لعله من الطبيعي أن يتساءل المرء اليوم عن واقع المسرح الروسي بعد الانكسارات العنيفة التي ألمت بالنظام الشيوعي وأدت إلى تغيير بعيد المدى والدلالات والآثار في حياة روسيا والعالم أيضاً. إن وسائل الاعلام والمقالات والكتب أضاءت وتضيء جزءاً مهماً من المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن حركة الفساد والجريمة المنظمة في أجهزة السلطة ودوائر الأمن، ولكن لا توفر سوى نتفٍ أو أخبار متفرقة عن واقع الحياة الثقافية، ولا سيما المسرح في روسيا. وسعياً إلى سد شيء من هذا النقص، نحاول أن نقارب - بكثير من الايجاز - بعض اشكاليات الدراما والعرض والممثل والنص... في المسرح الروسي خلال السنوات الأخيرة، منذ البيريسترويكا إلى اليوم. يرى الناقد ليونيد بوبوف ان النصوص المسرحية اليوم لا تثير اهتمام المسارح بقدر ما تبعث فيها الغيظ برغبتها الملحة في أن تعجب الآخرين. ولبلوغ هذه الغاية تستعيض النصوص عن المشاعر الحقيقية بوقائع الزواج المحسوب من دون أمل في التجاوب يوماً. إن خشبة العرض - حسب كلام بوبوف - لم تتمكن من أن تصبح وطناً للنصوص المسرحية، الأمر الذي دفع بالدراما إلى الانسحاب من المسرح إلى الأدب. ولا يغفل الناقد عن كون النصوص المسرحية الجادة، أي تلك التي تفتح آفاقاً للاخراج، لا تحظى بالاقبال، إذ يفضل المخرجون اليوم نصوصاً أقل امتلاء بالمضمون تتحلى بالابهار والهبل والشذوذ. فهناك مسرحيات جديرة بالقراءة والتمثيل معاً، وأخرى جديرة بالقراءة أو بالتمثيل، ومثلما يعرف تاريخ المسرح العالمي نصوصاً تستحق أن تُقرأ وتمثّل، يعرف أيضاً نصوصاً لا تستحق القراءة ولا التمثيل. ظاهرة التجديد و"العبث" "مسرح ستانيسلافسكي" ميدان مفتوح للتجريب، للظواهر غير العادية، يسمح لأصحاب المواهب ولمن "يغنّي خارج السرب" بأن يجد نفسه ويقدم ما عنده. إنه مسرح يتسع لتجارب الجميع فليقبلهم الجمهور أو يرفضهم، كل حسب ذوقه. فبعد تنفيذ مشاريعهم الابداعية يبقى هؤلاء غرباء منعزلين، أمثال أناتولي فاسيليف الذي أعطي فرصة لإخراج مكسيم غوركي، الصيغة الأولى من "فاسا جيليزنوفا" وبوريس موروزوف الذي اخرج مسرحية "سيرانو دي بيرجيراك" حيث قدم شخصية غير عادية أساساً، تتعذب جرّاء استثنائيتها المفعمة بمزيج من التناقضات والتطرف يمزق روحها. إن سيرانو يفتقر إلى أدنى درجات الحب والتقدير، حتى يبدو كأنه وسيط في العلاقة المعقدة التي تنشأ بينه وبين روكسانا والشخص الثالث كريستيان الذي تثقل عليه تابعيته لعبقرية سيرانو، فيشعر أنه وقع في فخ، كمن أصبح، رغماً عنه، "لصاً" أو "رسولاً" بين الزوجين. وكما يتعذر انفراط عقد هؤلاء الثلاثة المتأزمين يتعذر عليهم البقاء معاً أيضاً. ثمة عجز كامل عن التعبير عن الذات بالشكل المناسب. كل من هؤلاء الأبطال يعيش دراماه الخاصة. إن الاهتمام بكل شخصية هو ما خلق جمالية العرض الذي تفادى المشاهد الثانوية. وهذا ما جعله ينطوي على تفرد لا يضاهى، يبدو بسيطاً ومتقشفاً إلى حد الزهد من حيث الظاهر. أواخر الثمانينات كان التهالك كبيراً على مسرح "العبث" الذي ظل ممنوعاً ردحاً طويلاً من الزمن، فقدمت في "مسرح ستانيسلافسكي" عروض تميزت بطاقتها التمثيلية وبنائها المبتكر بعيداً عن القواعد التقليدية، لا سيما مسرحية يوجين يونيسكو "الكراسي". تقول الناقدة يكاتيرينا سالنيكوفا إنه أتيح الجمع بين عنصر شديد الكوميدية هو احساس مرهف بالمضحك، واحساس بالرعب يتولد عن رؤية الوعي البشري وهو ينهار. ولم يتحول الممثلون إلى عجائز وهرمين يجسدون قسوة نهاية الوجود البشري، بل ظلوا محبوبين، نابضين بالحياة، بالغي النشاط، لا يفكرون بالموت... لقد خلقوا "واقعاً ثانياً" بين بشر كثيرين وعاشوا جميع النزاعات مع أبطال غيبيين كأنهم ضروريون وشيء جوهري. وأخرج ديمتري بروسينكين مسرحية يان غلوفاتسكي "فورتنبراس مات سكراً"، فكانت نوعاً من العبث الكلاسيكي قلبت وقائع شكسبير رأساً على عقب. ولعل العرض في جوهره لم يتجلَّ في الاخراج قدر ما تجلى في تمثيل رومان كوزاك في دور فورتنبراس ليجعل منه نموذجاً عبثياً بقدر ما هو تقليدي مطلق. لقد جسد في نفسه شحاذاً عبثياً عادياً وشخصية هاملت من دون دور البطل الرئيسي، فكان ملزماً بمعاناة جميع مصائب العالم وباستيعابها. وظل عاجزاً عن التخلص من الاحساس بالتنافر المرعب الذي لا فكاك منه. وفي "مسرح ستانيسلافسكي" أيضاً استطاع الممثل بيوتر مامونوف، عبر مسرحيتي "الأسمر الاصلع" و"ليس لدى الكولونيل من يراسله" أن يجعل الخشبة جزءاً من العالم اليومي - حياة الغرفة - إذ كان على الخشبة شبيهاً بوحش من عهود ما قبل التاريخ، تنضح حركاته والتفاتاته بالرعب ليظهر لنا إنساناً لا صلة له بالعالم البشري، لا يشبهه أحد ولا يفهمه أحد، مليئاً بعزلة كونية وغريباً كلياً. كان المخرج الرئيسي فيتالي لانسكوي كمن لا يهمه نهائياً أن يحافظ على الوحدة الجمالية المعهودة في المسرح، كأنها نابعة أصلاً من التجريب الدائم للجديد - كما يفهمه - وسعي لاستخدام مختلف الامكانات بغية تطوير اللغة المسرحية. فليس من باب المصادفة أن يقوم فلاديمير ميرزويف، أحد أكثر الطليعيين اشكالية، باخراج مثير لمسرحيتي غوغل "الزواج" و"خليستاكوف" من مسرحية "المفتش العام" وشارك فيهما فضلاً عن ممثلي "مسرح ستانيسلافسكي" ممثلون من مسرح "يفغيني فاختانغوف". وبقي "مسرح ستانيسلافسكي" ميداناً للتيارات الطبيعية والتقليدية التي تستمر حتى الآن بالتعايش على خشبته. وهذه الميزة ظاهرة في قول الناقدة لوبوف ليبيديفا: "نحن الذين أُتخمنا بالمجاز والتلميح خلال سنوات طويلة من المواجهة بين المسرح والسلطة ننظر إلى أقل تلميح سياسي على أنه من مخلفات الماضي، ولكن ذلك ليس سوى نقص في تطورنا وتاريخنا لن يستطيع أحد فهمه". فبعد حضورها عروضاً في مسرح شكسبير الملكي في لندن تمجد ليبيديفا التيار المحافظ، بهذا المعنى، وتعلن: "ان المحافظة العاقلة ليست بالشيء الرديء". إن المسرح الروسي، وهو يتخطى المشاكل الايديولوجية اليوم ويستعيد جوهر الفن، يدرك الأهمية الكبيرة لتلك القمم المسرحية التي تجمع كل عام مختلف الأساليب والاتجاهات لتؤلف علم أساطير الفن بصفته علمها الخاص. وبرهاناً على خروج المسرح الروسي من أسر الثوابت تثني ليبيديفا على الممثلين الانكليز لمقدرتهم على ايجاد انفسهم في المناجاة، وذلك خلافاً لزملائهم الروس الذين فقدوا هذه المقدرة. وجه آخر للمسرح إذا تغاضينا عن مسارح العروض الكلاسيكية وانتقلنا إلى الضفة الأخرى، حيث مسارح الجديد والانفتاح والحرية... أي، ربما، تقليد الصرعات الغربية القديمة، البائرة الآن، أو التي يستدعي الحديث عنها، كمسارح، كثيراً من التحفظ، أمكننا التطرق إلى مسرحية "فرناندو" للكاتب الايطالي انيبالي روتشيلو 1957 - 1986 التي أخرجها رومان فيكتيوك وعرضت في موسكو وبطرسبورغ بداية 1996. يفتتح أحد الممثلين الخمسة ثلاث نساء ورجلان العرض بإلقاء مهيب، كما في الجوقة الاغريقية القديمة، فيقول: "الحب هو الطريق الوحيد لاكتشاف الإنسان الأول في كل إنسان. ففي الحب، وفيه حصراً، يكمن قدر الإنسان ومصيره"... غير أن العرض بمجمله ليس سوى تصور للعلاقات الجنسية. فالمرأتان - الشابة والمسنة، وكذلك القس اللوطي - يعيشون هاجساً وحيداً هو هاجس الجنس. ولا أهمية درامية لكون الهدف هو الحصول على ثروة دوتا كلوتيلدا... ان العرض، في نظرنا، لا يتوافر على عنصر الكوميديا أو الدراما إذا استبعدنا الجموح الجنسي الذي يحجب كل شيء ويدفع بالشخصيات إلى الاستهتار في سبيل نيل الجسد فقط كمطلب وحيد. أما التفاصيل التي تظهر وتنطق على الخشبة فهي أكثر افصاحاً عما لا يليق ذكره هنا... وأخيراً، يتساءل المشاهد: أين الحب والكشف والتطهير كاثارسيس الذي ننتظره من العرض المسرحي؟ يمكن ان نسوق مثالاً آخر هو مسرح الكسندر ديميدوف المتفرع عن جماعة "نيو آرت" أيام البيريسترويكا، بوصفه مسرح المتعة والتعري. كان ديميدوف، الذي توفي مبكراً، أول من تجرأ على تقديم الجسد عارياً في المسرح الروسي بعدما جمع حوله زمرة من أخلص المتعصبين لأفكاره الداعية إلى "تحرير الوعي المغلول بالممنوعات الايديولوجية في المجتمع". فممثلو هذا المسرح يخلعون ثيابهم ويتعرون تماماً على الخشبة أمام الجمهور دونما حرج، ثم يفسرون سلوكهم هذا بأنهم يريدون تعليم الجمهور "المجمد" أبجدية العلاقات الجسدية من خلال أمثلة عيانية تطبيقية تجلو أمام "الجيل المحروم أسرار لعبة الحب وجنون اللذة". ومع تغلغل عروض المتعة هذه في حياة من يسمُّون الآن "الروس الجدد" اضطرت فرقة ديميدوف هذه إلى الدخول في منافسة جدية مع جماعة الستربتيز "تعري الهواة" التي تتكاثر بسرعة فائقة. وتحاول مطبوعة "ميغابوليس اكسبريس" الأسبوعية وصف هذه المنافسة بأنها صراع بين المتعة في مسرح ديميدوف والشهوانية لدى فرق التعري التي "غلبت عليها النكتة البذيئة بدلاً من فلسفة الجسد، وأحالت جمالية ذلك المسرح إلى مسابقات لملكات الجمال...". وللحفاظ على ما تسميه هذه الأسبوعية ب "قيم ديميدوف" قامت أحب ممثلات الفرقة إلى قلب مؤسسها وهي ألينا تشوباروفا ب "تطوير تقاليده والاكثار منها"، فلعبت الدور الرئيسي في جميع مسرحيات الفرقة بلا استثناء. وقدمت الفرقة قصة الكاتب الروسي غارشن "الزهرة الحمراء" تحت عنوان "الأسير" بعدما أضفت عليها "طابعاً ذهنياً يعتمد على بول فاليري حول وعي الذات بوصفه معركة ممضة لا تنتهي بين العقل البشري وما يتولد عنه نفسه من خيالات عجيبة". وفي هذا العرض تقدم تشوباروفا "تخييلاً عجيباً لا يظهر فيه مبدأ المتعة الجسدية على نحو استعراضي، بل يتكهرب جو الحدث تدريجاً من مشهد إلى مشهد حتى يصل بالمتفرج إلى أقصى حدود التوتر". أنواع المسارح - شهادات احتفل المخرج يوري لوبيموف في أيلول سبتمبر الماضي بعيد ميلاده الثمانين. اشتهر لوبيموف بالدور البارز الذي لعبه "مسرح تاغانكا" تحت قيادته في الحياة الفنية والاجتماعية السوفياتية عقوداً من الزمن، مثلما اشتهر بطبيعته الصدامية ومجابهاته مع السلطة السوفياتية سابقاً. كما يسجل تاريخ المسرح الروسي له دوره المميز في إقامة جسر بين المسرح الشرطي الذي تابع تطوره حتى بداية التصفيات الستالينية في النصف الثاني من الثلاثينات، والمسرح الجديد الذي أعقب انتهاء المرحلة الستالينية في الخمسينات. على أن لوبيموف الذي يمثل الابتكار والتجديد بين الجيل الأقدم من الأحياء الآن لا ينظر بعين الرضا إلى كل ما يتستر تحت لافتة الحداثة والتجديد في هذه المرحلة. ودلل على ذلك بإصراره على الانشغال بتقديم دوستويفسكي في مسرحه وبردّه على استغراب الممثلين الشباب رداً صارماً فحواه ان "الزبد يذهب جفاء". ولكن، مع احترامنا لتجربة لوبيموف القيّمة، يظل من الانصاف التوجه إلى الجيل الأكثر فتوة بين المخرجين لسماع آرائهم بمسيرة المسرح الروسي في الوقت الراهن. فاز المخرج الروسي فاليري فوكين بجائزة مهرجان المسرح العالمي في أفينيون عن مسرحية "غرفة في فندق بمدينة N.N". عروض في الخارج. وهوذا يقول: "إننا نعيش مرحلة غريبة، زمن خديعة كبيرة اختلطت فيه الأشياء كلها". ويفسر الزيادة الملحوظة في عدد رواد المسارح عما قبل ثلاث سنوات بتراجع الاهتمام الشامل بالسياسة، مشيراً إلى وجود ثلاثة أنواع من المسارح في روسيا اليوم: 1- مسرح تجاري فلسفي يقدم دستويفسكي بطرق مبتذلة وعاطفية، 2- مسرح للترويح المحض يقوم على التهريج والاثارة والاضحاك بأي شكل، 3- مسرح جاد يقصده من يرغب بمشاهدة شيء ذي أهمية، وهؤلاء قلة، لأن قاعات العرض هنا، في هذا النوع من المسارح، ضيقة، فيما المهام الفنية كبيرة. وإذا كان المخرج المسرحي يعاني اليوم لأن نجاح عمله يقاس بعدد جمهوره، فإن الخطورة تتأتى من أنه يصبح محكوماً بالبحث عن ارضاء الجمهور أولاً. الجمهور ومن الواضح ان جمهور المسرح تغير الآن نحو الأسوأ في فهمه وتذوقه وثقافته، كما هو حال "الروس الجدد"، الذين لا يعدو ارتياد المسرح في نظرهم إلا الاعتداد بالنفس ومادة للتسلية. هؤلاء، في رأي فوكين، يجهلون المسرح والموسيقى والفنون التشيكلية والسينما، فيرتادون مسرح "الكومسمول اللينيني" لينكوم، اختصاراً الذي يديره مارك زاخاروف منذ 1973 ثم حوله من مسرح كان منسجماً مع تسميته إلى مسرح خاص يعبر تعبيراً مطلقاً عن العصر والواقع، و"هو أكثر المسارح التزاماً بالتعبير عن الاسلوب البورجوازي الروسي الباذخ ... ولكن حتى هذه "الموضة" ستنقضي. ولا بد من الحفاظ على المسرح الجاد الذي يتبناه الآن خمسة أو ستة من المخرجين". ويقوّم فوكين عدداً من المخرجين الموهوبين الذين استسلموا للتيار وانجرفوا معه فخسروا كل شيء إلا المال. ويضرب مثلاً بالمخرج رومان فيكتيوك قائلاً إن "موضة" ارتياد عروضه ذبلت وفات أوانها، وأصبح على رغم موهبته، يراوح راكضاً في المكان، شأنه شأن مخرجين ضيعوا مواهبم، مثل تروشكين وميلغرام وجيتينكين. هؤلاء يتميز جمهورهم بالثياب الفاخرة وتصنع الاهتمامات الروحية وحب الثقافة. ليس فوكين وحده من يلح على أهمية المسرح الفني الروسي الذي كان دائماً يتصدر الاهتمامات عبر مسرحيات كبار الكتاب الروس والاجانب، ويعترض على الوهم القائل إن فيكتيوك وأضرابه يقدمون شخصيات ذات وعي مريض. ويبدد فوكين هذا الوهم قائلاً: "لا أعتقد بأن ذلك وعي مريض، بل هو تصنع المرض. فأفلام بيرغمان تتضمن كثيراً من التجليات المريضة، لكننا نستطيع فهم تلك التجليات والبرء منها بمساعدة بيرغمان نفسه، بينما يحدث لنا نقيض ذلك عند جيتينكين الذي يستعرض حالات الشذوذ النفسي بوصفها مسألة طبيعية في الحياة ويقنع المتفرج بأن ذلك بدهي وهكذا يجب أن يكون". وتظهر هذه المنزلقات الخطيرة لمن يعرف موهبة جيتينكين يوم وسبق لفوكين ان أخرج أكثر من خمسين مسرحية وقدّم بضعة قدم عروضاً ممتازة، مثل "الثلج بالقرب من السجن" أو "كاليغولا" في مسرح "مولوفا". إنه اليوم يسعى إلى الظهور في كل مكان ومستعد لاخراج أية مسرحية في غضون أسبوعين، ما دام لا يهمه إلا المال. فقد ضلله النقاد حين وصفوه قبل سنوات بأنه نابغة ومصلح مسرحي، في حين لم يكن أبطاله يكفون عن اطلاق أبشع الشتائم والبذاءات كما في مسرحية "لعبة الغميضة". هكذا تبدأ عقد النقص بالانتفاخ بعدما كف أولئك النقاد عن الالتفات إليه اليوم! ويخلص فوكين إلى القول: "أيام الرقابة كنا نقول في سريرتنا: لن أضعف، فأنا تحت المراقبة. وعليّ أن أصر وأعمل... الآن لا أحد يهتم بك، كن رقيب نفسك، ولا تنسَ ماذا تعمل ولمن، وإلا ضعت". ولعل من المفيد اجمال وجهات نظر ممثلي المسرح الجاد في قول فوكين كأنه ينطق بلسانهم: "إن الاخراج هو التعبير عن النفس، إظاهرها والكشف عما تحب وتكره في الحياة، انه لغتك الداخلية الحميمة. ومن الخطر التعامل باستهتار فتخرج تينيسي وليامز اليوم وغوغل غداً. ما من امرأة تضع طفلاً كاملاً في أربعة أشهر. إن قانون الطبيعة وقانون الفن كلاهما ملزم. والاخراج سباق مسافات طويلة يفرض عليك الاستمرار في الركض فيما الهدف نصب عينيك لا يغيب عنك لكي تصل إليه". الباليه في منتصف الخمسينات صعق العالم بأول باليه روسي بعد انقطاع دام عشرات السنين، فأسرع الغرب يتلقف الجديد في درامية العروض السوفياتية وروح الرقص وتقنيته، لا سيما رقص الرجال. ولجأ الغرب إلى استعداء الأساتذة والفنانين السوفيات وإلى تصوير العروض والتدريبات في أفلام وأشرطة فيديو حتى تمكنوا من التفوق وتجاوز الروس. ينتمي آخر نجوم الباليه في روسيا إلى الجيل الذي دخل المسرح في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات أمثال الراقصات بيسميرتنايا ومكسيموفا وسوروكينا وتيموفيفا موسكو، وكومليغا لينينغراد، وكوكبة من الراقصين الرجال: فاسيليف ولييبا ولافروفسكي وفلاديميروف موسكو، ونورييف وبارشنيكوف وصولوفيوف لينينغراد. وقد لمع هؤلاء وقت كانت ما تزال تتلألأ في حلبة البالية الروسية، ولا سيما مسرح "بولشوي" في موسكو، أشهر راقصات الجيل القديم: دودوينسكايا وستروتشكوفا ولمبيسيتسكايا وكولباكوفا وفادييغيتيش. عهدئذ قلما كانت فرق الباليه الروسية تقوم برحلات فنية إلى الخارج، وإذا سافرت عُدّ ذلك حدثاً فنياً كبيراً، لا وسيلة لحل مشاكل مالية، كما هو الواقع اليوم، حيث يشكو القائمون على هذه الباليه من صعوبات معقدة يصفونها بأنها مهينة، ويرون ان التحولات الاقتصادية والسياسية الجارية تقلب الحرية المبتغاة لتصبح "حرية بلا حدود" تضر أيما ضرر بالفن. ويصف هؤلاء حال الباليه عموماً، أي الباليه بصفتها فناً لا نزوة ومجلبة للمال وذيوع الصيت، بأنها شرعت تفقد "ملامحها الخاصة" كما تقول رئيسة تحرير مجلة "الباليه" الروسية أورالسكايا. وهي تعترف بأن المسارح الروسية تورطت بالنظام العالمي لصناعة الرحلات الفنية ولعبة البيزنس، وراحت تعرض باليه "بحيرة البجع"، مثلاً، في أي مكان من العالم وبعدد قليل من الراقصات، طمعاً بالمال لا غير. وتردى مستوى رحلات الفنانين الخاصة حتى غدوا يظهرون في الخارج أشبه بالمنبوذين الخارجين على الريبيرتوار وفرقهم الفنية. وفقاً لما يدفع من أموال وإن كان لا يمت بصلة إلى فن الباليه. وقد تسبب ذلك للفرقة والفنان معاً أكبر خسارة، لأن هدف الباليه، والمسرح بعامة، هو إعادة خلق العرض كل مرة من جديد. ذلك هو قانون ولادة معجزة المسرح، وإلا تحول العرض إلى ممارسة روتينية واجترار. وتلقي أورالسكايا الضوء على الخلل الذي أصاب دور المؤلف/ المخرج في فن الباليه الذي يجمع عادة في شخصه جملة من الأدوار الموسيقار والشاعر والكاتب الدرامي. ونتج عن ذلك ان تراجع تأثير الممثل على طبيعة الشخصية التي يمثلها. فلم يعد المخرج يطلب من الممثل ابداعاً، ويكتفي منه في كثير من الأحيان بأن ينفذ الصورة الرسم، التوجيه التي وضعها له، مما يقتل الخلق الفني. وانطلاقاً من هذه الحقيقة الفاجعة يلغي كثير من النقاد اليوم كلمة الفنانين - الراقصين لتحل محلها كلمة "المنفذ" الذي لا تتطور الشخصية في أدائه من عرض إلى عرض، فيفقد في الباليه "أناه" الخاصة المميزة. ويزداد الطين بلة عندما يجري اغفال ذات الممثل في "المدرسة" أيضاً. إذ كثيراً ما يعلن الأساتذة: "إن الذات الفردية تضايقني" أو "إذا كانت موجودة لدى الممثل، فإنها ستظهر من تلقاء ذاتها". ومع ذلك لا تزال بين الأجيال الشابة طاقات ومواهب تعد بنجاحات كبيرة. ففي غضون العام الماضي قدم مسرح "بولشوي" عرضاً لباليه "الحسناء النائمة" شاركت في أدواره الرئيسية ممثلات بارعات في مقدمهن ماربا بالاش، كما تميزت راقصات اخريات مثل ماريا فولودينا في "سيلفيدا" و"رايموندا" و"دون كيخوته" و"روميو وجوليت" و"جيزيل"، وبرز نجم ناتاليا مالانديفا التي سبق أن فازت بجائزة "ليفار" لرقص الباليه سنة 1994 في كييف. ودفعهم ذلك إلى التعامل مع جمهور يفرض أذواقه ومتطلباته.