تراجع الاهتمام الدولي والاقليمي بأوضاع الصومال بعد انسحاب قوات هيئة الأممالمتحدة منه عام 1994، إلا أن التراجع لم يضع حداً للمحاولات الرامية الى ايجاد حل شامل ونهائي للمأساة الصومالية. ذلك أنه هناك أسباب كثيرة انسانية واستراتيجية تستحث الفاعلين الدوليين والاقليميين على تكرار هذه المحاولات. فمن الناحية الانسانية من الصعب ان تتجاهل هذه القيادات ما سببته وتسببه الصراعات الصومالية المسلحة من مآس. لقد دمرت الحرب الاقتصاد الصومالي، وأودت بحياة ما يقارب 300 ألف طفل وأجبرت حوالى مليون ونصف صومالي، أي ربع عدد السكان تقريباً على الهجرة الى الخارج. من الناحية الاستراتيجية فإن تجربة افغانستان اثبتت أنه من الممكن بسهولة اقلمة مثل هذه الصراعات سواء من حيث انتقال عدوى العنف الى البلدان المجاورة بل حتى البعيدة نسبياً مثل الجزائر، أو من حيث انتشار تداعياته الاقتصادية والاجتماعية على مساحة تتجاوز بكثير الأراضي التي يبدأ فيها الاقتتال. وتكفي هنا الاشارة الى المصاعب التي تعانيها الدول المجاورة عندما تضطر الى استقبال عشرات بل مئات الألوف من يهرعون اليها هرباً من الاقتتال وبحثاً عن لقمة العيش. من هنا كان الترحيب الذي أبدته أوساط كثيرة ودولية هيئة الأممالمتحدة، منظمة الوحدة الافريقية الخ... وعربية جامعة الدول العربية بالاتفاق الذي وقعه كل من الزعيمين الصوماليين علي مهدي محمد وحسين محمد عيديد بصدد انهاء الاقتتال واعادة بناء الدولة الصومالية. ولهذا كانت الاشادة بالديبلوماسية المصرية التي تمكنت من جمع الزعيمين وتذليل العقبات التي حالت دون اتفاقهما. إلا أنه جنباً الى جنب مع ردود الفعل الايجابية هذه أبدى البعض خشيته من أن يكون مصير هذا الاتفاق شبيهاً بالاتفاقات السابقة التي لم تستمر طويلاً ولم تنتج سلاماً صومالياً حقيقياً. ارتكزت هذه المخاوف الى بعض التحديات والعقبات التي يتوقع ان تعترض طريق مؤتمر السلام المقرر عقده في بلدة بيداوة الصومالية في شهر شباط فبراير المقبل. وربما كان أبرز هذه التحديات هو ردود الفعل المحلية السلبية التي صدرت عن كل من الزعماء الصوماليين عبدالله يوسف وآدن عبدالله نور ومحمد ابراهيم عقال، الذي يتزعم شمال الصومال، اذ اعلنوا معارضتهم اتفاق القاهرة. ان هذه المواقف تهدد بتحويل الاتفاق، في حال تنفيذه، الى ترتيب يشمل منطقة الوسط فقط. ولكن هناك خوف ان يطل الخلاف برأسه حتى بين طرفي اتفاق القاهرة نفسه عندما يأتي الأمر الى اختيار رئيس للكيان الصومالي الجديد. ولئن كان مهندسو الاتفاق يأملون في حل هذه الاشكالات عبر الآليات الديموقراطية، فإنه ينبغي الأخذ في الاعتبار ان الممارسة الديموقراطية في الصومال لم تعمر أكثر من سنوات قليلة. فبعد أن أعلن الاستقلال عام 1960، جرت الانتخابات العامة على أساس التعددية السياسية مرتين فقط، واحدة عام 1964 والثانية عام 1969 لكي يتلوها انقلاب عسكري اطاح بالنظام الديموقراطي البرلماني. وبسبب قلة التمرس بالتجربة الديموقراطية، فإنه يخشى أن يعود الزعماء الصوماليون بسهولة الى الاحتكام الى السلاح في لعبة الصراع على السلطة. وتتغذى هذه المخاوف أيضاً من ردود فعل اقليمية ودولية، فالحكومة الاثيوبية اتخذت موقفاً سلبياً من الاتفاق فور اعلانه اذ اعتبرت أنه سوف يهدد السلام في الصومال بدلاً من أن يقود اليه لأنه لم يحظ باجماع القبائل الصومالية. ولهذا الموقف أهمية نابعة من الجوار الجغرافي بين الصومال واثيوبيا، فإذا أرادت اديس أبابا عرقلة الاتفاق فانها تستطيع ان تفعل ذلك عن طريق تشجيع معارضي مؤتمر بيداوة على الاستمرار في موقفهم، وعلى تقديم المساعدات لهما لكي يقاوموا، بالقوة، مساعي السلام. كذلك تنبغي الاشارة هنا الى ردة الفعل الأميركية المتحفظة تجاه اتفاق القاهرة، وهي ردة فعل تتأثر بالمصالح الاستراتيجية المشتركة مع اسرائيل. ذلك ان اسرائيل تتطلع، في سياق خطتها الى ايجاد قواعد نفوذ لها في حوض البحر الأحمر، الى بناء علاقات وثيقة مع "جمهورية أرض الصومال" في الشمال شبيهة بتلك التي اقامتها مع اريتريا. ومن الأرجح ان تجد في مؤتمر سلام صومالي ترعاه القاهرة ما يتنافى ويتعارض مع هذه السياسة. ثم ان واشنطن وتل أبيب لا يرحبان بتعزيز دور مصر الاقليمي حتى ولو لم يؤثر ذلك على مشاريع اسرائيل المباشرة، إذ أن القاهرة قد توظف مثل هذا الدور مستقبلاً في مجالات أخرى فيها تنافس مباشر مع الاسرائيليين الذين "تمتد مصالحهم الاستراتيجية الى جنوب افريقيا" كما قال وزير البنية التحتية الاسرائيلي ارييل شارون عام 1982. مقابل هذه العوامل التي تثير التخوف من تكرار مشاهد السلام المؤقت في الصومال، فإنه هناك بعض العوامل التي توفر لاتفاق القاهرة فرصة للنجاح أكثر من المحاولات السابقة. ففي السابق كانت هناك دولة صومالية يتنافس الزعماء الأقوياء على الامساك بمقاليدها، اما الآن فقد تهدمت الدولة على نحو يجعل الصراع على السيطرة عليها أمراً عبثياً بسبب كلفته العالية في المال والأرواح وضآلة مردوده. في نفس الوقت، فانه تمكن الاشارة الى روح التعب من الحرب التي انتشرت بين الصوماليين والتي تعبر عن نفسها في تحركات شعبية واسعة كلما توقف القتال، بأمل تحسين أوضاعها العامة. يشير تقرير البنك الدولي لعام 1997، بصورة غير مباشرة، الى واحدة من هذه الفئات الاجتماعية عندما يتحدث عن نمو السوق غير الرسمي في المدن الصومالية. فهنا نجد فئة من التجار ورجال الأعمال الصوماليين التي ازدهرت رغم غياب الدولة أو ربما بسبب غياب الدولة الاستبدادية التي كانت تحتكر كافة مرافق الاقتصاد. وعلى رغم ان هذه الفئة تتكئ على رجال القبائل والعشائر المسلحين لتأمين الحماية لها، ورغم انها ولدت أو نمت في كنف الصراعات الصومالية المسلحة، إلا أنها في نهاية المطاف تحقق فوائد أكبر في ظروف السلام من تلك الفوائد التي تحققها في ظروف الحرب. ان هذه الفئة كانت مقصية ومحاربة خلال فترة محمد سياد بري، فعندما سئل عام 1980 عن سبب اطاحته بالنظام البرلماني، أجاب قائلاً: عام 1974، عندما أصاب الجفاف والقحط الصومال عمدنا الى تعبئة كل فرد واستخدمنا كل آلة في البلاد من أجل التغلب على المجاعة، فهل كان باستطاعتنا نفعل نفس الشيء لو كان بضعة تجار يحكمون البلاد؟ ان هذه الفئة لم تكن تحكم البلاد خلال الستينات ولا هي مرشحة لحكم البلاد اذا طبق اتفاق القاهرة، ولكنه كواحدة من الفئات الاجتماعية النامية تفيد من السلام ومن ثم فانها جديرة بأن تكون ظهيراً للاتفاق. الى جانب هذه الفئة، فإنه يمكن للصوماليين المهاجرين ان يلعبوا دوراً مماثلاً في توفير الجو الملائم للسلام. البعض منهم يضطلع بدور معاكس تماماً، أي يسعى، خلال وجوده في عالم الاغتراب، الى توفير وسائل استمرار القتال والى شحذ الصراعات الدائرة في البلاد واثارة العراقيل أمام مساعي السلام، إلا أن عدداً أكبر من الصوماليين المغتربين، وخاصة من المثقفين بينهم، يتطلع الى حلول السلام والى اعادة بناء الدولة الصومالية. وهناك بعض المساعي الرامية الى تجميع هؤلاء والى عقد مؤتمر لهم لكي يتمكنوا من الاضطلاع بدور أكبر في انهاء الحرب وإعمار البلاد. ولقد انعقدت بعض الاجتماعات لهذا الغرض في مدينة اوكسفورد في بريطانيا ضمت مثقفين صوماليين من مختلف المناطق والجماعات القبلية وتميزت برغبة ملموسة في مساندة جهود السلام. فإذا توفرت لهذه المبادرات رعاية أكبر ومساندة أوسع خاصة من الدول العربية فانها تستطيع ان تشكل ظهيراً فاعلاً لمساعي السلام، وللمبادرة الأخيرة على وجه التحديد. الى جانب نمو القوى المحلية الصومالية التي لها مصلحة في تحقيق السلام، فإنه لا بد من الاشارة ايضاً الى أن مصر اليوم هي أكثر قدرة من الماضي على الاضطلاع برعاية مبادرة سلام صومالية. فعندما حاولت القاهرة رعاية مبادرة مماثلة في نهاية عام 1990، كان الجو العربي منقسماً، اما اليوم فإن الانقسامات العربية تبدو أقل حدة من السابق، ولهذا المتغير ان يؤثر على مبادرة القاهرةالصومالي في مجال توفير الدعم الملموس للصوماليين على نحو يغلب قوى السلام بينهم على قوى الحرب، ويغري المتقاتلين بينهم على التخلي عن لغة الحرب والعنف. ولعل من أهم مظاهر التغير في العلاقات العربية - العربية من زاوية التأثير على الأوضاع الصومالية هو ما نشهده من تحسن في العلاقات بين القاهرة والخرطوم، فإذا أمكن تطبيع العلاقات بين البلدين وإذا تمكنا من الاتفاق على السلام الصومالي ومن ثم على كسب تأييد اديس أبابا له يزداد حظ اتفاق القاهرة في النجاح. وإذا نجح اتفاق القاهرة يحصد ثماره الصوماليون الذين انهكتهم الحرب، والمصريون الذين سوف تتوطد مكانة بلادهم الاقليمية والدولية، والعرب والأفارقة الذين يتحملون بعض المسؤولية المعنوية عن استمرار المأساة الصومالية ما دام الصومال عضواً في الأسرتين العربية والافريقية، وما دامت الأسرة معنية بمصير أفرادها وأعضائها.