لم تنتظر وسائل الإعلام الإسرائيلية الإعلان الرسمي عن إخماد الحريق الذي التهم غابات جبل الكرمل المطلة على مدينة حيفا الساحلية، ولا انتظرت دفن 41 شخصاً، جلّهم من السجانين بالإضافة إلى ضابطين كبيرين في الشرطة، لتشرع في توجيه انتقادات عنيفة إلى أركان الدولة على عجز مؤسساتها على إخماد الحريق والمطالبة بأن يدفع المسؤولون عن «التقصير» الثمن الباهظ الذي جبته الحرائق في البشر والحجر والشجر. وشحذ كبار المعلقين أقلامهم وألسنتهم ليعكسوا الشعور العام السائد في أوساط الإسرائيليين بالعجز التام عن مواجهة حريق كان مفروضاً إخماده بسرعة لو توافرت طائرات ومواد خاصة لإخماد حرائق. واتفق المعلقون على أن «الجبهة الداخلية» تبقى موطن الضعف الرئيس في الدولة العبرية، واستذكروا ما تعرضت له خلال الحرب الأخيرة على لبنان وعجز السلطات عن توفير الحماية للسكان في غياب الملاجئ والمنظومات المعترضة للقذائف الصاروخية. وتساءلت مقدمة البرنامج الإخباري في الإذاعة العامة في محاورتها أحد المسؤولين: «ماذا كان سيحصل لو وقعت هزة أرضية أو تعرضت مواقع مختلفة في إسرائيل إلى رشقات صاروخية ... يبدو أن (الأمين العام لحزب الله السيد حسن) نصرالله لن يحتاج إلى كم كبير من الصواريخ ليقصفنا به ... تكفيه علبة كبريت واحدة». من جهته، نصح المعلق السياسي في صحيفة «يديعوت أحرونوت» رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو بالعمل على استئناف المفاوضات مع سورية «طالما لم يتم اختراع منظومة إطفاء قادرة على إخماد الحرائق في مدن إسرائيل». ووجه زميله في «هآرتس» سؤالاً إلى رئيس الحكومة: «كيف لك أن تفكر في مهاجمة ايران قبل أن تهتم بأن تكون الجبهة الداخلية محمية ومزودة وسائل لإخماد الحرائق؟». وكتب اوري مسغاف في «يديعوت أحرونوت» يقول إن الاستنتاج الأول من الحريق المندلع في «الكرمل» هو أنه يجدر بإسرائيل أن تسارع الى التوصل إلى سلام مع جيرانها «لأنها ببساطة ليست جاهزة لمواجهة الكوارث ... من المخيف مجرد التخيّل ماذا كان سيحصل هنا في حال تعرضنا إلى قصف صاروخي شامل». وأضاف: «في أعقاب الفشل في إخماد الحرائق، يبدو أن التكتيك الأنجع لهزم إسرائيل قد يعتمد بالذات على إغراقها برؤوس متفجرة تستهدف مناطق محرّشة (غابات)». وتساءل الكاتب: «كيف لدولة اعتبرت في القرن الماضي أعجوبة اقتصادية ومدنية ونموذجاً يحتذى في المبادرة والازدهار، لم تُقِم حتى اليوم منظومة لتحلية المياه ولم تنجح في الحفاظ على إحدى عجائب الدنيا، البحر الميت، ولا تستطيع حتى إقامة مترو في تل أبيب». وزاد أن مرد هذا الفشل والشلل المدني «هو عبادة الأمن، فموازنات الأمن تتعاظم مع مرور السنوات على رغم أنه منذ اتفاقات السلام مع مصر والأردن، تقلصت الجبهات العسكرية لإسرائيل». وأردف ان العزاء الوحيد هو في تعاطف دول العالم مع إسرائيل وتقديمها المساعدة لها «ما يثبت أنه ليس كل العالم يكرهنا ويريد القضاء علينا». وزاد انه ينبغي على إسرائيل الانسحاب من الأراضي المحتلة والتوصل إلى سلام شامل وإحداث ثورة في سلم أولوياتها: «اولاً طائرات إخماد حرائق ومنشآت تحلية مياه، ثم الطائرات الحربية المتطورة والغواصات النووية». وختم أن نتانياهو ووزير دفاعه ايهود باراك يريدان من العالم انتهاج سياسة «ايران أولاً ثم السلام»، لكن على مواطني الدولة أن يقترحوا عليهما صفقة «إسرائيل أولاً وايران بعد ذلك». واتفق مع الكاتب المحلل السياسي في الصحيفة شمعون شيفر، مضيفاً أن السلام مع الفلسطينيين وسورية والدول المعتدلة هو الكفيل بإخماد الحريق الأكبر الذي قد يؤذي مواطني إسرائيل. وأضاف: «عندما يسقط الصاروخ الأول فوق رؤوس مواطني إسرائيل، سواء من الشمال (لبنان وسورية) أو من الجنوب (قطاع غزة)، أو من قريب أو بعيد (ايران)، لن يستطيع نتانياهو والمستوى السياسي الاعتماد على زعماء اليونان وقبرص وروسيا». ورأت المعلقة سيما كدمون أن الشيء الايجابي الوحيد من الحريق هو الاستنتاج بأن إسرائيل لا تستطيع أن تعزل نفسها عن العالم، «حتى نتانياهو أدرك ذلك». وانتقد المعلق في الشؤون الأمنية في صحيفة «هآرتس» أمير اورن السماح لطياري طائرة إخماد الحرائق الروسية الضخمة «إليوشن 76» التقاط صور للقاعدة العسكرية الضخمة في سفوح جبل الكرمل «حيث طائرات إف 15 ومروحيات عسكرية إسرائيلية وغيرها من الوحدات»، معتبراً الأمر ضرراً أمنياً فادحاً. وأضاف: «الكشف عن موطن ضعف استراتيجي قد يشجع ليس فقط موجة إشعال حرائق معادية لأفراد أو جهات، إنما أيضاً قصفاً لهذه القاعدة أثناء حرب، سواء من طائرات حربية أو أدوات طيران بلا طيار». نتانياهو «يحمي نفسه» من لجنة تحقيق إلى ذلك، اعتبرت وسائل الإعلام العبرية إلغاء نتانياهو جدول أعماله والتفرغ تماماً لمتابعة الحريق وقضاءه ثلاثة أيام في منطقة حيفا «خطوة ذكية» يريد منها استباق إمكان اتهامه شخصياً بالتقصير، وسط مطالبات بتشكيل لجنة تحقيق رسمية للتوصل إلى المسؤولين عن الفشل في إخماد الحريق مع اندلاعه، وفي مقدمهم وزير الداخلية زعيم حزب «شاس» الديني ايلي يشاي. ودحرجت أوساط نتانياهو المسؤولية إلى عتبة قائد هيئة الإطفاء بداعي أن مدير مكتب رئيس الحكومة ابلغ الأخير قبل أكثر من عام قرار نتانياهو تخصيص موازنات لشراء طائرات إخماد الحرائق، لكن قائد الهيئة لم يحرك ساكناً. وأعلن نتانياهو في مستهل جلسة الحكومة الأسبوعية التي عقدها في بلدة طيرات هكرمل القريبة من موقع الحريق أن الحكومة تخصص مبلغاً أولياً بقيمة 15 مليون دولار لمساعدة منكوبي الحريق وإعادة إعمار البنى التحتية المتضررة، كما أعلن ان هناك ضرورة لتأسيس نظام محمول جواً لإخماد الحرائق في البلاد، مشيراً إلى أن إسرائيل ليست الدولة الوحيدة التي تستعين بمساعدات من الخارج لإخماد حرائق هائلة. وأصدر نتانياهو لاحقاً تعليماته بوقف وصول طائرات إطفاء أخرى من أنحاء العالم بعد أن تبلَّغَ من سلاح الجو الإسرائيلي أنه تمت السيطرة على النيران، خصوصاً بعد وصول الطائرة الأميركية الضخمة «سوبر تانكر» التي قذفت في كل طلعة لها 80 طناً من الماء و40 طناً من المواد الكيماوية لإخماد الحرائق. وأشار قائد سلاح الجو إلى أن 35 طائرة عملت في الأيام الماضية على إخماد الحريق، منها 24 طائرة أجنبية نفذت مجتمعةً أكثر من 400 طلعة. وطالبت «الحركة من أجل جودة الحكم» نتانياهو بإقالة وزير الداخلية على خلفية التقصير في إخماد الحرائق. وقالت إن «القصور المستمر منذ فترة طويلة هو الذي أدى الى وقوع تقصير خطير» بسبب العتاد القديم الموجود لدى هيئة الإطفاء والنقص في القوى البشرية، بالإضافة إلى المشاكل التنظيمية وعدم تخصيص الموازنات. فرصة لصفحة جديدة مع تركيا من جهة اخرى، ذكرت صحيفة «هآرتس» أن نتانياهو قرر في أعقاب المساعدة التي قدمتها تركيا بإرسال طائرتين لإخماد الحرائق، المبادرة لتسوية الخلاف مع تركيا المتأجج منذ الاعتراض الإسرائيلي الدموي لقافلة السفن التركية المتضامنة مع قطاع غزة قبل نصف عام. وأفادت ان نتانياهو طلب من مندوب إسرائيل في لجنة التحقيق الأممية في أحداث قافلة السفن يوسف تشحنوفر لقاء وكيل وزارة الخارجية التركية في جنيف في محاولة لإيجاد صيغة لحل الأزمة. لكن ديبلوماسياً إسرائيلياً أبلغ الصحيفة إصرار تركيا على تقديم اعتذار إسرائيلي لها على قتل 10 من مواطنيها كانوا على متن إحدى السفن وتعويض عائلاتهم. وبحسب الديبلوماسي، فإن اتصالات تمت في الأسابيع الأخيرة بين ديبلوماسيين إسرائيليين وأتراك لايجاد حل للأزمة. وكان نتانياهو استثنى خلال اتصالاته بعدد من قادة الدول الخميس الماضي طالباً منهم إرسال طائرات إخماد حرائق لإسرائيل، رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان، لكن مستشاره لشؤون الأمن القومي عوزي أراد توجه لنظيره الألماني بأن يتوجه إلى الحكومة التركية بطلب تقديم المساعدة لإسرائيل. وأضافت الصحيفة أنه خلال وقت قصير أجرى وكيل وزارة الخارجية التركي الذي شغل في السابق منصب سفير تركيا في إسرائيل، اتصالاً مع أراد ليبلغه استعداد تركيا تقديم الدعم الفوري لإسرائيل. وتابعت أن أردوغان أعطى موافقته بلا تردد على اقتراح وكيل وزارة الخارجية. وزادت أن الوزارات التركية المختلفة أجرت اتصالات مع السفارة الإسرائيلية في أنقرة وعرضت عليها مساعدات مختلفة. تمديد اعتقال قاصريْن في غضون ذلك، مددت محكمة في حيفا اعتقال قاصرين (14 و16 سنة) من قرية عسفيا العربية بشبهة تسببهما في الحريق خلال تدخين النرجيلة وقذف جمرات النار في مكب صغير للنفايات. ونفى والد اليافعين التهمة، وقال إن الشرطة تحاول تلفيق ملف جنائي ضد ولدية للتغطية على فشل السلطات في إخماد الحريق. وأضاف ان الشرطة اختطفت ولديه من سريريهما كأنهما إرهابيان. وشكا أهالي القرية، وغالبيتهم من الدروز الذين خدموا في الجيش الإسرائيلي وأذرع الأمن الأخرى، من التمييز ضد القرية في تلقي المساعدة من هيئة الإطفاء فيما أحياؤها كانت تحترق. وقال بعض السكان إن هيئة الإطفاء أعطت الأولوية للبلدات اليهودية المجاورة وفضلتها على عسفيا التي وصلتها سيارات الإطفاء بعد ساعتين من استدعائها، ما اضطر الأهالي إلى القيام بعمليات إخماد الحريق من دون أن تتوافر الوسائل الملائمة لذلك. ورفض الأهالي دمغ كل القرية والطائفة الدرزية بالمسؤولية عن الحريق على خلفية اعتقال القاصرين، علماً أن النائب الدرزي أيوب القرا من قرية دالية الكرمل المجاورة المنتمي إلى الجناح المتطرف في حزب «ليكود»، كان أول من أثار الشكوك بأن وراء الحريق «أيادي تخريبية على خلفية قومية». وأمس لحس القرا اقواله، معتبراً اليافعيْن ساذجين لم يقصدا إشعال حريق. ومع إخماد الحريق، حصت إسرائيل 41 قتيلاً وإحراق عشرات المنازل و50 مليون متر مربع (نحو 40 في المئة من مساحة جبل الكرمل) و5 ملايين شجرة. وتم إخلاء عشرة بلدات وأحياء يهودية وعربية وإجلاء 14 ألف مواطن. وقدرت الخسائر ببلايين الدولارات.