، وبعضهم أجنبي لم يستوفي أوراقه ويُنظر في ترحيله إلى بلده، وبعضهم قضيته مؤجلة إلى مالا نهاية. يقول رئيس السجن بالوكالة جون جاكوبس: «نحن لسنا سجنأ إصلاحياً نحن نحاكم من ارتكبوا جرائم مجتمعية ولا نعيد تأهليهم»، الأمر الذي اعتبره «يعكس أزمة عمرها 20 عاماً في أنظمة السجون العنصرية والعدالة والإصلاح في جنوب أفريقيا». ويتابع التقرير في رحلته بين أروقة السجن، أن الطابق الثاني والمخصص لمعتقلي العصابات هو محكوم من قبلها بالكامل فيتحكمون بالأطعمة والمواد التي تدخل وتخرج ويتحرشون ببعض المعتقلين، على رغم تأكيد الرئيس جاكوبس أنه «يتم فصل كبار المعتقلين عن الشباب لضمان عدم التأثير على سلوكهم الاجتماعي سلباً». ويُضيف: «في كل نهاية أسبوع تصلنا دفعة سجناء في شاحنات الشرطة البيضاء والزرقاء التي يتكدسون في الصناديق المرفقة معها». تأسس «بولسمور» في العام 1960 لكنه أصبح أحد أشهر السجون الجنوب أفريقية عندما وُضع فيه مانديلا في العام 1982، وهناك أكثر من منظمة حقوقية أصدرت تقارير تصف الوضع المأسوي فيه داعية السلطات إلى اتخاذ اجراءات سريعة ورفع الموازنة المخصصة لاحتياجات المعتقلين، لكن يبدو أن الوضع على ما هو عليه إلى الآن، إن لم يكن أسواً، وقال فيه مانديلا عبر مذكراته «للسجن وجهٌ ينبض بالحداثة والعصرية لكن داخله بدائي جداً». يُعتبر نيلسون روليهلاهلا مانديلا سياسياً ثورياً ومناهضاً لنظام الفصل العنصري في البلاد، انخرط في العام 1943 في المؤتمر الوطني الافريقي ثم أسس عصبة شبيبة فيه وانتُخب أميناً وطنياً لها بعد 5 سنوات، وفي 1952 شن حملة «التحدي» المتمثلة بالعصيان المدني ضد القوانين الجائرة في البلاد، لكنه لجأ إلى العمل السري بعد مذبحة شاربفيل 1960 التي اعتُقل فيها 18 ألف محتج ومُنع الحزب الوطني من العمل، وفي 1964 حُكم عليه بالسجن 5 سنوات ثم مؤبد وتم ترحيله من ريفونيا إلى جزيرة روبن ثم سجن «بولسمور» وبعده «فيكتور فيرستر». أُفرج عن مانديلا في 1990 بموجب مفاوضات بين الحزب والنظام الحاكم، ونال جائزة نوبل للسلام في 1993، ومارس عمله الوطني إلى أن انتُخب رئيساً للبلاد في 1994 ليكون أول أسود يرأسها، ولم يُجدد ولايته وتنحى في 1999، وتوفي في 2013.