رئيس جنوب افريقيا أكثر شخصيات العالم شعبية في نهاية هذا القرن. تظن انك تعرفه وتقرأ سيرته مرات فتكتشف في كل مرة ما تجهله. الكتاب الذي صدر عن مسيرة نلسون مانديلا نحو الحرية جاب كل الانحاء، وكان الإقبال عليه قياسياً في كل مكان ولشهور طويلة. "رحلتي الطويلة من أجل الحرية" يصدر وشيكاً في ترجمته العربية عن دار "جمعية نشر اللغة العربية" في جنوب افريقيا. وأعد الترجمة عاشور الشامس. "الحياة" تنشر مقتطفات من هذه السيرة: شهد المؤتمر العام السنوي لحزب المؤتمر الافريقي في كانون الاول ديسمبر 1952 تغيراً كبيراً على مستوى القادة. واختار المؤتمر الزعيم القبيلي ألبرت لوتولي واصبحت، بصفتي رئيساً لفرع الحزب في ترانسفال، بناء على دستور الحزب واحداً من اربعة نواب للرئيس. ثم اختارتني اللجنة التنفيذية العامة للحزب النائب الاول للرئيس. التقيت بلوتولي في نهاية الاربعينات عندما كان عضواً في مجلس تمثيل السكان الاصليين، وفي ايلول سبتمبر 1952 اي قبل المؤتمر السنوي بشهور استدعت الحكومة لوتولي الى العاصمة بريتوريا واعطته انذاراً اخيراً فحواه: إما ان يتخلى عن عضويته في حزب المؤتمر الوطني الافريقي وعن مساندته لحملة التحدي وإما ان يُفصل من منصبه كزعيم قبيلي منتخب يتقاضى راتباً من الحكومة. رفض ان يستقيل من حزب المؤتمر الوطني فأقالته الحكومة من منصبه فأصدر بدوره بيان اعلان مبادئ بعنوان "الطريق الى الحرية يمر بالصليب" اكد فيه دعمه للمقاومة السلمية. وقفت الى جانب الزعيم لوتولي لكنني لم أتمكن من حضور المؤتمر القومي، اذ كنت واحداً بين 52 من زعماء الحركة من مختلف انحاء البلاد صدرت بحقهم قرارات حظر قبيل موعد المؤتمر بأيام ومُنعنا من حضور الاجتماعات واللقاءات لمدة ستة اشهر. وهكذا قُيّدت حركتي بموجب ذلك القرار داخل جوهانسبورغ كنت اثناء حملة التحدي اعيش حياة ذات شقين منفصلين: عملي في حركة النضال ووظيفتي التي هي مصدر رزقي. ولم أكن متفرغاً للعمل في حزب المؤتمر الوطني الافريقي الذي كان لديه موظف واحد رسمي وهو توماس تيتوس أنكوبي. ولذا كان لزاماً عليّ توزيع وقتي بين العمل الحزبي والمحاماة. لم تكن هناك مكاتب قانونية مملوكة لأفريقيين، لذلك تحريّت عن عدد من مكاتب البيض بعد نهاية خدمتي في مكتب سيديلسكي. كنت مهتماً بصورة خاصة بالرسوم التي تتقاضاها تلك المكاتب وفزعت لاكتشافي ان كثيراً من مكاتب المحاماة الراقية تفرض رسوماً على زبائنها الافريقيين في القضايا الجنائية والمدنية تفوق بكثير تلك التي تفرضها على زبائنها البيض الذين يفوقونهم بحبوحة وثراء. في آب اغسطس 1952 افتتحت مكتباً قانونياً خاصاً، ويعود الفضل في كل ما حققته من نجاح في المراحل الاولى الى سكرتيرتي زبيدة باتيل. تعرفت على زبيدة اثناء عملها في مكتب "أتش أم بازنر" بديلة لسكرتيرة تتحدث الأفريكانا اسمها الآنسة كوخ التي لم تقبل بأن أملي عليها وهي تكتب. وزبيدة هي زوجة صديقي قاسم باتيل عضو حزب المؤتمر الهندي ولم تكن تعرف التعصب العرقي او العنصري اطلاقاً. كان لها عدد كبير من الاصدقاء وكانت على علاقة طيبة مع كثيرين في الدوائر القضائية، وقبلت العمل معي عندما استقللت بمكتبي، وكان لها فضل كبير في جلب زبائن للمكتب. كان الافريقيون في حاجة ماسة الى مساندة القانون عند استخدام المباني الحكومية. كان الدخول من الباب المخصص للبيض جريمة، وكان ركوب الحافلة العامة الخاصة بالبيض جريمة، وكان الشرب من الحنفية المخصصة للبيض جريمة، وكان المشي على شط البحر المخصص للبيض جريمة، وكان الخروج الى الشوارع بعد الحادية عشر ليلاً جريمة، وكان عدم ملكية جواز مرور جريمة، ووجود توقيع غير صحيح في ذلك الجواز جريمة. وكانت البطالة جريمة والعمل في وظائف معينة جريمة. وكانت الإقامة في أماكن محددة جريمة والتشرد جريمة. اتضح لي خلال فترة قصيرة جداً ماذا يعني مكتب مانديلا وتامبو بالنسبة لعامة الافريقيين. انه المكان الوحيد الذي وجدوا فيه آذاناً صاغية لهمومهم وسنداً قوياً قادراً على مساعدتهم، حيث يستقبلون بالترحيب ولا يُستغَلون او يُخدَعون. انه المكان الذي بعث في أنفسهم شعوراً حقيقياً بالفخر لوجود رجال من جَلدتها قادرين على تمثيلهم أمام المحاكم والقضاء. كان ذلك هو الدافع الاساسي الذي شجعني أصلاً على اختيار مهمة المحاماة، وها هو عملي في المكتب يؤكد لي صواب ذلك الاختيار. كنا نبحث في ما لا يقل عن ست قضايا يومياً ونتردد على قاعات المحاكم بصفة مستمرة. كنا نعامل في بعض المحاكم بلطف واحترام وفي غيرها باحتقار وازدراء. اصبحت في جوهانسبورغ رجلاً حضرياً، أرتدي البذلات الأنيقة وأقود سيارة من طراز "أولدزموبيل" ضخمة، وأعرف الشوارع الخلفية للمدينة عن ظهر قلب، وكنت اقود سيارتي يومياً الى مكتبي في وسط المدينة. غير انني كنت في صميم قلبي كنت لا أزال ذلك الصبي القروي الذي لا يرفع من معنوياته شيء أكثر من السماء الزرقاء والحقول الفسيحة والعشب الاخضر. قررت عند انتهاء فترة الحظر المفروضة عليّ في ايلول من ذلك العام ان استغل فرصة الحرية للخروج من المدينة. قررت الترافع في قضية فليليرز بإقليم اورينج فري ستايت على بعد عدة ساعات بالسيارة من جوهانسبورغ. كان لإقليم اورينج فري ستايت دائماً فعل السحر في نفسي رغم اعتبار بعض العنصريين البيض العتاة ذلك الإقليم موطنه الخاص. كان ذلك الجزء من جنوب افريقيا بمناظره الطبيعية الرملية الخلابة وأشجاره وسمائه الصافية الزرقاء وحقول الذرة الصفراء اللون المنبسطة الى ابعد من حدّ البصر، تدخل السرور والبهجة الى قلبي مهما كان مزاجي النفسي. عندما اكون في اورنج فري ستايت احسّ انه لا يمكن ان يحاصرني أحداً وان افكاري قادرة على الانطلاق بلا حدود او قيود في آفاق الطبيعة من حولي. أدخلت رحلتي بالسيارة الى فليليرز الى نفسي بشكل كبير ودخلت قاعة المحكمة في ذلك اليوم الثالث من ايلول يغمرني شعور عارم بالثقة والأمان، اتضح فيما بعد انه كان أماناً وهمياً. وجدت فرقة من الشرطة في انتظاري ومن دون النطق بكلمة واحدة أبرزوا أمراً بموجب قانون مكافحة الشيوعية ينص على استقالتي من حزب المؤتمر الوطني الافريقي وتحديد إقامتي في جوهانسبورغ ومنعي من حضور الاجتماعات واللقاءات لمدة سنتين. انتهت فترة الحظر على نشاطي السياسي في مطلع ايلول 1955. كانت آخر اجازة أخذتها عام 1948 وأنا عضو غض من الوزن الخفيف في حزب المؤتمر الوطني الافريقي لم تتعد مسؤولياتي حضور اجتماعات اللجنة التنفيذية في ترانسفال والحديث في بعض الاجتماعات العامة. أما الآن فقد بلغت الثامنة والثلاثين من العمر واصبحت في المستوى الادنى من الوزن الثقيل في الحزب وزاد وزني مثلما زادت مسؤولياتي. وبقيت في جوهانسبورغ سنتين مشدوداً لمهنتي القضائية ونشاطي السياسي وقصّرت في حق أسرتي في ترانسكاي. كنت متشوقاً لزيارة الريف مرة اخرى والسير في تلك المروج الفسيحة والوديان المتدحرجة التي ارتبطت بأيام طفولتي. كنت استعد لرحلة لتقصي الحقائق وللاستمتاع في الوقت ذاته برؤية الريف واصدقائي ورفاقي القدامى. كنت معزولاً عما يجري من تطورات واحداث في بقية مناطق البلاد وكنت اتحرق لمعرفة ما يدور في الدواخل. اجل، كنت اقرأ عدداً من الصحف الصادرة في مناطق مختلفة من البلاد ولكن الصحف لا تعكس سوى صورة باهتة للواقع. وما تنشره الصحف من معلومات واخبار وتحاليل مهم جداً للمناضلين امثالي لا لأنه يكشف حقائق الامور ولكن لأنه يعرّي نزعات واتجاهات وميول وتصورات اصحاب تلك الصحف ومحرريها وقرائها في آن واحد. توقفت عدة مرات في ناتال للاجتماع سراً بقيادة حزب المؤتمر الوطني الافريقي، وتوقفت في بيتر ماريتزبيرغ بالقرب من ديربان لقضاء ليلة كاملة في صحبة الدكتور تشوتا موتالا وموسى مابهيدا وغيرهما استعرضنا خلالها الاوضاع السياسية في البلاد. انطلقت بعدها الى غروتسفيل حيث قضيت اليوم مع الزعيم لوتولي، الذي كان رغم خضوعه لحظر سياسي لأكثر من سنة على علم دقيق بنشاطات الحزب. كان قلقاً بشأن ما اعتبره نمواً في مركزية الحزب في جوهانسبورغ وتقليصاً لقوة الفروع في الاقاليم، لكنني اكدت له حرصنا على قوة الاقاليم وازدهار نشاطها. بعد عدة اشهر من الحرية تسلّمت في آذار مارس 1956 الامر الثالث بالحظر على نشاطي السياسي الذي حدد حركتي بداخل جوهانسبورغ لمدة خمس سنوات، ومنعني من حضور الاجتماعات واللقاءات خلال المدة نفسها. وتغيّر ردّ فعلي تغيّراً كاملاً تجاه قرارات الحظر. فعندما فرض عليّ الحظر اول مرة التزمت بكل شروطه ومتطلباته، اما الآن فلم أعد أعيره اي اهتمام بل صرت انظر الى الحظر بكل احتقار وازدراء. ولم اكن لأدع النشاط النضالي ومجال عملي السياسي يتحدد برغبة عدوي الذي أحاربه لأن ذلك نوع من الهزيمة وأنا آليت على نفسي الا اكون سجّاناً لنفسي. بعد الفجر بقليل من صباح 5 كانون الأول ديسمبر 1956 استيقظت على طرقات على باب منزلي. لم تكن من عادة الجيران أو الأصدقاء الدق على الباب بتلك الطريقة المتعجرفة، فأيقنت فوراً انها شرطة الأمن. ارتديت ملابسي بسرعة وفتحت الباب فوجدت أمامي روسو ضابط الأمن المعروف في المنطقة يرافقه اثنان من رجال الشرطة أبرز روسو اذن تفتيش ودخل ثلاثتهم البيت وشرعوا فوراً في تمشيطه بدقة بحثاً عن أوراق ووثائق يمكن استخدامها أدلة اثبات ضدي. استيقظ الأطفال مذعورين ولجؤوا اليّ بحثاً عن الطمأنينة وطلباً للحماية فأشرت عليهم بالتزام الصمت والهدوء. فتش رجال الشرطة الأدراج والخزانات والصناديق وكل ما يصلح لتخبئة أو اخفاء أي ممنوعات أو محظورات، وبعد نحو 45 دقيقة اتجه روسو اليّ وقال: "يا مانديلا، لدينا أمر بإلقاء القبض عليك. هيا بنا". تواصل الفحص التمهيدي على مدى سنة 1957 كلها. رفعت جلسات المحاكمة في 1957 وبدأ الدفاع النظر في الأدلة. وبعد ثلاثة أشهر ومن دون سابق انذار أو تفسير، أعلنت محكمة الجنايات اسقاط التهم الموجهة الى 61 متهماً معظمهم من الأعضاء العاديين في حزب المؤتمر الوطني الافريقي، وكان من بينهم الزعيم لوتولي وأوليفر تامبو. سعدنا لاطلاق سراح لوتولي وتامبو لكننا تحيرنا له أيضاً. بعد 13 شهراً من الفحص والعرض قرر القاضي ان هناك قدراً كافياً من الأدلة لتقديمنا للمحاكمة أمام المحكمة العليا في ترانسفال بتهمة الخيانة العظمى. رُفعت الجلسة في كانون الثاني وأحيل 95 متهماً الى محاكمة لم يعلن عن موعدها. قضينا ستة أشهر بعد انتهاء الفحص التحليلي للقضية في يناير نستعد للمحاكمة الرسمية التي ستبدأ في آب اغسطس 1958، شكلت الحكومة محكمة عليا خاصة برئاسة القاضي اف. ال. رومبف وعضوية القاضي كينيدي والقاضي لودورف لم يكن أي من أولئك القضاة البيض على صلة وثيقة بالحزب الحاكم بما يبعث على الثقة والأمل. فالقاضي رومبف رجل قدير يفوق في وعيه مستوى غالبية البيض في جنوب افريقيا ولكن أشيع عنه انه عضو في منظمة بروداربوند وهي جمعية سرية تهدف الى تعزيز قوة الأفريكان. اما القاضي لودورف والقاضي كينيدي فكل منهم عضو بارز في الحزب الوطني، واشتهر كينيدي بأنه من مؤيدي عقوبة الشنق اذ حكم على ثلاثة وعشرين افريقياً بالاعدم شنقاً في جريمة قتل اثنين من البيض. تجمع امام الكنيس اليهودي العتيق قبل ان يفتح أبوابه صباح 29 آذار مارس 1961 حشد كبير من الجمهور والصحافيين يتدافعون من اجل الدخول الى قاعة المحكمة للاستماع الى النطق بالحكم في قضية الخيانة العظمى. مئات لم يتمكنوا من الدخول، وكانت القاعة تغص بالحاضرين عندما دخلت هيئة المحكمة وافتتحت الجلسة. ضرب رئيس المحكمة بمطرقته على المنضدة فطلب الادعاء السماح له بتغيير التهمة. كان الوقت متأخراً جداً للتقدم بذلك الطلب الغريب فرفضته هيئة المحكمة وانطلقت همهمات الموافقة على ذلك من الجمهور. وقالت هيئة المحكمة ان الادعاء لم يقدم أدلة كافية على ان الحزب منظمة شيوعية أو ان في ميثاق الحرية تصوراً لدولة شيوعية. وأضاف القاضي رومبف بعد أربعين دقيقة من الحديث قوله: "وعليه فقد حكمت المحكمة ببراءة المتهمين وهم أحرار طلقاء". لم أعد الى البيت بعد صدور الحكم. عاش بقية زملائي في جو من الفرح والابتهاج بينما كنت على يقين بأن السلطات تعد العدة للضرب في أي لحظة، ولم أكن أرغب في تسهيل مهمتها. كنت حريصاً على الاختفاء قبل ان يصدر قرار بحظر نشاطي من جديد فبت ليلتي تلك في مخبأ في جوهانسبيرغ حيث قضيت ليلة قلقة في سرير غريب. كلما سمعت صوت سيارة حسبت انها الشرطة جاءت لاعتقالي. أقمت خلال الشهور الأولى من اختفائي عدة أسابيع مع أسرة في ماركت ستريت ثم أقمت في شقة من غرفة نوم واحدة مع وولفي كوديش في بيريا وهي ضاحية هادئة مخصصة للبيض الى الشمال من وسط جوهانسبيرغ. أحسست بالأمان في بيريا. لم أكن أخرج من الشقة نظراً الى انها منطقة للبيض لم تكن الشرطة لتبحث عني فيها. في النهار أنصرف الى القراءة، وكنت أضع حليباً على عتبة النافذة ليختمر في حرارة الشمس. كنت مغرماً بالحليب الرائب الذي يسميه الكوسا أماسي ويعتبرونه من أكثر الأطعمة صحة وفائدة للجسم. كانت المحطة التالية مزرعة ليليزليف وانتقلت اليها في تشرين الأول اكتوبر. تقع المزرعة في ضاحية ريفونيا الرعوية شمال جوهانسبيرغ، وكانت أشبه ما تكون بدير رهبان. تتكون ريفونيا في غالبها من مزارع، ومقسمة الى قطع صغيرة من الأراضي المستأجرة. انتقلت الى ذلك البيت بصفتي القيم على رعايته ريثما يصل سيدي الذي يملكه ليتسلمه، وانتحلت اسم ديفيد موتساماي هو اسم أحد زبائني القدامى في مكتب المحاماة. انطلقت في الليلة التالية من ريفونيا بصحبة سيسل منتحلاً شخصية سائقه الخاص. خططت لعقد سلسلة من الاجتماعات السرية في ديربان. كان أولها مع مونتغومري نايكر واسماعيل مير لأعطيهما فكرة عامة عن نتائج رحلتي واتدارس معهما المقترح الجديد. كنت أرتدي معطفي الأبيض الخاص بسائقي السيارات، وكنا نتبادل قيادة السيارة. الجو صافياً بارداً باعتدال فسرحت مع جمال الطبيعة في ناتال التي تظل خضراء حتى في أيام الشتاء. سأجد الوقت للقاء ويني والأطفال. وكم كنت أتمنى لو شاركتني ويني الاستمتاع بجمال افريقيا ولم يكن بإمكاني الا ان أحكي لها ما فعلت وما شاهدت. توقفت السيارة واقترب منا رجل طويل نحيل متجهم الوجه اتجه الى نافذة الراكب الأمامي مباشرة. لم يكن حالقاً ذقنه وبدا كأنه لم ينم لفترة طويلة، واستنتجت انه كان في انتظارنا منذ عدة أيام. عرفني بنفسه في صوت هادئ قائلاً انه الضابط فورستر من شرطة بيترماريتسبيرغ وأبرز أمر اعتقال. سأل عن اسمي فقلت ديفيد موتساماي فهز رأسه ثم سألني بأدب عدة أسئلة عن أين كنت والى اين انا ذاهب. حاولت تفادي الاجابات من دون ان اعطيه معلومات مفيدة فاعتلى وجهه الغضب وقال: "آخ! انت نلسون مانديلا وهذا سيسل ويليامز، وهذا أمر بالقاء القبض عليكما". عقدت الجلسة الأولى للمحكمة يوم الاثنين 15 تشرين الأول اكتوبر 1962، وشكل الحزب لجنة شعارها "اطلقوا سراح مانديلا" كما بدأ حملة نشطة لهذا الغرض. نظمت الاحتجاجات في جميع انحاء البلاد وظهر ذلك الشعار مكتوباً على جدران المباني. ردت الحكومة بمنع كل التجمعات الخاصة بقضيتي ولكن الحركة تجاهلت المنع وواصلت الحملة. واستؤنفت المحاكمة بعد أسبوع وسمح لي بمخاطبة المحكمة قبل المرافعة. ما ان انتهيت حتى أمر القاضي برفع الجلسة لمدة عشر دقائق لاعداد النطق بالحكم، وقبل مغادرة القاعة القيت بنظرة نحو الجمهور. لم يساورني أدنى شك حول العقوبة التي سألقاها. بعد عشر دقائق تماماً وفي جو مشحون بلغ التوتر فيه قمته أعلن القاضي الحكم الآتي: ثلاث سنوات سجن لتحريض الناس على الاضراب وسنتان سجن لمغادرة البلاد من دون جواز سفر، أي مجموع العقوبة خمس سنوات سجن من دون عفو. كانت العقوبة قاسية فارتفعت الأصوات بالعويل في القاعة. رفعت الجلسة فقمت واتجهت نحو الجمهور رافعاً قبضتي بالتحية المعهودة قائلاً "اماندلا" ثلاث مرات، وانطلقت الجماهير من تلقاء نفسها تردد ذلك النشيد الوطني الافريقي: "اللهم احفظ افريقيا".