هل توشك "نافذة العبور" نحو السلام بين العرب واسرائيل على الانغلاق؟ ذكر المعلق الاسرائيلي النافذ رون بن يشاي في مقالة نشرتها صحيفة "يديوت احرونوت" الشهر الماضي أن "وزير الدفاع ورئيس الأركان وقادة اجهزة الاستخبارات على اقتناع تام الآن" بأن الفرصة على وشك التلاشي. وقال ان هؤلاء يعتبرون ان "النافذة" لم توصد بعد بل هي مواربة "لكن اذا لم يحصل تطور دراماتيكي خلال سنة أو سنة ونصف فهي ستوصد تماماً ويكون على اسرائيل ان تواجه تشكيلة جديدة من التهديدات لوجودها". هناك طرق عدة لتناول هذا المقطع من مقالة بن يشاي المثيرة للاهتمام، أولها ان نلاحظ الأشخاص الذين لم تضمهم قائمة المسؤولين الذين يعتقدون ان الفرصة على وشك الضياع، أهمهم رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو. لكن هناك أيضاً وزير الخارجية وقتذاك ديفيد ليفي، وأرييل شارون وغيرهما. أعتقد ان في امكاننا ان نفترض ان بن يشاي كان سيذكر هؤلاء بالاسم لو كانوا ممن يعتقدون ان فرصة السلام فاتت عدا ديفيد ليفي الذي لا يبدو ان المحللين الاسرائيليين كانوا يعيرونه الكثير من الاهتمام. لكن ماذا عن نتانياهو والبقية؟ هل لنا افتراض انهم تفحصوا الوضع الديبلوماسي بين اسرائيل وجيرانها واستنتجوا أن الفرصة لا تزال متاحة؟ أم هل ان ثقتهم بقدرات اسرائيل العسكرية من القوة بحيث لا يهمهم ان كانت هناك أصلاً فرصة للسلام، أو اذا كانت على وشك الزوال، أو حتى اذا ما كانت هناك عملية سلام؟ لقادة الأجهزة العسكرية بالطبع مصلحة مباشرة في تقديم ذلك النوع من التوقعات المخيفة، الذي يؤدي الى زيادة الانفاق العسكري يقدم بن يشاي في مقالته قائمة طويلة بالمعدات العسكرية المتطورة التي يؤكد القادة انها مطلوبة "بشكل ملح". لكن هل يعني هذا امكان الاهمال التام لآراء القادة العسكريين في ميزان القوى في المنطقة؟ لا أعتقد ذلك، لأن للآراء التي تعمّد العسكريون "تسريبها" الى بن يشاي تأثيراً مباشراً على بلايين الدولارات المخصصة للانفاق العسكري وعلى الاستعدادات العسكرية الفعلية التي تستمر اسرائيل في اتخاذها ازاء كل السيناريوات الممكنة. وكما هي الحال دوما فإن لهذه الاستعدادات دورها في ادخال عناصر من عدم الاستقرار على الوضع الديبلوماسي الهش أصلاً في المنطقة. يقول المعلق الاسرائيلي مستنداً الى علاقاته الممتازة بالدوائر العسكرية أن هناك تهديدين "وجوديين" "يمكن ان يتحولا الى خطر فعلي خلال سنتين او ثلاث". الأول، "قيام تحالف حربي معاد لاسرائيل من سورية والفلسطينيين ومصر وايران والعراق، مع احتمال انضمام الأردن". والثاني، "الاسلحة غير التقليدية والصواريخ لدى ايران والعراق وسورية". هذا النوع من التحذير الغائم من حرب مقبلة يختلف عن التحذيرات المحددة والآنية التي تمكن مخبر موساد اليميني المتشدد يهودا غيل من اقناع رؤسائه بها، ولسنين طويلة، عن نيات سورية. والملاحظ في اسرائيل، كما في الدول الاخرى التي خاضت صراعاً عسكرياً فعلياً، ان تقديرات العسكريين للأوضاع اكثر واقعية واقل تهويلاً من تلك التي تضعها الأجهزة التي لا علاقة مباشرة لها بالقوات المقاتلة. ذلك ان الحرب تؤثر في شكل مباشر على العسكريين افراداً وهيئات عن طريق الخسائر البشرية من الجنود ورفاق السلاح، ومن هنا فهم لا يأخذون الحرب بالاستسهال نفسه الذي يسم تناول الهيئات غير العسكرية لها. من هنا فإن تفاصيل "التهديدات" لاسرائيل كما يشير اليها بن يشاي تعكس على الأرجح، الى هذا الحد أو ذاك، تفكير قادة اسرائيل العسكريين. وما يثير الاهتمام في شكل خاص قائمة اعضاء "التحالف الحربي" الممكن ضد اسرائيل، ولنا ان نلاحظ ان تمكن الاطراف الستة هذه من التعاون في المستقبل المنظور أمر يصعب على التصديق الا في حال عودة صلاح الدين الأيوبي!. والواقع أن هذه الأطراف لو عملت خلال السنين العشرين الأخيرة بقدر مهما كان ضئيلاً من التضامن لما كنا ازاء الوضع الذي نراه اليوم. مع ذلك فإن المعلق الاسرائيلي يطمئن القراء الى أن اصدقاء اسرائيل في الادارة الأميركية يواصلون بذل كل جهدهم لضمان استمرار العمل بسياسة "فرق تسد" تجاه الجيران العرب. ويكتب ان "الولاياتالمتحدة ترى ان الفلسطينيين هم مفتاح الترتيب الضروري لتأمين الوجود الاسرائيلي. ويعتبرون ان التوصل الى ترتيب مع السوريين ليس ضرورياً للقبول العربي بوجود اسرائيل مثل الاتفاق مع الفلسطينيين". ويكشف ان هذا "هو السبب في اصرار واشنطن على ان اعادة الانتشار في الضفة الغربية يجب ان تكون بحجم 12 في المئة على الأقل" من المساحة. الى هذا الحد، اذن، وصل تراجع الولاياتالمتحدة، تلك القوة العظمى، عن الشرعية الدولية! فالقضية لم تعد تدور على القرار 242 ومبدأ عدم الاستيلاء على الأراضي بالقوة. كلا، اننا نجد بدل ذلك بحثاً ميكافيلياً عن الحلول الآنية السريعة المدعومة دوماً بالتفوق العسكري الاسرائيلي الساحق، التي تنزلق مباشرة بعد ذلك الى الرأي الميكافيلي القائل بامكان وضع مطالبة سورية المشروعة بالجولان موضع الاهمال التام فيما يجري اقناع الفلسطينيين بما يشبه ال"بانتوستان" في قسم ضئيل من أراضيهم. وحتى هذه الخطوة الأخيرة فهي لا تقدم بناء على موقف مبدئي وعلى أي مبدأ يمكن ارساء فكرة البانتوستان؟ بل لأجل مواجهة بروز تضامن بين العرب ومنعه. "فرق تسد" هو بالطبع تكتيك قديم للسيطرة على البشر. وأتذكر هنا المؤلف الفرنسي جيرار شاليان في وصفه للكيفية التي تمكن بها الفاتح الاسباني هيرناندو كورتيز في القرن السادس عشر، بجيشه الذي لم يتجاوز 600 مقاتل، من الاستيلاء على المكسيك وكل ما فيها من حضارات ومؤسسات وثروات. وكان عدد سكان تينوتشتيتلان عاصمة الأزتيك القريبة من مكسيكو سيتي الحالية نحو 300 ألف نسمة، أي أربعة أضعاف سكان باريس. يعود انتصار كورتيز في جزء منه الى تفوق الاسبان تكنولوجيا من حيث السلاح والاتصالات، وأيضاً الى وباء الجدري، الوباء الأوروبي الذي انتشر بسرعة بين السكان الأصليين المفتقرين الى المناعة ضده. لكن العنصر الرئيسي في الانتصار كان الخداع وسياسة "فرق تسد" وغيرها من اسلحة الخبث الديبلوماسي. من الأمثلة على ذلك انه أبلغ السكان عن طريق رسله انه جاء لينقذهم من تسلط ملكهم مونتيكزوما، فيما اكد للملك انه جاء لانقاذه من ثورة كان شعبه يتهيأ للقيام بها. وأدعى للأزتيك انه جاء ليساعدهم ضد جيرانهم، فيما قال للجيران انه سينقذهم من الأزتيك وهكذا. ووسط اجواء الخوف والقلق التي اثارتها هذه الأساليب تمكن كورتيز ورجاله بسهولة من التقدم الى تينوتشتيتلان والاستيلاء عليها. وسار بعد ذلك مستعملاً الاساليب نفسها الى بنما وبيرو والاف الأميال نزولاً على الساحل الغربي لأميركا اللاتينية، ليضع القارة كلها بالتالي تحت السيطرة الأوروبية. ومن هو الآن الذي عليه ان يتعلم قيمة هذه الدروس القديمة قدم التاريخ - والخطيرة أيضا اذا نظرنا اليها من زاوية اخرى - عن "فرق تسد"؟ بالنسبة الى الأميركيين، حسبما يوضح بن يشاي، فإن الشخص الذي يحتاج التذكير بأهمية استعمال هذا النوع من التفكير السياسي - الديبلوماسي "الذكي" هو نتانياهو. لكن المرء يتساءل ايضاً اذا كان ضحايا هذه السياسة سيلتقون يوما لكي يتعلموا دروس التاريخ من جديد.