لا أظنني بحاجة الى الكلام على أهمية الترجمة في تلاقح الثقافات، وفي تحريك الابداع، فالتاريخ مليء بالأمثلة. وأجدني ملزماً بالافصاح عن تجربتي في الترجمة التي امتدت زمناً يقارب العشرين عاماً. والواقع أن تجربتي ربما تختلف اختلافاً كبيراً عن تجارب بعض المترجمين الآخرين، ويكمن السبب في أنني كنت بلغت الخمسين من عمري عندما قررت السير في هذا الخط، وقد تعذر علي السير في خط آخر أعددت له العدة منذ زمن. وأنضجتني تجربة طويلة في التربية والادارة المدرسية، وتجربة أخرى عشت فيها اللغة الفرنسية خبيراً في علم النفس التربوي للمنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة اليونسكو. فعندما اقترحت علي وزارة الثقافة السورية أن أترجم الكتاب الأول بالنسبة إلي، كتاب "الايديولوجيات" للمؤلف فرناند دومون، عانيت كثيراً حتى أخرجته في حلته النهائية. بيد أن تجربتي الأولى كانت ناجحة جداً. وليس منشأ المعاناة في رأيي صعوبة الكتاب، ولم أترجم بعده كتاباً أصعب منه، بل تكمن المعاناة الكبيرة في أن نوظف قدراتنا النفسية، والمخزون من ذاكرتنا، وأسلوب الكتابة، في عمل هدفه أن يقدم إلينا أول الأمر، والى القارئ الحكم في ما بعد، نصاً في بنية ألسنية عربية يعبر بالدقة عن مضمون النص الأصلي في بنية ألسنية مختلفة. فالكلمة المنعزلة، في المنظور البنيوي، ليس لها معنى مطلق، والإعلام الذي تحتويه ذو علاقة وثيقة بشبكة العلاقات التي تقيمها مع الكلمات الأخرى. وهذا ما نعبر عنه حين نقول: الكلمة تفهم من السياق. والمشكل الكاذب الذي لا يزال بعضهم يطرحه يجد حله في هذا المنظور، مشكل مفاده: هل الترجمة حرفية أم أنها ليست حرفية؟ وتزداد صعوبة الترجمة الى العربية بما يطرأ على اللغات الأخرى من تطور في الأسلوب ينفر منه البيان العربي. وهذا التوظيف، توظيف قدراتنا النفسية والمخزون من ذاكرتنا وأسلوب الكتابة لدينا، هو الذي تطرأ عليه المرونة بقدر ما تتعاظم التجربة. ولكن نمو هذه القدرات، والمخزون، وأسلوب الكتابة، أمر يرتبط بمقدار ما نكتسب من ثقافة عامة من جهة، وثقافة اختصاصية من جهة ثانية، أي يرتبط بما نسميه أرضية الشخص الثقافية. ونحن نقتصر هنا على أن نلفت النظر الى أن هذه القدرات النفسية ومخزون الذاكرة هذا يختلفان من شخص الى آخر، وأن لكل شخص أسلوبه في الكتابة. وما يقال عن تقنيات الترجمة انما يدخل في هذا الباب من مرونة التوظيف. وليس المجال مناسباً لأدخل في تفصيلات هذه السيرورات النفسية من التوظيف في الترجمة. ولكنني لا أجد مفراً من أن أبدي ملاحظة أجدها ذات أهمية، ملاحظة مفادها ان الترجمة في سورية والأقطار العربية الأخرى، يسودها شيء من التشتت والمناسبة، على رغم المجهود الكبير الذي تبذله وزارة الثقافة بمخصصاتها الزهيدة، في السلاسل التي تصدرها. ووضعنا يقتضي أن نترجم أمهات الكتب والمجموعات الكاملة لكبار المؤلفين في المجالات المختلفة، لا سيما تلك المجموعات التي تشجع على اجراء البحوث. وأقول على سبيل المثال انني لا أزود القارئ بالزاد اللازم اذا اقتصرت على ترجمة كتاب أو أكثر من كتب جان بياجه، ففي المجموعة الكاملة انما تكمن نظريته وبحوثه. وإذا كانت دور النشر في البلدان المتقدمة تؤمن الحاجة، فإن مؤسسة الدولة ذات الاتجاهات الواضحة هي وحدها التي يمكنها أن تقوم بهذا العمل في بلادنا. ولنا في دار الحكمة أيام العباسيين مثال على ذلك، على رغم البعد الزمني الفاصل بيننا وبينهم. سئلت مرات كثيرة: لماذا لا تؤلف بدلاً من الترجمة؟ وكنت أجيب اجابتين مختلفتين اختلاف مستوى السائل: اعتقد اعتقاداً جازماً بأن التأليف في علم النفس أو التربية أو غيرهما من العلوم الانسانية الأخرى ينطلق من البحث، وأفضل للقارئ في رأيي ان نقدم إليه الأفكار مترجمة في نصوص أصحابها الأصلية من أن نقدمها تأليفاً، إلا إذا كان الهدف تعليمياً أو انطلاقاً من بحث. أو أجيب الاجابة الالتفافية تخلصاً من المأزق: هذا ما أفكر فيه مستقبلاً! أين نصنف عمل الترجمة؟ الترجمة عمل ثقافي، ذلك أمر لا ريب فيه. ولكن هل بوسعنا أن نصنفها في خانة الابداع؟ تلكم مقاربة سأحاول أن أطرحها بالايجاب علها تثير لدى المثقفين حواراً يغنيها. أذكر ان اتحاد الكتاب العرب رشحني مع زميل لي للمشاركة في مؤتمر الاتحاد العالمي للمترجمين المنعقد في بلغراد. ولا أذكر أي عام على وجه الضبط، ولكنني أظنه العام 1987 أو 1988. وكان المحور الرئيسي في جدول أعماله ما يلي: الترجمة عملية إبداع. وحالت ظروف قاهرة دون أن أشارك في المؤتمر ولم يشارك زميلي أيضاً. ولم أطلع مع الأسف على الدراسات والبحوث التي قدمت في هذا المؤتمر عن محور الابداع في الترجمة. ولكنني سأعتمد على نقطتين أساسيتين في هذه المقاربة: تعريف الابداعية، وقول لباسكال في كتابه "خواطر". 1- تعريف الابداعية: استعداد للخلق والاختراع وتحقيق الذات. وينطبق هذا المفهوم على الطفل الذي يلعب على شاطئ البحر، ومن يرتجل نغماً جديداً وهو يدندن بكلمة، أو على من يبتكر حكاية أو رسماً أو حلاً جديداً لمشكل. فثمة في قاعدة هذا التصرف، بأشكاله المختلفة، قدرة على تنظيم أو إعادة تنظيم العناصر في حقل الادراك، سواء كان الرمل أو الكلمات أو الأصوات أو المبادئ الرياضية. فالترجمة ليست نقلاً، ذلك ان النقل لا اضافة فيه. ان الترجمة هي تنظيم أو إعادة تنظيم حقل الادراك لنص في بنية ألسنية عناصرها ذات علاقات محددة في ما بينها، ولها قواعدها وقوانينها، أقول تنظيم هذا الحقل أو إعادة تنظيمه في نص من بنية ألسنية جديدة مختلفة عن البنية الأولى، لعناصرها أيضاً علاقات محددة في ما بينها، ولهذه البنية قواعدها وقوانينها. والابداع يتجلى في البنية الألسنية الجديدة. والاضافة الكبيرة هي الأسلوب الذي نعبر به عن هذا النص الجديد، سواء نظرنا الى الأسلوب من حيث أنه طريقة التعبير عن مضمون الكلام أو صيغته، أم نظرنا اليه بوصفه جزءاً لا يتجزأ من طبيعة النص الجديد نفسه. فالأسلوب هو الانسان نفسه، كما يقول عالم الطبيعة الفرنسي جورج لويس لوكليرك، كونت دو بوفون Conte de Buffon 1707 - 1788. 2- والحقيقة ان باسكال يتناول الموضوع نفسه من جانب آخر فيقدم صورة لاعبي كرة المضرب: فالطابة هي نفسها: ولكن أحد اللاعبين يقذفها قذفاً أفضل. يقول: "فليمتنع الناس عن قولهم انني لا أقول شيئاً جديداً: ان ترتيب المادة ترتيب جديد. فالطابة واحدة عندما يلعب لاعبان لعبة كرة المضرب، ولكن أحد اللاعبين يقذفها قذفاً أفضل من الآخر". ويبدو واضحاً أن الشكل الجديد المتميز، بدلاً من أن نقول الأفضل، الذي تعرض به الفكرة، هو محل الابداع في رأي باسكال. والترجمة تقدم للقارئ نصاً جديداً كل الجدة في بنية ألسنية مختلفة عن بنية النص الأصلي. ومن المعلوم ان الشاعر مبدع ولو ان الفكرة ليست فكرته، ذلك ان ابداعه يكمن في الصورة الجديدة التي يمنحها الفكرة لا الفكرة ذاتها. ام هل ينطبق على الشاعر ما لا ينطبق على غيره؟
مجموعتي في علم النفس لا تخلو من غرض. وهي لا تحمل الغرض بأثر رجعي. وفي طرحها وتسلسل طرحها قصدت غرضين: الأول منهما نصيحة سقراط معرفة النفس أو نقول في أيامنا هذه معرفة الذاتية تجنباً للمشكلات الميتافيزيائية التي تثيرها كلمة "نفس". والثاني التركيز على المنهج التحليلي في المعرفة. والغرضان متكاملان في الواقع: فالأول هو الهدف والثاني وسيلة تحقيق الهدف. ولكنني قصدت مع ذلك ان يكون منهج حياة للانسان، وللمثقف على وجه أخص. يقول أريك فروم في كتابه "أزمة التحليل النفسي" ترجمة محمود منقذ الهاشمي: "الخطر الأكبر على مستقبل الانسانية ناجم الى حد كبير عن عجزه عن ان يدرك الخاصة الوهمية الكامنة في الحس المشترك. وتظل غالبية الناس ثابتة على المقولات، وطرائق التفكير البالية وغير الواقعية. ان هذه الغالبية تعتبر حسها المشترك عقلاً". واذا القينا نظرة على تاريخ علم النفس. فإننا نرى انه مر بثلاث مراحل أساسية: 1 - المرحلة الأولى: ربط علم النفس مصيره بالفلسفة. وكان معروفاً انه فرع من فروعها. وكانت تربته الابيستيمولوجية تربة الميتافيزياء والانطولوجيا حيث ينصب البحث على وصف السلوكات الانسانية بمصطلحي الجوهر والملكات الفطرية المتعالية. فموضوع البحث هو الوصف والتصنيف. انطلاقاً من معرفة منهجية يتصور فيها علم النفس انه الشرح العقلاني للسلوكات الشعورية. وكان علم النفس، بوصفه لم يقطع الرباط السري مع الفلسفة، علماً قاصراً يترك أصالة الانسان تفلت منه لينجز معرفة مجردة. وهذا هو المنظور التصوري. 2 - المرحلة الثانية أو المنظور الثاني هو المنحة التي منحتها علوم الطبيعة علم النفس. ومضى هذا العلم. اذ شاء ان يتحرر من الفلسفة، ينضم في القرن التاسع عشر الى منظور حقله الابيستيمولوجي منحة العلوم التجريبية من النوع الفيزيائي أو الكيميائي أو البيولوجي. والانسان في هذا المنظور موضوع تجربة. والحوادث النفسية موضع تفكيك وجرد ووصف. ويحتل علم النفس مرتبة في ضروب اليقين الرياضي التجريبي. وكان هذا التيار العلمي مصدر ضروب عدة من التجريب والملاحظات أغنت علم النفس من دون شك. ولكن الانسان المدرك بوصفه في المنظورين السابقين، واقعاً ثنائياً، جسماً وروحاً، يضع علم النفس في وضع يتعذر عليه ان يدرك هذا الموجود الانساني في اصالته وحقيقته وكليته. 3 - ثم تأتي المرحلة الثالثة الحاسمة في علم النفس، مرحلة التحليل النفسي. واسمحوا لي ان أذكر ببعض المفهومات الأساسية في التحليل النفسي. مفهومات ليست موضع خلاف، ولا تثير انفعالات بعض الناس أو ارتكاساتهم، بل أصبحت مكتسباً من مكتسبات الانسانية، وأقصد مكونات الشخصية الانسانية. ومن المعلوم ان الجهاز النفسي يتكون من: الهو أو اللاشعور، والأنا، والأنا العليا. وباختصار أقول ان للهو أو اللاشعور رابطة بالجسم وينفذ اليه، ومحتوياته هي التعبير النفسي عن الدوافع. والأنا هي الراق الخارجي للهو. وليس لها وجود في البدء، بل هي نتيجة طبيعية من نتائج النمو. وذات علاقة وثيقة بالهو. انها المتوجهة الى الخارج وتخضع لمبدأ الواقع. وتتفحص وتراقب، ومنها ينطلق الكبت. وهي التي تحمي الشخصية وتملك عمليات لاشعورية جزئياً نسميها آليات الدفاع. ان الأنا هي منظومة الادراك الشعور. اما الأنا العليا، فإنها تمثل المجتمع، وتتيح التقاء القيم في مجتمع من المجتمعات. وأقول بعبارة واحدة انها قاضي الأنا ومراقبها. والحقيقة ان مرحلة التحليل النفسي لا تنفصل عن عنصر التنوير في أوروبا. فاكتشاف فرويد اللاشعور، مركز الدوافع، ووصف السيرورات اللاشعورية، وايضاح بنية الجهاز النفسي وعلاقة مكوناتها بعضها ببعض، كل ذلك لم يكن هدفه سوى ان يخضع فرويد اللاشعور وسيروراته وعلاقاته بالأنا والأنا العليا ولنور العقل: ففرويد في عمله وريث عصر التنوير. ومن الواضح ان فرويد أولى اللاشعور أو اللامعقول أهمية خاصة، وبيّن الدور الكبير الذي يؤديه في توجيه السلوك الواعي، كما أبرز دور النزاعات النفسية في نشوء الأمراض. وعلى رغم انه اخضع اللاشعور لنور العقل، فقد حل النزاع بين المعقول واللامعقول حلاً بالمؤالفة بين العقلانية والرومانسية تاركاً المجال واسعاً لنشوء الحضار. يقول اريك فروم في الكتاب الذي ذكرناه: "قد تكون القوة الابداعية لهذه المؤلفة سبباً من الأسباب التي تفسر لنا لماذا أصبح فكر فرويد ذا تأثير مهيمن في القرن العشرين". واذا كنت اقتصرت على ذكر فرويد، فالسبب ان فرويد مكتشف اللاشعور ، وسيد التحليل النفسي، وواضع أسسه وتعليماته ومبادئه. ومن الفرويدية انطلق التحليل النفسي سواء كان لدى مؤيدي فرويد المستقيمين أو الذين تجاوزوا بعضاً من نظرياته ام لدى معارضيه كيونغ في علم النفس التحليلي وأدلر في عقدة الدونية. ويبدو واضحاً ان المرحلة الثالثة، مرحلة التحليل النفسي، أغنت علم النفس لأنها التتمة التي لم يكن ثمة بد منها لعلم النفس، من جهة، ولأن التحليل النفسي، من جهتة ثانية، أفسح المجال واسعاً لعلم النفس ليفهم الانسان في كليته، فأصبح على هذا النحو علم الذاتية بدلاً من علم النفس. وما لم يكن سوى طريقة علاجية في البدء أصبح علماً، علم اللاشعور النفسي، الذي تجاوز مجالات الطب، وعلم النفس، والانتروبولوجيا، ليطبق على البيداغوجيا، والأدب، والفن، والميثولوجيا، الخ. يقول ادوار كلاياريد، الطبيب النفسي وعالم النفس وعالم التربية السويسري: "انه أي التحليل النفسي، بخصوبته، يكون حدثاً من الأحداث الأكثر أهمية، حدثاً لم يكن ثمة بد من ان يسجله تاريخ علوم الفكر في مرحلة من المراحل". تلكم باختصار شديد لمحة عن التحليل النفسي صرفت النظر فيها عما يسميه بعضهم أزمته الراهنة وعن الاتهامات التي توجه الىه، اذ اعتمدت على ما أصبح مكتسباً من مكتسبات الانسانية كما قلت. واسمحوا لي ان أضرب مثلاً يبين خصوبة التحليل النفسي في فهم ظاهرة من أكثر الظاهرات الاجتماعية اهمية، بل الظاهرة الأهم، مثالاً مستمداً من حقل التربية، أو من حقل نسميه التنشئة الاجتماعية: أي عملية التكيف والتكييف الاجتماعية. والحقيقة اني لا أنظر الى هذه الظاهرة من جانبها المدرسي فحسب، بل انظر اليها من جانب أعم، يشمل كل مؤسسات المجتمع القادرة على التأثير في هذه العملية. وواقع الأمر ان المجتمعات سعت منذ ظهورها في فجر التاريخ، ولا تزال تسعى، الى تكييف الفرد مع المجتمع، وسيلتها في ذلك ثقافتها. وتمثل في ذهني صورة ذات علاقة وثيقة بموضوعنا، مرحلة من مراحل "احتلال الحصن" في الألعاب الرياضية اليابانية عرضها التلفاز السوري مرات عدة وعرضتها محطات تلفزيونية أخرى: "الجسر الهزهاز" الذي يمر عليه المتسابق تحت وايل من القصف المدفعي بالطابات، قصف يهدف الى اسقاطه عن الجسر، ليقع في شبكة تحميه من الاصابة. فهذا الجسر يمثل مرحلة النمو لدى الانسان، بل مرحلة الحياة كلها إذا جاز القول. والقصف المدفعي هو هذه المحاولات التي يقوم بها المجتمع في تكييف السائر على جسر النمو، وسقوطه في الشبكة هو النجاح في عملية التكيف. وأولئك الذين يفلحون في المرور على الجسر من دون ان يسقطوا، وهم القلة القليلة، هم أصحاب الحظوة الذين يرفضون ان تصبح الثقافة لاشعوراً لهم وللمجتمع، وهم الذين يتيحون للثقافة ان تدخل هذا البطء في التكيف الذي أشار اليه بول ريكور في مقال عنوانه "الكلام مملكتي": "أقول بصورة مفارقة: لا تدخل كل ثقافة بطئاً في التكيف فحسب، ولكنها تدخل ايضاً عاملاً من عوامل عدم التكيف، وازالة الافتتان، وابطال السحر، عاملاً لولاه لما تمكن الانسان الحديث ان يستخدم خيرات الحضارة استخداماً صحيحاً". والواقع ان الثقافة العربية في تاريخها لم تدخل البطء في التكيف سوى مرة واحدة، حين ولدت شرارة الحضارة من الاتصال بثقافات الأمم الأخرى، وكان ذلك من حظ الفكر الغربي، الغافي في العصور الوسطى على لاشعوره، والغافل عنه. ويبدو واضحاً اذن ان المجتمعات مضت، باستخدام وسائلها لتكييف الأنا، في خط ذي حدين اقصيين: حد هدفه التماثل المطلق بين أفراد المجتمع، وحد تجري فيه عملية تكييف الانا بالنقد والحرية. وبين هذين الحدين الاقصيين درجات مختلفة باختلاف التطور الاجتماعي ومدى الافادة من علم النفس في ميادينه المختلفة. اين موقع المجتمع العربي الراهن في هذا الخط من عملية التكييف والتكيف؟ هل يترك مجالاً للاختلاف في الرأي ليتاح للثقافة ان تدخل بطئاً في التكيف او عدم التكيف، وتزيل الافتتان بها بوصفها الثقافة الأفضل، وتبطل سحرها لتفسح المجال للتطور الثقافي؟ لن أذهب مذهب الذين يتهمون الشخصية العربية بالعصاب المتمحور على عقدة نفسية، حين عدّدوا الخطاب العربي المعاصر على ديوان التحليل النفسي، عصاب يصيب الشخصية بخلل او اضطراب من طبيعة مرضية، ولكنني احلل واقعاً ربما كان أشد خطراً على مستقبل الشخصية العربية من عصاب، واقعاً مفاده ان المجتمع العربي يمضي في عملية التكييف والتكيف الى حد يجعل الأنا العليا طاغية لا يثير خوف الانا فحسب، بل يثير الرهاب، أي الخوف المرضي، وبأية وسيلة من الوسائل. والسائر في درب النمو والراشد يتعرضان لقصف يومي دائم بايديولوجيا ثقافة وتراث، لا بالثقافة والتراث، ايديولوجيا تنتج باستمرار، لمحاربة اختلاف الرأي، وسائل قمع تمضي من الاعتقال في أبسط الأحوال والاتهام بالردة، وما يترتب على هذا الاتهام، الى الاغتيال وذبح الناس بالجملة. وهل ثمة ظلامية أكثف ظلاماً؟ وهل ثمة اكثف ظلاماً من ان يغيب، وعن قصد، المنهج العقلاني من تراثنا؟ هذه الايديولوجيا، ايديولوجيا ثقافة وتراث، هي التي ينبغي للمثقفين ان يتصدوا لها، ويخضعوها الى نور المنهج التحليلي، نور العقل، ليتبينوا، ويبينوا للمجتمع، زيفها. انه صراع رهانه الأجيال الحالية والقادمة. ولست أدري كيف تحافظ على توازن قواها، في هذا الجو، أنا لا هم للأنا العليا سوى ان تلاحقها بمنخس الاثمية، ولا للايديولوجيا التي تدعمها سوى ان تسلط عليها سيف القمع؟ وليست أدري كيف ان الأنا يمكنها، في هذا الجو ان تنتج ثقافة! ألا يقتضي الحرية انتاج الثقافة؟ ألا ترون معي قيمة معرفة النفس او الذاتية؟ وأهمية المنهج التحليلي؟