بالنسبة إلى كثيرين أعادت أحداث المكسيك الأخيرة التذكير بأحداث ونزاعات اجتماعية حصلت في الماضي. ف "الأرض والحرية" و"الأرض والكتب"، شعاران رفعتهما الثورة القاسية والعنيفة، المدمرة والدامية، التي حصدت مليون قتيل، واندلعت في المكسيك، ضد نظام الديكتاتور الجنرال بورفيريو دياز 1876 - 1910، الذي استولى على الحكم بالقوة وكان يسعى الى تجديد رئاسته. ولم يستفد الفلاحون شيئاً في عهد الجنرال دياز الذي ساهمت سياسته في تطوير الوضع الاقتصادي في البلاد، نتيجة لتدفق رؤوس الاموال الاميركية" موّلت المشاريع الصناعية بألف ومئة مليون دولار، وامتدت شبكة سكك الحديد لتصل الى المرافئ، ولتربط المكسيك بجارها اليانكي عبر حدودها الشمالية - كان طول السكك يبلغ 700 كلم في 1876، فصار 25 ألفاً في 1911 - مما نشط حركة الصادرات التي ازدهرت بشكل واضح. في ظل الوضع الاقتصادي المستجد في المكسيك، كان التناقض واضحاً بين نظام الانتاج الصناعي الرأسمالي المتطور، وبين نظام الانتاج الزراعي المكبل بشروط سياسية - اجتماعية، كما جغرافية اثنية، والذي ازداد سوءاً في عهد بورفيريو دياز، الذي دفع اصحاب الاراضي التي تستغل جماعياً، الى بيع ممتلكاتهم، تحت ضغط الظروف الحياتية الصعبة، الى الملاكين الكبار. فكانت المزارع الكبرى الشاسعة، بيد ثمانماية او تسعماية شخص، بينما ظل الفلاحون في غالبيتهم الساحقة معدمين. واندلعت الثورة في المكسيك عام 1910 لأن المزارع الكبرى كانت تغطي 97 في المئة من مساحة الاراضي المزروعة، وتبلغ اربعة وعشرين مليون هكتار، بينما لم يكن الهندي يملك شيئاً، مرتهن العمر والكرامة. ولذلك جعلت المادة 27 من دستور عام 1917، ملكية الارض والمياه في يد الدولة، التي حاولت ان تحد من بؤس الطبقات المحرومة، وسعت الى ان يستفيد الفلاحون جماعياً من هبة الارض، التي يمكن ان يزرعوها ويستثمروا خيراتها، ولا يستطيعون بيعها او رهنها. إلا أن المادة 27 الاشتراكية الطابع، لم تحل مشكلة الفلاحين، ولم تساهم في تطور وضعهم الاقتصادي. لم يكن الهندي الفقير يستطيع ان يحصل على اعتمادات مصرفية، ولا يعرف كيف يدير شؤون ملكيته الصغيرة، اذ تنقصه الخبرة والتجهيزات، وهو لا يملك غير زوج من البقر. وتحت ضغط الملاكين الكبار، الذين كانوا يخسرون بعض اجزاء من مزارعهم، ومن جراء سوء نتائج التوزيع، توقف مشروع توزيع الاراضي حتى عام 1935، لما احياه الرئيس الجنرال لازارو كارديناس 1934 - 1940 الذي يعتبر خوان رولفو، الناقد الاول لنظامه في مجموعته القصصية اشتهرت بعنوان إحدى قصصها "السهل يحترق" - بالرغم من كل الوهج الذي أحاط اسمه في تاريخ المكسيك الحديث. في عهد لازارو كارديناس، يعود الاستقرار الى البلاد، بعد حروب اهلية طاحنة، وبعد ثلاث سنوات 1926 - 1929 وأكثر من الصراع العنيف بين الدولة والكنيسة التي كانت تمتلك مساحات شاسعة من الاراضي المزروعة، وتسيطر على الفلاحين الذن وقفوا الى جانبها ضد الدولة، هاتفين: كريستو هو الملك - كريستو هو اسم المسيح في اللغة الاسبانية - وساندوها في حرب الكريستيروس، التي عادت تستنزف البلاد، وخاصة الريف المكسيكي، بعد سنة من التهدئة. أسس كارديناس عام 1929، الحزب الوطني الثوري - صار اسمه بعد عشر سنوات حزب الثورة المكسيكية، وبالتالي الحزب الثوري التأسيسي - وسعى الى ان يتمثل في هذا الحزب الوحيد كل الوطن، فضمّ اليه القطاع الشعبي، الفلاحين والعمال، وكان اول من سعى الى حل كل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية في المكسيك. ويعتبر كارديناس ثائراً، ورائداً لفيديل كاسترو" كان مولعاً بالنفوذ الشخصي، ويريد ان يعرف بنفسه كل شيء، ويقوم بكل شيء. وكان شعبياً، يميل الى الاتصال المباشر بالمواطنين، ولذلك قضى نصف ولايته يزور البلاد، ليتعرف عن كثب الى واقعها، وقد تغيرت أموراً كثيرة في عهده، فقد أمم سكك الحديد، والبترول، لأنه كان ضامناً لصداقة روزفلت، ووزّع على الفلاحين سبعة عشر مليون هكتار من الاراضي في 1938. ظل كارديناس مثالاً يحتذى لكل الرؤساء الذين حكموا بعده، وتشبهوا به، وكانت اهدافهم الاولى تحقيق الازدهار الاقتصادي، والعدالة الاجتماعية. الا ان هذا الوهج الذي جعل ابصاراً كثيرة تشخص الى الرئيس، الذي التفّ حوله كثير من المثقفين، لم يمنع خوان رولفو - الكاتب خوزي ريفوليتاس ايضاً - من ان يكون الناقد الاول لنظامه، ويلتفت صوب فقراء السهول المحروقة، ليسلط الضوء على بؤسهم ووحدتهم، ومآسيهم الفردية - الجماعية، التي يعيشونها منذ قرون، منذ ايام الاقطاعية الاسبانية، ولم تستطع الثورة ضد دياز ان تخفف من ثقلها، وان سعت الى الحد من الملكية الخاصة، ولم يولها كارديناس اهتماماً. في مطلع الثلاثينات، كان الجنرال لازارو كارديناس مليونيراً، وبالتالي ظلت طبقة التجار واصحاب المصارف والاملاك المدينية قوية، لم تطل الثورة نفوذها وثرواتها، فتكامل معها الاثرياء الجدد الذين استفادوا من الثورة، وقوامهم جنرالات وسياسيون وموظفون: تضامن الفريقان للدفاع عن مصالح مشتركة في مواجهة الفقراء، ولمساندة النظام الذي صارت الكنيسة المهادنة من انصاره، وكانت الولاياتالمتحدة الاميركية من ضامني استمراريته. ويمكن ان نشير اضافة الى كل ذلك، فساد الايديولوجيات والبشر، وفقدان اللغة الثورية معناها وقوتها، ولم تعد الا كليشيهات في خطابات الحكومة، ولا علاقة لها بواقع الفقراء من أهل الريف. في مجموعته القصصية، يؤرخ خوان رولفو السيرة الذاتية لشعب، لشعوب، ويؤرخ للواقع التاريخي الحقيقي للمكسيك في مرحلة معينة، من خلال مونولوج ابطاله المهمشين، يروون حكايات بؤسهم وعزلتهم، ويطرحون من خلال عقدة القصة الشخصية، قضايا الجماعة الحياتية، ويسلطون الضوء على خلفيتها السياسية - الاجتماعية. تدور أحداث كل القصص في المناطق الريفية الفقيرة لمنطقة خاليسكو التي نشأ فيها الكاتب، يعاني فيها الفلاحون من قحط الارض وعقمها، ويزيد من حدة مشاكلهم، اهمال السلطات لهم. في "السهل يحترق" تبقى الارض الموحشة وانسانها، كما عالم الثورة الساقط، محور القصص كلها. لقد زادت معارك "الثوار" من مآسي الحياة الريفية، وملأت احشاء الارض بجراح بليغة كثيرة، وصار من المحزن الا يجد فيها البشر الذين اعطوها ذاتهم وعمرهم، رقعة يدفنون فيها، وظلوا في عهد كارديناس، كما في عهود سابقة، يعايشون الظلم والبؤس والقهر. في تلك السهول، يتهدد المرض الفقراء، فيموت المريض منهم في الطريق بين قريتي تالبا وزنزوتيلا، ويموت فيها الابرياء مجاناً، اذ يتفجر العنف والثأر بين ساكنها في غياب الدولة: ان "الرجل" الهارب في الجبال، اراد ان ينتقم لأخيه من قاتله، و لما لم يجده، قتل العائلة كلها: في بانوراما العنف والوحشة والموت تلك، لم يبق لشخصيات القصة غير الوحدة القاتلة، وامكانية الغاء الذاكرة، ليغرقوا في العدم. إن اقدار شخصيات "السهل يحترق" كلها مأسوية، يسلط رولفو من خلال حكايتها الضوء على التأخر الاجتماعي في الريف، حيث يعيش الفلاحون في ظروف صعبة وقاسية، بيوتهم زوايا عتمة ومقرفة ولا صحية، وهم بعيدون عن أبسط مظاهر الكرامة الانسانية. بطفولة يعرفنا "مكاريو" البائس على تفاصيل من عيشته اللاانسانية: انه لا يملك سريراً، وينام في زاوية غرفة، يندس في كيس، ثناياه مليئة بالصراصير والجداجد، وتزحف حوله العقارب. في تلك السهول الغارقة في صقيعها، التي يؤلم واقعها الكاتب، ويدفعه ليشهر بالظلم، يعيش استبان العجوز، في قصة "الغجر" بلا هدف وبلا أمل، يعيش حياة تخل في مواجهة طغيان سيده، وتفرح عائلة جرف طوفان النهر كل ما تملك، لان عجلاً وحيداً من حيواناتها القليلة، بقي على قيد الحياة، واضطرت نساؤها لبيع اجسادهن، كي لا يموت الجميع من الجوع. من خلال مونولوج شخصيات "السهل يحترق" يدين الكاتب سياسة حكومة كارديناس، التي افرغت العدالة الاجتماعية من مضمونها، ورفعت شعارات خادعة ومزيفة، تتعلق بالاصلاح الزراعي، والتربية الاشتراكية للثورة المكسيكية في الوقت الذي استمرت فيه تهمش وجود فلاحي الريف. إن الدعوة الى العدالة الاجتماعية لم تتجاوز الخطابات البليدة عن الاصلاح الزراعي: ان السبعة عشر مليون هكتار التي وزّعتها حكومة كارديناس على الفلاحين، تشبه في مساحات شاسعة منها "جلد البقر القاسي" سمته سهلاً، وهو لا يفيد الفلاحين في شيء، يقلب فيه الراوي الطرف، فلا يقع بصره على ظل شجرة، أو نبتة، فيؤرقه جفاف الارض، المليئة بالسواقي الجافة التي اعطوها له. والى تلك الارض العقيمة، التي زادت حرب "الكريستروس" من عزلتها، يرسل نظام كارديناس فرقاً من معلمين ريفيين، كرسل للتربية الاشتراكية، فيسقط ثلاثماية منهم ضحايا "الشجعان" او فصائل المدنيين المسلحين المناهضين لاشتراكية الدولة. ان صوت الراوي في قصة "لوفينا" - اسم قرية مليء بالحزن والخيبة، في حواره مع زميل آخر، توقف في القرية التي "نسيتها يد الله، واليد الابوية للدولة": "لقد انتهى الراوي "عجوزاً مليئاً بالخيبة، في القرية التي حمل اليها افكاره النبيلة، ورغبته العميقة ليقوم بدور ما يساهم في تقدّم وطنه. لم يجد في القرية الا البؤس، ومجموعة سكان ماتوا في الحياة، وما زالوا قادرين على ان يظهروا عدائية واضحة، لكل ما يمكن ان يأتيهم من طرف الدولة، دفعهم خداعها الى اليأس، فاعترفوا لانفسهم بأنهم لا يستطيعون شيئاً ضد المستحيل. في "السهل يحترق" ينقلنا خوان رولفو الى ريف المكسيك، في عهد كارديناس، فيوقع سيرة شعب - او سيرة شعوب - مستغل، يعيش اقداراً مأسوية في سهول جافة تحترق وتحرق انسانها، ولكنه بالرغم من كل ذلك، يترك مكاناً للأمل وسط الخراب والجفاف والموت، فالقمر يضيء تلك الاماكن البائسة الغارقة في الظلام، ويتيح للقارىء ان يتطلع يمكن ان يظهر النور، فموت بعض شخصياته يبشر بولادة حياة جديدة، في اطار مجتمع جديد، يتطلع إلى الحرية، إلى العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، ويمكن ان يصوغه سياسيون أقل أنانية، واكثر محبة للإنسان.