مع مطلع كل عام تنهال علينا من كل حدب وصوب آلاف التحليلات والمقالات والتكهنات والتوقعات حول العام الجديد وأحداثه المرتقبة ومدى ارتباطها بالعام المنصرم والأعوام السابقة. منها ما هو مبني على دراسة وتحليل ووقائع وبعضها الآخر من نسج الخيال. وفي الوقت نفسه يعكف المنجمون والعرافون على عرض تنبؤاتهم التي سيدعون لاحقاً انها تحققت لأنهم لا يتركون فرصة للخطأ مثل توقع اضطرابات في بلد ما، وكوارث طبيعية في بلد آخر، وأحداث دامية في بلد عربي أو اسلامي، ووفاة شخصية مهمة أو شخصيتين، ومرض شخصية أخرى، ومصاعب اقتصادية في بلدان عدة. وفي الشرق الأوسط لا بد من توقع مواجهات وتصعيد ومناورات من الجانب الاسرائيلي المتعنت أصلاً وأزمة سياسية في اسرائيل قد تسقط حكومة بنيامين نتانياهو، وازدياد معاناة الشعب الفلسطيني وتجدد المتاعب التي تواجه السلطة الوطنية الفلسطينية. وفي الخليج، وكالعادة يتوقع تجدد الأزمات بين مجلس الأمن والعراق، وحدوث تصعيد خطير قد يصل الى حد المجابهة العسكرية وازدياد معاناة الشعب العراقي، والكشف عن محاولات عدة لقلب نظام الحكم، وهروب عدد من الضباط والشخصيات المهمة، وتجدد الصراع الدامي بين الأكراد في شمال العراق، وتجاوز أزمات بين دول الخليج، وفي داخل بعضها. وبالطبع فإن أصحاب التكهنات والتوقعات والتنبؤات لم يتركوا أية فرصة للخطأ، ذلك ان هذا الكلام يمكن ان نردده مطلع كل عام مع بعض التعديلات في الأسماء والأشخاص والأشهر. ولكن الذي ينقصنا هو وضع تصور مدروس لنظرة مستقبلية الى واقعنا العربي تشارك فيه نخبة من العلماء والمفكرين العرب حتى يتسنى لأصحاب القرار تحديد مواقفهم لفترة زمنية طويلة مقبلة، وتوقع معظم الأحداث والتطورات على المدى الطويل حى يشكل مفعول عنصر المفاجأة ويتخذ القرار المناسب في الوقت المناسب. وحسب ما نعرفه جميعاً فإن دول الغرب والولاياتالمتحدة بالذات تعتمد على هذه الدراسات بصورة رئيسية، اذ تكلف معاهد الدراسات الرئيسية المشهود لها بالكفاءة والصدقية بوضع دراسة تفصيلية لصورة العالم ومصالح الولاياتالمتحدة في كل منطقة من المناطق بالتفصيل، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً مرفقة بالتوقعات والمشاكل والحلول وكل الاحتمالات الواردة حتى يتم تضييق نسبة الخطأ بشكل كبير. وفي ضوء هذه الدراسات الموثقة بالأرقام والاحصاءات وشهادات اهل الرأي والخبرة وتقارير اجهزة المخابرات ومؤسسات قياس الرأي العام يتم وضع سياسة الولاياتالمتحدة المستقبلية لعقد كامل بغض النظر عن الحزب أو الرئيس الحاكم في البيت الأبيض، ومهما كانت شخصية المسؤول الأول في وزارة الخارجية أو وزارة الدفاع أو غيرها فالسياسة هي سياسة دولة لا سياسة سلطة وحكومة وحزب، والاستراتيجية تتعلق بمصالح الدولة وأهدافها ولا يمكن أي مسؤول ان يعرضها للخطر مهما كانت مواقفه وسياساته. فالسياسة عامة والاستراتيجية محسومة، والفرق بين الادارات يتركز على التكتيك لا على الاستراتيجية، وعلى الأسلوب وليس على الأمور الأساسية، وعلى الشكل لا على الجوهر. لهذا لاحظنا على مدى السنين ان سياسة الدول الكبرى لم تتغير مع تبادل الأدوار وتناوب الأحزاب على السلطة خصوصاً بالنسبة للاستراتيجية والقضايا الرئيسية المحسومة. ومن يتابع هذا الأمر يجد ان مواقف الولاياتالمتحدة من القضايا الرئيسية ثابتة لم تتغير سواء كان سيد البيض الأبيض ديموقراطياً أو جمهورياً. كما لاحظنا الأمر نفسه عند فوز حزب العمال في بريطانيا بعد أكثر من 17 سنة من حكم المحافظين، اذ لم تشهد البلاد أي تغيير جذري خصوصاً في السياسة الخارجية. وهو أمر نفسه متبع في فرنسا في عهد شيراك، أو في عهد ميتران، وفي عهد حكم الديغوليين الكامل ثم في عهد تقاسمهم الحكم مع الاشتراكيين هذه الأيام. بل ان روسيا نفسها لم تبدل في استراتيجيتها العامة وأهدافها البعيدة المدى في عهد بوريس يلتسن، وبعد أكثر من 70 سنة من الحكم الشيوعي المتشدد. من هنا تكمن أهمية الدعوة لوضع حد للتسيب العربي والفوضى السياسية وغياب الاستراتيجيات الواضحة، والعمل على صياغة موقف عربي موحد واستراتيجية مشتركة تحدد الأولويات وترسم الخطوط العامة للمواقف والسياسات من القضايا الرئيسية التي تمثل خطوطاً حمراً ولا يجوز تجاوزها أو الخروج عنها الا في حالات الضرورة القصوى أو حدوث مفاجآت لم يكن في الامكان توقع حدوثها. فقد ان الأوان لأن نحدد نحن العرب، نظرتنا المستقبلية بالنسبة الى المصالح القومية والأهداف الرئيسية والقضايا العامة التي لا يجوز التلاعب بها. فقد أصابت الأمة حال فقدان وزن وتوازن نتيجة للمفاجآت والفواجع والصفقات والانتقال السريع من موقع الى موقع ومن موقف الى موقف من دون دراسة ولا تخطيط ولا تنسيق بين أبناء الأمة الواحدة والقضايا المشتركة. وهذا ما يظهر جلياً بالنسبة الى مسيرة السلام خصوصاً على المسار الفلسطيني - الاسرائيلي حينما تمكن الاسرائيليون من الاستفراد بالفلسطينيين والتلاعب بكل بند من بنود اتفاقهم "الأوسلوي" الغامض. ومن هنا جاءت أهمية الطرح الذي قدمه الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز عبر سلسلة من المقالات في "الحياة" خلال العام المنصرم توجها بسؤال أثار ضجة وردود فعل: "هل من أمل؟". ولا شك ان الأمل موجود، والايمان عامر في القلوب، فالمؤمن لا ييأس، ولكن على العرب الخروج من مرحلة رد الفعل الى مرحلة الفعل، ومن التخبط والمفاجآت الى التخطيط وحصر التوقعات والاعتماد على العلم في التحليل والاحصاء والدراسات حتى يلحقوا بالركب ويضعوا مصالحهم فوق كل اعتبار ويعتمدوا على الواقعية والموضوعية والعقلانية، فالتحليل المنطقي والواقعي يمكن ان يشكل بداية مشجعة لوضع الاستراتيجية العربية وبالتالي الاجابة عن السؤال "هل من أمل"؟ وأكبر دليل على ذلك انني عدت الى محاضرة للأمير خالد بعنوان "حرب الخليج والمستقبل"، ألقاها في 6 تشرين الأول اكتوبر 1993 في مركز القوات المسلحة للدراسات الدفاعية في لندن فوجدت فيها نظرة مستقبلية كأنها تتحدث عن الواقع في المنطقة كما هو اليوم، أو ربما كما سيكون عليه في الغد. فبعد تحليل حرب الخليج وأبعادها وذيولها وانعكاساتها حدد الأمير خالد النظرة الى المستقبل، بادئاً بالتغييرات السلبية لحرب الخليج "اذ ان انتهاك صدام حسين ما يسمى بأحد الأعراف العربية غير المكتوبة، واعتداءه الوحشي على دولة عربية، حطم الروابط العربية الأساسية، أخشى ان يستغرق اصلاحها وقتاً طويلاً". ثم يشير الى الأزمة العربية - الاسرائيلية، والتطرف الديني "اليهودي أو المسيحي أو الاسلامي"، وأزمة المياه، فضلاً عن "مشكلتي" العراق وايران. وتطرق الى "الاحتواء المزدوج" لايران والعراق، مؤكداً عدم اتفاقه مع هذا الاتجاه "لأنني أفضل سياسة اعادة هذين البلدين الغنيين بحضارتهما ومشاركتهما القيمة الى حظيرة المجتمع الدولي". وبعدما اشار الى ان "خطر"" صدام حسين لم يعد يشكل التهديد نفسه الذي شكله عام 90 - 1991، مستبعداً نشوب حرب اخرى مثل التي حدثت، نبّه الى ان صدام لا تزال لديه القدرة على إحداث الضرر بالآخرين وشن الحرب بصورة ما ضد جيرانه. ويطرح الامير خالد لأمن الخليج وصفة تبدأ بأن تبني كل دولة من دول الخليج قوتها الدفاعية، طبقاً لقدراتها، ثم تطور قدراتها الدفاعية المشتركة وتحسنها. ويمكن تحقيق ذلك "بالتنسيق الوثيق والتخطيط المركزي لجعل قوات "درع الجزيرة" التابعة لمجلس التعاون الخليجي قوة يحسب لها ألف حساب". ويقترح ايضاً ان تعزز دول مجلس التعاون الخليجي قدراتها الدفاعية بالدخول في ترتيبات دفاعية مع دول عربية ودول مجاورة اخرى، وتحديداً مصر وسورية وتركيا والباكستان. وبالطببع لاينسى مشاركة الدول الصديقة في الترتيبات الدفاعية، ومنها على وجه الخصوص بريطانياوفرنساوالولاياتالمتحدة. وعلى رغم اعترافه بأن ما انجز في حرب الخليج "ما أمكن انجازه من دون الصداقة الغربية"، إلا أنه دعا الى ادراك "حدود ما يمكن الدول الصديقة ان تقوم به من اجلنا" والى ملاحظة ان الدرع الدفاعي الغربي "يخضع الآن لعملية تفكيك واضعاف". ويستخلص أن "من الخطأ الجسيم ان نترك امننا في ايدي الآخرين، مهما كانوا أصدقاء، أو موالين لنا، ويجب ان نعتمد على انفسنا ونفعل المزيد من اجل امتنا". هذه النظرة المستقبلية يمكن ان تشكل لبنة من لبنات الاستراتيجية المستقبلية اخترتها اليوم في ضوء ما ينشر من توقعات وتكهنات لعلها تجيب على السؤال الأساسي المطروح وهو: هل من أمل؟